مانويل دي أوليفيرا السينما وتخليد اللحظة

كان صانعُ الأفلام وصاحب أطول مسيرة سينمائية «مانويل دي أوليفيرا»، مخرجًا لمدة  88 عامًا وهي فترة أطول مما سيمتد إليه عمر معضمنا. لقد بدأ مجده في شيخوخته، أخرج ما يقارب الـ 80 فيلمًا يحمل كل منها رونقَه الخاص. بحوارات شاعرية، ومشاعر واقعية، وشخصيات حقيقية، وعناوين مثيرة عن الحب والجمال والوجود والدين، وإسقاطات سياسية وفلسفية عديدة. قدس مانويل الفن، وبشكل خاص السينما التي لطالما كانت سببًا في إحياء روحه طوال هذه السنوات، دائمًا ما كان يكرر «السينما هي شغفي، ودائمًا ما ضحيت بكل شيء حتى أتمكن من صنع أفلامي».

عانى أوليفيرا الكثير من الأجهزة الرقابية الحزبية الاشتراكية والتي حكمت عليه بسنوات من الصمت والخمول، كل ذلك بسبب فنِّه النخبوي واللَّاذع تجاه الطبقات المجتمعية آنذاك. وفي أثناء انتظاره قضى ما تبقى من سنواته الساكنة ما بين الرغبة والخوف وذلك ظهر بشكل واضح في أعماله ما بعد التحرر، حيث بلغ رصيده السينمائي 79  فيلمًا وعملين فقط للتلفاز «Doomed Love, 1978»، والآخر  «The Satin Slipper, 1985» الذي يستند إلى مسرحية تحمل الاسم نفسه للأديب بول كلوديل، فشغفُه الدائم للأدب جعل الأمر سيان بالنسبة للسينما…

نستعرض هنا قائمةً لأعماله:

معظم الأعمال التي كان يكتبها مانويل وإن لم تكن سيرة ذاتية مباشرة، إلا أنها على الأقل مستلهمة من المشاكل التي كان يواجهها في ذلك الوقت: ذكرياته الصيفية، القمع السياسي، صراعات الشباب ورحلة البحث هي أعمال خاصة  تفحَّص بها مانويل نفسه من خلال استحضار الذكريات بأسلوب فردي لا لبس فيه.

يقول:

«نريد تقليد الله، لذلك هناك فنانون يريدون إعادة خلق العالم كما لو كانوا آلهة صغيرة! وهم كذلك، يعيدون التفكير باستمرار في التاريخ ، والحياة، والأشياء التي تحدث في العالم، والأشياء التي نعتقد أنها حدثت، ولكن فقط لأننا نؤمن... لأننا بعد كل شيء نؤمن بالذاكرة، ولأن كل شيء قد مضى بالفعل.

لكن من يستطيع أن يجزم أن ما حدث قد حدث بالفعل، فمن ينبغي أن نسأل؟ إذن هذا العالم، هذا الكون ما هو إلا وهم. الشيء الحقيقي الوحيد هو الذاكرة، لكن الذاكرة شيء مفبرك في أعماق الإنسان…

أعني في السينما أن الكاميرا يمكنها التقاط اللحظات، لكن تلك اللحظات قد مرت بالفعل، ما تفعله السينما هو رسم ظل لتلك اللحظات. لم نعد متأكدين مما إذا كانت اللحظات موجودة خارج الفيلم، أم أن الفيلم دليل على وجودها؟  لا أعرف... أنا أعرف القليل وأقل من ذلك. نحن نعيش بعد كل شيء في شك دائم، على الرغم من ذلك نعيش وأقدامنا على الأرض نأكل ونستمتع بالحياة».  

يؤكد مانويل كلماته ويحاول إعادة خلق ذاته من خلال غرس بعض لحظات حياته في أفلامه بعدة طرق مختلفة، وفي بعض الأحيان يكرس أفلامًا كاملة لتخليد الذكرى أو رواية سيرته الذاتية بها…  ومن خلال مشاهدتي رأيته يفعل ذلك في ثلاثة أفلام: قرن من الطاقة، رحلة إلى بداية العالم، زيارة أو ذكريات واعترافات.

«قرن من الطاقة - 2015 Um SéCulo de Energia»

في عام  1932، صور مانويل دي أوليفيرا تكريمًا لوالده؛ الفيلم الوثائقي (‎‏Hulha Branca)، وهو قصة عن سد (أرمال) لتوليد الطاقة الكهرومائية أسسها فرانسيسكو خوسيه دي أوليفيرا. وبعد قرن من الزمان، يعود مانويل المُسِنّ ليصافح مانويل الشاب ويعيد إحياء ذلك الفيلم بسرد تملؤه المشاعر والأشواق والامتنان لكل تلك الرحلة الطويلة. تنتقل الصورة بين ثلاثة أماكن مختلفة؛ أولهم الفرقة الموسيقية والراقصات، وثانيهم الفيلم القديم ولقطات الوثائقي السوداء الغابشة ليملأها ألوانًا وحياة من خلال الصورة الثالثة وهي على السد الآن والمنطقة الخضراء والسماء من حوله. من سوء الحظ فارقنا مانويل قبل أن يرى النسخة الأخيرة. 

 «رحلة إلى بداية العالَم - 1997 Voyage to the Beginning of the World»

يصور مانويل نفسهُ هنا وهو يتبع نفسهُ حرفيًا. يعود بالزمن ويصور رحلة قديمة قد خاضها مع طاقم عمل فيلم ما، ويوجدُ هنا ثلاث نسخ من مانويل: الأولى والتي يجسِّدها الممثل القدير مارسيلو ماستروياني وهو يحمل اسم مانويل وكذلك مهنته، مخرج أفلام يخوض رحلة استكشافية في قرية صغيرة مع طاقم عمله، والثانية يتواجد فيها (دي أوليفيرا) جسديًا كقائد للمركبة التي تقودهم في رحلتهم، والنسخة الأخيرة هي مانويل المخرج وهي الأبرز برأيي؛ حيث إنه أتى بهذه الرؤية الفريدة والاستباقية بحيث أن الشخصية الحقيقية تتبع وتقود مجسِّدها إلى الوجهة المنشودة. 

«زيارة أو ذكريات واعترافات - Visit or Memories and Confssions 1982»

يصنع مانويل هنا فيلمه الأكثر حميمية وشخصية في الثمانينيات، ولفترة طويلة ظل الفيلم بعيدًا عن أنظار عامة الناس،  لينشر بعد وفاته بناء على طلبه. وفيه يزور منزله، وهو منزل ضخم وجميل سيضطر إلى مغادرته قريبًا. كان الحنين إلى المكان وذكرياته هو ما دفعه إلى صنع فيلم حميمي وخاصةً حول ما يعنيه ذلك له، وفي ذات الوقت كان يصنع من خلاله سيرة ذاتية لنفسه بشكل عام… من خلال الصورة نلاحظ أن مانويل يقدِّر المكان والتفاصيل البسيطة في المنزل، إذ يجوبه كاملًا ويركز على التفاصيل جميعهم: طاولة الطعام والمرايا واللوح والزهور الجافة وكذلك صور العائلة، استغل المنبر ليعبِّر ويبرر عن بعض المواقف السياسية التي واجهها خلال رحلته في صناعة الأفلام. 

إنه شخص يُشبِّه صناعة الأفلام بالتنفس، ويذكر أنه في مرات عديدة اضطر إلى حبس أنفاسه والتوقف تمامًا عن التنفس؛ أي أن الأفلام هي التي تبقيه حيًّا ومتى ما انقطع عن صناعتها باتت حياتهُ مختنقة بنفسجية، مائلة إلى السواد. 

لقد أحب مانويل دي أوليفيرا صناعة الأفلام وكرس لها جهدًا كبيرًا، ووقتًا طويلًا وستلاحِظون هذا من كلام زوجته اللطيفة للغاية في نهاية فيلم «زيارة أو ذكريات واعترافات»، وهي تتذكر كم سهروا وعانوا وضحوا بأشياء عديدة حتى يُتمم هذه المسيرة المثمرة والمشرِّفة، وبالأخص تخليد اللحظة بكل الحب والتقدير. إن الحديث عن سينما مانويل وشغفه في صناعة الأفلام صعب للغاية، فقد كان بيتًا فنيًا، عاشقًا ومتغنيًا، يملؤك بالحياة، ويجعلك تفكر في عطائك تجاه ما تحب وكيف تراه!  رغم كل سنوات العطاء بقي صامدًا وباذلًا كل جهوده لأجل أن يستمر في صنع ما يحب. 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى