لا تنفصل أي تجربةٍ جماليةٍ عن وظيفتها الاجتماعية، ولذلك تُعتبر السينما من الأمثلة الصريحة لتلك الصلة الحيوية، إذ لا وجود للفيلم إلا بوجود الجمهور، الذي يشاهد الأفلام ويهبها تفسيرات وتعليقات وأحيانًا مطالعات نقدية ولو انطباعية تتجاوز البعد الفني إلى رحابة المنازع الأخلاقية والفكرية، حيث يمكن لأي مشاهد أن يمتلك صوته الخاص إزاء الأفلام. وبموجب مشاهدته ووجهة نظره يبني هويته بوصفه محبًا ومُشاهدًا للأفلام السينمائية. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة طبيعة تلقي الجمهور السعودي للأفلام إثر افتتاح صالات السينما عام 2018م.
علاقة الجمهور السعودي بالسينما ليست جديدة، فقد كانت السينما موجودة في الأندية الرياضية والشركات والمنازل وما يُعرف بسينما الأحواش حتى توقفت إثر موجة الصحوة، إلا أن الأفلام كانت تُشاهد في ظل تلك اللحظة المعتمة بكثافة وتنوع في المنازل والتجمعات الشبابية عبر أشرطة الفيديو والاسطوانات المضغوطة، التي سدت فراغًا كبيرًا في الثقافة السينمائية، إلا أنها لم تتحرك بوصفها قيمة تشاركية انفعالية جماهيرية إلا لحظة افتتاح الصالات رسميًا. وعند هذا المفصل بالتحديد ظهر صندوق التذاكر بوصفه معيارًا لذائقة ووعي الجمهور السعودي، حيث بات من الواضح أن الأفلام ذات المستوى المتواضع هي التي تصمد في صالات العرض وتحقق الأرباح الخيالية، الأمر الذي يفتح السؤال عن طبيعة ذلك التلقي الذي ينتصر للرديء من الأفلام ولا يُرحّب بالنوعي منها.
الفيلم الجيد بتصور لوران جولييه هو فيلم ناجح تقنيًا، جديد ومتماسك، نتعلم منه ويحرك مشاعرنا. هذا التصور الإجرائي، والذي يُعتبر بمثابة مسطرة معيارية للفيلم الجيد في حده الأدنى، يمكن بموجبه الحكم على أفلام مثل: «مش أنا»، «شوغر دادي»، «وقفة رجالة»، «تاج»، وغيرها من الأفلام التجارية التي حصدت الملايين في صالات السينما السعودية، حيث يُشكّل البعد الترفيهي لفريق عريض من الجمهور السعودي أولوية تحت عناوين إغوائية مضللة، مرة بدعوى الأفلام العائلية وأخرى بذريعة الأفلام الشبابية، وثالثة بكذبة الأفلام الكوميدية. وهو منحى مُخلّ يمكن تقبله في السنة الأولى لافتتاح الصالات على اعتبار أن الجمهور يتدرب على ارتياد هذه الفضاءات كردة فعل مستوجبة ضد عقود من الحرمان، ولكن لا يمكن تقبله اليوم بعد سنوات من التجارب وتراكم خبرات المشاهدة.
هذا المأزق لا ينفرد به الجمهور السعودي فقط، بل هو ظاهرة عالمية تهدد الذائقة السينمائية، حيث طُرحت هذه الجدلية ضمن موضوع الذوق السينمائي والذوق الطبيعي. ولذلك ظهر مصطلح مقاومة ثقافة الفشار (البوب كورن) الذي تبناه عالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو»، وكان يعني به ذلك الصنف من المشاهدين الذين لا يعنيهم من تجربة مشاهدة الأفلام سوى التسلية والتهام أكبر قدر ممكن من الفشار، مقابل ما سماه «السينفيل» أي عاشق السينما الذي يطارد الإصدارات الفيلمية ويعلق عليها ضمن حلقة من الأصدقاء، أو في مواقع التواصل الاجتماعي، ليشكل رأيه الفني إزاء الأفلام.
تشير دراسات علم اجتماع السينما إلى أن نسبة كبيرة ممن يحبون ارتياد صالات السينما يفضلون مشاهدة الأفلام في جماعات لبناء مرجعيات مشتركة. وهذا الاندفاع الجماعي الذي يلاحَظ في صالات السينما السعودية يحمل في طياته رغبة أكيدة لدى فئة الشباب للتعبير عن خروجهم من مرحلة الطفولة والالتحاق بعالم البالغين. وعلى إثر ذلك الاحتشاد، تتولد التوصيات السينمائية كما تنشأ العلاقات الاجتماعية ذات الطابع الجيلي. وهذا هو جمهور صالات السينما السعودية على الأغلب، حيث الفضاءات الاجتماعية التي تخلق بدورها التفاعل بين الأصدقاء، كما تصنع الذوق السينمائي في حده الأدنى، إذ يغلب الطابع الترفيهي على الأبعاد الثقافية والفنية. وفي هذا المكمن بالتحديد تولدت الخيبة لدى فئة عريضة من الجمهور الذين كانوا ضحية الدعاية والتسويق لفيلم «أوبنهايمر» حيث توقعوا أن يشاهدوا فيلم إثارة وإبهار بصري.
وإلى جانب كونها معطى حضري جديد في حياة الإنسان السعودي، تُعتبر صالات السينما ركيزة مهمة من ركائز المجال الثقافي. وقد تحولت بسرعة فائقة إلى ظاهرة اجتماعية، تأكيدًا لما يقوله «إدجار موران» عن كون السينما مؤسسة للخيال الاجتماعي. حيث الشهية مفتوحة لدى المتفرج السعودي لالتهام أكبر قدر ممكن من الأفلام، كما عبّر عن ذلك المنحى من الوجهة الاقتصادية الرئيسُ التنفيذي لشركة فوكس سينما «كاميرون ميتشل» بقوله إن المملكة هي سوق السينما الوحيد على مستوى العالم الذي توسّع منذ عام 2020م. وهذا هو المدخل الفني لاكتساب خبرات المشاهدة والحكم على الأفلام، ثم تأسيس الوعي الجمالي، الذي يقود بالضرورة إلى خلق التمثيلات الحياتية.
وهنا يمكن ملاحظة منحى على جانب كبير من الأهمية للتأكيد على الفاعلية الثقافية للأفلام، إذ لم تكتفِ الصالات السينمائية بعرض الأفلام التجارية، بل حرصت على عرض الجديد من الأفلام العالمية، الأمريكية على وجه التحديد، كما نظمت Arabic Picture Entertainment -بالتعاون مع السفارات الأوروبية- مهرجان السينما الأوروبية، وكذلك قَدّم مهرجان البحر الأحمر في مجمل دوراته أفلامًا عالمية، وأطلق محمود صباغ أيضًا مبادرة للسينما المستقلة (سينما الحوش) في جدة التاريخية لأعمال سينمائية سعودية وعربية وعالمية. وكل هذه المبادرات التي تدل عن أن السينما جزء من النظام الثقافي الاجتماعي، لا تكفي حتى الآن لتغيير سلوك ومواقف الجمهور السعودي إزاء الأفلام، فالصالات السينمائية مطالبة بعدم الارتهان إلى أفلام الإثارة الأمريكية والأفلام الهزلية المصرية، وتقديم وجبة سينمائية تليق بوعي المتفرج السعودي من روائع الأفلام الإيطالية والفرنسية والروسية واليونانية والإيرانية. وهذا الإجراء هو الكفيل بصد ثقافة الفشار.
يقول دانيال ديان: «عندما يَدفع المتفرج ثمن تذكرة السينما، فإنه لا يحصل على مقعد فحسب، بل على عين.. عين تشكل هويته أثناء مشاهدته للفيلم، تمنحه دورًا ومكانة وعملًا». وهنا لا بد من التنويه إلى أن جمهور السينما في السعودية لا يقتصر على مَن يرتادون الصالات، بل هناك فئة عريضة جدًا من عشاق السينما، الذين يحضرون في مواقع التواصل الاجتماعي بوصفهم خبراء، سواء على مستوى المعلومة أو التقنية أو التحليل الفني. هؤلاء الذين نجوا من ثقافة الفشار يشكلون جزءًا حيويًا مما يمكن تسميته بخطاب الظل. وهم يعون تمامًا مفهوم الشرعية الثقافية للسينما، ويسهمون بشكل كبير في توطين الصناعة السينمائية، وهم يستحقون من هيئة الأفلام التفاتةً تجعلهم في الصفوف الأولى مع أولئك الساعين إلى ربط السينما مع الحياة.