عَنْوَنَ الشاعر علاء خالد كتابه الذي يتناول فيه سيرة وأعمال المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد بـ«سينما الهموم الشخصية»، وهو عنوان دال ولمّاح بجانب أنه يبدو وكأنه تخصيص لمصطلح «سينما المؤلف» على حالة مخرج «أرض الأحلام» (1993). المفارقة هنا أن هذا الفيلم على وجه التحديد لا يمكن تصنيفه تحت «سينما المؤلف» بما أنه من تأليف كاتب آخر غير المخرج. إلا أن داوود عبد السيد سيظل الاسم الأبرز والعلامة الفارقة في نوعية أفلام «سينما المؤلف» خلال تاريخ السينما العربية برغم أن مسيرته تحتوي على فيلم واحد من غير كتابته، وهو ما نرى فيه مسارًا جانبيًّا. غير أن السؤال هو: ألم تكن هموم «أرض الأحلام» الفنية من ضمن هموم عبد السيد الشخصية؟
يحكي الفيلم قصة نرجس، الأم التي أفنت عمرها في الزواج والتربية، وورطتَها تجاه أبنائها حتى بعد انقضاء مرحلة التربية. يطلبها الأبناء أن تسبقهم في السفر إلى أميركا أو «أرض الأحلام» الموعودة لكي يتسنّى لهم استصدار أوراقهم للهجرة، وذلك تبعًا للإجراءات اللازمة في أن يكون أحد الوالدين قد سبق له وأن زار البلاد، أميركا في هذه الحالة. وبعد لَأيٍ وتردد كبيرين من قِبل الأم في قبول طلب أبنائها بالسفر قبلهم، توافق في النهاية بدافع من تأنيب الضمير حيالهم وخوفًا من ملامتهم. تأخذ الأم في التحضير للسفر وتسير الأمور وفق المرسوم له. صحيح أن حادثًا مروريًا طفيفًا يحدث لنرجس في صباح اليوم السابق ليوم السفر، إلا أنه يمر بسلام، بل ويبدو من الطرف الثاني للحادث اللطافة والتفهّم. كل الأمور في نصابها، إذن، ولم يتبق من الوقت سوى أربع وعشرين ساعة وتسافر الأم، ومن ثم سوف يلحق بها الأبناء ويجتمع الجمع العائلي الصغير هناك في أرض الأحلام. إلا أن جواز سفر الأم -ويا لَعبث الأقدار- يضيع.
فاتن حمامة:
«سيدة الشاشة العربية» مثلما يسميها الإعلام الفني، وهي إن لم تكن الاسم الأهم في عالم الممثلات العربيات، فبالتأكيد ستكون ثانيةَ اثنتين: هي، وسعاد حسني. لقد قدمت الممثلة الكبيرة -اسمًا وسنًّا- دورًا في غاية البراعة من الناحية الفنية على صعيد تمثيلي، إلا أن هذا لم يساهم في الرفع من جودة العمل في مجمله. والنقطة هنا تكمن في سؤال أساس، وشكٍّ عابر: هل يرفع اسم النجم من العمل، أم أن للنجوم أعمالاً تختلف عن «أرض الأحلام»؟ هذا السؤال. أما التشكيك فهو في مدى مضاهاة الشخصية على الورق لوجه «سيدة الشاشة العربية» الأكثر شهرة من بين الوجوه لدى المتابع العربي!
من مكامن الكتابة الجيدة، دومًا، اختيار الأسماء. وفي اختيار السيناريست هاني فوزي لإسم نرجس معنى دالّ وساخر في آن معًا. إن الأم نرجس أبعد ما تكون عن النرجسية أو أسطورة نرسيس المتمرئي في نفسه طوال الوقت على صفحة النهر. إنها في الجهة المقابلة من ذاتية النرجسيين، في خضمٍّ من غيرية الأمومة، للدرجة التي حين تنتبه لنفسها في المرآة تستغرب أمارات الزمن في أحد مَشاهد الفيلم المفتاحية. وتظل كذلك، غيريةً تجاه أبنائها، حتى بعد انتهاء دورها الأمومي. لا تعيش إلا لهم. وما حادثة ضياع جواز السفر إلا رمزية لمّاحةً عن ضياع الذات والبحث عنها.
هاني فوزي:
مهما كانت الآراء متضاربة حول أول سيناريوهات الرجل، فإنه ما من شك في براعته الكتابية. وقد أثبت ذلك على مدى مسيرته الفنية بكتابته لأعمال مثل «بحب السيما» (2004) و«بالألوان الطبيعية» (2009)، وسواها. من المقبول أن نقول بأن في سيناريو فيلمه الأول هناتٌ لا يمكن التغافل عنها، كما من الممكن النظر إلى الأمر بوصفه عدم توافق -أو توفيق- بين الكاتب والمخرج في تعاونهما الوحيد، بالرغم من إمكانات الاثنين الكبيرة، أو -ربما- بسببها.
هذه المتشابكات والعلائق الفكرية هي من العلامات المميزة لسينما داوود عبد السيد، كما يعرف متابعوه، إلا أنها في فيلمنا هذا داخل حدود لغة أخرى، أي أن الكاتب ليس هو ذاته المخرج، مثلما اعتدنا من أعمال عبد السيد، فما مدى ملائمة اللغة للصورة، أو العكس؟ إن اختلاف اللغة في سياقنا هذا لا يُقصد به بالضرورة اللغة بذاتها -كما يكون الأمر في الرواية أو القصيدة- بمقدار ما يكون في انعكاسات اللغة على الصورة. ويتضح ذلك أكثر عبر الأدوات والتكنيكات المستخدمة. تحدثنا سلفًا -في إحدى المقالات حول داوود عبد السيد- عن صوت الراوي، الأداة الأثيرة بالنسبة إلى مُخرجنا، وهي الأداة التي استخدمها كذلك سيناريست «أرض الأحلام». إن مقارنةً سريعةً بين طريقتَيْ صوت الراوي ما بين فوزي وداوود تُبين لنا مدى الاختلاف المنعكس على الصورة، فعلى سبيل المثال، في فيلم «أرض الخوف» -وهو من كتابة المخرج نفسه- نسمع صوت الراوي وهو يسرد ويبوح ويشرح على طول الفيلم تقريبًا، إلا أن المتفرج لا ينتابه، ولا لمرة واحدة، شعور بالضجر أو استغباء الكاتب له بالشروحات، بل إن الأداة تضيف بُعدًا يغمر المتفرج بإشراكه في هموم بطل الفيلم، بالرغم من أن الأداة بذاتها قديمة وتسبب النفور في المعتاد. الأداة نفسها مُستخدَمة في «أرض الأحلام» أيضًا، إلا أن اختلاف اللغة انعكس انعكاسًا سيئًا على الصورة وتبدّى بوصفه شرحًا لا لزوم له في مرات أو، في مرات أخرى، صوتًا داخليًّا يعبّر عما يمكن الاستعاضة عنه في الفيلم بالصورة أو حركة الكاميرا، وكأننا نسترجع القول في البديهيات: إنها ليست الأدواتُ بل مستخدموها. وهذا لا يعيب في سيناريو الكاتب بقدر ما يُوضح عن خلل في التفاهم الفني بينه وبين المخرج، أو، ربما، استسهال عابر من المخرج في عدم التعديل والتدخل في النص. ليس موضوعنا هنا حول كواليس العمل، إنما حول النتيجة، وقد كانت غير مُرضية بالتمام.
يحيى الفخراني:
بمروره عبر مروحة ألوان التمثيل من مسرح ودراما تلفزيونية وسينما، وبأدوار ما بين التاريخي والمعاصر، سيكون من الصعب الكلام عن مسيرة الفخراني باختصار. أما في الحين الذي قدّم فيه دوره أمام نرجس، فقد كان أقرب إلى التلميذ في قبالة المعلّمة الكبيرة، وفق تعبيره. ما من غبار على أداء الرجل في العمل، بل لعله الذروة الأعلى فنيًّا من ناحية الكتابة والتجسيد على الشاشة. لكن أخطاء فنية جاورته في مجمل العمل جعلت من دوره، خلال مسيرته، مجرد دور من ضمن أدوار لا أكثر.
إن الطرف الثاني في الحادث المروري الذي ذكرناه -عابرين- سلفًا هو الشخصية التي تمثل ذروة التوافق الفني بين الرجلين: فوزي وعبد السيد. رسْم هذه الشخصيات العجيبة والتي تقوم مقام رمانة الميزان بين أحداث وشخصيات العمل بجانب فتحها لمدى رمزي يعمّق من العمل، هي مهارة تتفرد بها أعمال داوود، فكما شاهدنا «الشيخ حسني» في «الكيت كات» (1991)، أو «يحيى المنقباوي» في «أرض الخوف» (1999) أو «سيد مرزوق» في «البحث عن سيد مرزوق» (1990)، أو «يحيى» في «رسائل البحر» (2010)، فنحن في «أرض الأحلام» بإزاء الساحر العجيب «رؤوف حبشي». وما بين معنى الساحر بوصفه لاعب خفة ماهر ومعناه بوصفه ساحرًا مخادعًا تتأرجح رمزية رؤوف وتأثيراته في بطلتنا نرجس.
داوود عبد السيد:
آخر وأول الأسماء الكبيرة في العمل. عند التأمل في كامل مسيرته نراه في «أرض الأحلام» كمن اتخذ مسارًا جانبيًّا بغيةَ التجديد في التجربة أو التغيير. إلا أن التجربة، بعد مرور كل هذه السنوات عليها، لا تبدو مُرضيةً تمامًا كما أسلفنا القول. لو كان هذا العمل لمُخرج آخر لكان أرفعَ مكانةً، لكننا بشرٌ، من مشكلاتنا الدائمة المقارنةُ، خصوصًا مقارنةُ الفنانِ بنفسه طوال خطه الزمني. وفي المقارنة بين «أرض الأحلام» وبقية أعمال عبد السيد لن يخرج العمل بأكثر من عبارات المجاملة مثل «فيلم جيد»، «فيلم لطيف»، «لا بأس به». الأهم في كل هذا أن «أرض الأحلام» يُثبت لنا بأن داوود عبد السيد هو في المقام الأول كاتبٌ مفكّر عبر الصورة، لا كاتبَ سيناريوهات أو مخرجًا للغير. ولو وددنا شرح هذه الفكرة من خلال التشبيهات، فذلك يشبِه أن تطلب من شاعر أن يعيد صياغة قصيدة غيره. سيكون واضحًا أن خللًا ما أصاب الوزن، ليس وزن القصيدة إنما وزن الفكرة واللغة: لأن الهمَّ ليس من «همومه الشخصية».