في ستينيات القرن الماضي ومع صعود الحركات القوميَّة العربية وتسلُّمها مقاليد الحكم في عددٍ من الدول العربية، كان هناك جوّ من الحماس يسود الشباب المندفع آنذاك خلف شعارات الاستقلال والوحدة العربية بالضدِّ من الاستعمار الغربي. وكان المخرج السوري عمر أميرلاي جزءًا من تلك الموجة ومدافعًا عنها؛ ففي فيلمه التسجيلي «محاولة عن سدِّ الفرات»، وهو الجزء الأول من ثلاثيته التسجيلية حول قرى وادي الفرات، صوَّر أميرلاي فيلمه هذا في منطقة سدِّ الفرات أثناء العمل على بناء السَّد، وقد كان أحد المتحمسين له والمتأملين خيرًا في النظام الجديد والحركة التصحيحية لحافظ الأسد، فصوَّر أميرلاي أعمال البناء في السَّد على أنها استمرارية بل وإضافةٌ مهمَّة للحركة الحضارية في سوريا، فكانت مشاهد أعمال البناء في بعض أجزاء الفيلم تتداخل وتتلاشى مع صور من الآثار التاريخية للحضارة السورية القديمة، وحتى حينما صوَّر معاناة سُكان إحدى القرى الموجودة حول السَّد وظروف العمل الصعبة، كان يقطع تلك المشاهد ويعود إلى مشاهد من أعمال البناء في السَّد، وكأنه كان يظن أن تلك المعاناة وقتية وستنتهي حالما يكتمل بناء السَّد.
وفي أحد مشاهد المعاناة وبلقطةِ مونتاجية رائعةً يربط أميرلاي بين التشققات في قدم أحد الفلاحين مع تشققات أرضه الجافة، ثم ينتقل إلى أعمال السَّد الذي من المفترض أن يُنقذ الأرض وفلاحيها. لكن سدَّ الفرات بالنسبة للنظام لم يكن هدفه الأساسي خدمة الناس، بل كان جزءًا من هوس تلك الأنظمة بصناعة الرموز؛ فسدِّ الفرات – أو كما يوصف في مناهج الدراسة للطلبة السوريين بأنه «عمل قومي من أعمال التحرير» – كان الهدف الأساسي منه صناعة رمز لقوة النظام الجديد في سوريا، وإن كانت أعمال الإنشاءات في السَّد قد بدأت قبل صعود الأسد للحكم، وجرى التخطيط له قبل انقلاب البعث، لكن الأسد نسب الإنجاز بالكامل لنظامه الجديد، فكان سدُّ الفرات خطوةً مهمةً في طريقه للسيطرة الكاملة على الحكم في سوريا.
الحماس والأمل اللذان دفعا أميرلاي لصناعة فيلمه «محاولة عن سدِّ الفرات» تلاشيا لاحقًا حيث قام أميرلاي بعد ذلك في عام 1974 بتقديم فيلمه «الحياة اليومية في قرية سورية»، والذي كان أشبه بوثيقة احتجاجٍ سينمائية غاضبة على إهمال النظام وعدم تقديم الحلول لمشكلات الناس من جوع وفقر وأمراض، حيث يفتتح أميرلاي فيلمه هذا بسلسلة من المشاهد الكابوسية والتي تبدو وكأنها افتتاحية لفيلمٍ ديستوبي، لكنها مشاهد واقعية من حياة الناس اليومية في القرى السورية النائية. ثم يبدأ أميرلاي بعرض معاناتهم من خلال سلسلة من المقابلات مع سُكان القرية من الفلاحين والأمهات والأطباء والمعلمين؛ فالمشكلات، وإن كان أغلبها بسبب إهمال النظام، يتحمل جزءًا منها المجتمع العشائري نفسه.
ويختتم فيلمه بتحميل المسؤولية للجميع بما فيهم هو نفسه، فيقول أميرلاي بصوته في نهاية الفيلم: «وعلينا جميعًا أن ننغمس في النضال من أجل خلاصنا المشترك، من أجل أيدٍ نظيفة. ما من أبرياء وما من متفرجين، كلنا وجميعنا نغمس أيدينا وكل متفرجٍ هو جبان أو خائن».
من يطِّلع على مذكرات من كانوا شبابًا خلال فترة صعود الحركات القوميَّة العربية سواءً أكانوا قادةً أم منتمين أم مجرَّد مناصرين لتلك الحركات، يجد في الكثير منها الندم على الحماسة التي قادتهم خلف تلك الشعارات؛ فلا يخفى على الجميع ما آلت إليه تلك الحركات وكيف انتهى بها الحال لاحقًا وكيف تحولت شعارات القادة إلى مجرد وسائل وصوليةٍ انتهازيةٍ غرضها دغدغة مشاعر الناس واستغلال غضب الشباب وحماسهم.
يفتتح أميرلاي فيلمه الثالث والأخير «طوفان في بلاد البعث» برسالة اعتذار وندم تشبه ما نجد في مذكرات البعثيين، فيقول أميرلاي نادمًا على فيلمه الأول «محاولة عن سدِّ الفرات»: «منذ ثلاثة وثلاثين عامًا كنت مدافعًا صلبًا عن تحديث وطني الأم، سوريا، إلى درجة أن فيلمي الأول كان عن بناء سدِّ، سدُّ الفرات، مصدر فخر حزب البعث وبهجته. أنا اليوم نادمٌ على هذا الخطأ الذي ارتكبته في شبابي».
يعود أميرلاي في فيلمه هذا إلى موقع تصوير فيلمه الأول حول سدِّ الفرات، إلا أن ما صوَّره في الماضي بحماسة الشباب يصوِّره الآن ساخرًا! فما أصابه من اليأس يحوله في فيلمه هذا إلى سخريةٍ، فالسخرية، كما يقول سيوران، «هي الانتصار الحقيقي والوحيد على الحياة والموت». ولم يحتج أميرلاي إلى عمل الكثير لينتج فيلمًا ساخرًا من النظام، فقط بعض الزوايا التصويرية واللقطات القريبة، وتَرك بقية العمل للنظام نفسه وأزلامه، فلم يعطِ أميرلاي كاميرته ومايكروفُونه لعامة الناس مثلما فعل في فيلميه الماضيين، لكنه هنا ترك الحديث لأشخاصٍ من صُلب النظام ذاته ك دياب الماشي وجيه قرية الماشي، والذي يتفاخر بكونه أقدم رجل في السياسة البرلمانية بالعالم، كونه انتُخِب نائبًا في البرلمان السوري لثلاث وخمسين سنة متتاليةً، ويتخذه دليلًا على طبيعة النظام السوري المتطور و«صرح الديمقراطية الراسخ» الذي وضع أسسَه الأسد كما يقول الماشي، ثم يبدأ بسيل من المديح لرجل سوريا الأول حافظ الأسد ونضاله القومي المزعوم، ويردد من الكلام ما يبدو جليًا بأنهُ مُلقن ومُكرر.
ثم يظهر خلف الماشي مدير المدرسة وأمين الحلقة الحزبية في القرية وابن أخ ذياب الماشي ليكمل الكلام والمديح. وبهذا استطاع أميرلاي أن يرصد وعلى لسان الموالين للنظام السوري كيف تحولت سوريا البلد إلى سوريا الحزب الواحد ثم إلى سوريا العائلة الواحدة والشخص الواحد، ويرصد كيف تسيطر الأنظمة الشمولية على الحكم والدولة والمجتمع من خلال فرض شعاراتها على الجميع، بما فيهم طلاب المدارس، ففي أحد مشاهد الفيلم نستمع إلى أذان الصلاة عبر أحد الشَّبابيك، ثم لاحقًا عبر الشِّباك نفسه نستمع إلى أصوات طلاب المدارس وهم ينشدون بصوتٍ عالٍ أناشيد مدح النظام وحافظ الأسد، إذ يحاول النظام فرض هذا الرجل على الشعب وخلق صورة رمزية له تقترب من رمزية الإله. وأهم طبقة يحاول النظام غرس مفاهيمه فيها هم الطلبة، فنرى خلال الفيلم كيف يُدّرَب الطلاب في المدرسة على الأناشيد والانضباط في أبسط الحركات أثناء الاصطفاف وتلقين الشعارات في محاولةٍ للسيطرةِ الكاملة على المجتمع وخلق نسخٍ متماثلةٍ للأفراد؛ لا مساحة لهم لأي شكل من أشكال الحرية. تقول الفيلسوفة حنّة آرنت في كتابها ”أسس التوتاليتارية“: «إن الشمولية التامة لا تسمح بالمبادرة الحرة في أي مجال من مجالات الحياة ولا تسمح لأي نشاط لا يمكن التنبؤ به بالكامل. فالشمولِية في السلطة تُلغي جميع مواهب الدرجة الأولى بغضِّ النظر عن ميولهم. أما افتقار الحمقى لأدنى مستويات الذكاء والإبداع فذلك هو أفضل ضمان لولائهم». لذا وليكمل النظام حفلة التفاهة التي آلت إليها السياسة السورية، لوحِق أميرلاي وفيلمه من قبل النظام حتى خارج سوريا، إذ رفع مهرجان قرطاج السينمائي فيلم أميرلاي من جدول العرض بعد احتجاج النظام السوري، وتم إيقاف أميرلاي للتحقيق لعدة أيام ومُنع من السفر خارج سوريا، كل ذلك خوفًا من فيلمٍ لم يتحدث فيه المعارضون للنظام، بل كان الكلام من الموالين والمتنفذين في النظام نفسه.