مهرجان «كان» يسدل الستار على دورة مميزة وأفلام عربية تحصد الجوائز

May 25, 2025

أسدل مهرجان كان السينمائي الدولي الستار على دورته الثامنة والسبعين مساء السبت 24 مايو 2025، في أمسيةٍ احتفاليةٍ لم تُخفِت بريقها التحديات، بل زادته اشراقًا، مؤكِّدًا مُجدَّدًا مكانته كمرآةٍ للسينما العالمية ومختبرٍ حيٍّ للتجارب البصرية القادمة من كل فجٍّ ثقافي وإبداعي.

طيلة أسبوعين، استنار شاطئ كان بألمع النجوم وكانت العروض السينمائية هي نجوم المهرجان الأبرز. انتهت الأفلام بتصفيقاتِ احتفاءٍ وتقديرٍ امتدت إلى دقائق عديدة، متجاوزة فعل الاحتفاء والمجاملة لتتحول إلى ما يشبه التقليد، منطوية على أبعاد رمزية بوصفها لحظات عاطفية جماعية لا تنسى في تاريخ السينما. من بريق البساط الأحمر إلى سحر الأفلام التي شاهدها الجميع بإقبال وترقب، كان الجو مُوحيًا بأن النتيجة ستأتي مخالفةً لكل التوقعات، وكانت السعفة الذهبية هذه المرة تحمل بين طياتها دلالات عديدة. حسمت لجنة التحكيم بقيادة جولييت بينوش المنافسة بين 22 فيلما بتتويج فيلمٍ لم يكن عاديًا في طرحه ولا في خلفيات صنعه، فقد رافقته المخاطر وانطوى على قدرٍ كبيرٍ من التحدي والمخاطرة عكست حبًا كبيرًا للسينما وشغفًا بصنع الأفلام يتجاوز كل صور التفاني والإخلاص المألوفة ليقدم لنا درسًا لا يُنسى. حظي فيلم «حادث بسيط» للمخرج جعفر بناهي بالسعفة الذهبية بعد غياب دام 15 سنة  قضاها ما بين الاعتقالات والتضييقات والمشاكل العديدة في وطنه، ليعود هذه المرة حاملا رسالة إلى أمة بأكملها إذ يقول: «أعتقد أن الوقت قد حان لأدعو جميع الإيرانيين، في جميع أنحاء العالم، مهما اختلفت آراؤهم، إلى أن نضع خلافاتنا جانبًا. ما يهم الآن هو بلدنا». في المقابل، حظي الفلسطيني توفيق برهوم بسعفةٍ ذهبيةٍ عن فيلمه القصير الأول، في تتويجٍ بدا مفاجئًا بقدر ما عبّر عن توجهٍ حقيقي في كان للنظر إلى ما وراء الإطار السينمائي، وسعيٍ واضحٍ إلى منح الجائزة لمن يستحقها، وتمكين صناع الأفلام رغم حداثة تجربتهم السينمائية.

حضور عربي واعد

في هذه الدورة، بدت السينما العربية وكأنها تنفض الغبار عن صور نمطية قديمة، لتحضر بقوةٍ وتنوّعٍ لافت في مختلف أقسام المهرجان. من قسم «نظرة ما» إلى «أسبوع النقاد»، ومن المسابقة الرسمية إلى العروض الخاصة، كانت الأصوات العربية تصدح بلغة سينمائيةٍ حرةٍ تمتاز بالكثير من الجرأة والتنوع. 

في قسم «نظرة ما»، تميّز فيلم «كان ياما كان في غزة» للأخوين عرب وطرزان ناصر برؤية حميمية لواقع سياسي مشحون، من خلال دراما شخصية تنسج خيوطها بين الحصار والحياة اليومية. أما الفيلم المصري «عائشة لا تستطيع الطيران» لمراد مصطفى، فذهب إلى تخوم الواقعية الغرائبية، مسلطًا الضوء على حياة المهاجرين الأفارقة في القاهرة، من خلال حكاية فتاة يتداخل جسدها مع كابوس المدينة. فيما حضرت تونس بفيلم «سماء بلا أرض» لأريج السحيري، الذي نقل بأسلوبٍ شاعريٍ نبض نساءٍ يعشن على هامش الحدود، جسديًا ورمزيًا، في تونس.

في المسابقة الرسمية، تسلّل الصوت العربي من باب الانتماء والهوية. حيث قدم فيلم «الأخت الصغرى» (The Little Sister - 2025) للمخرجة الفرنسية-المغاربية حفصية حرزي سيرةً أنثوية متداخلة بين جذور شمال إفريقيا وسياق فرنسي ضاغط، في معالجة توازن بين السخرية والحنين. أما «نسور الجمهوريَّة» (The Republic’s Eagles - 2025) للمخرج طارق صالح، فغاص في دهاليز السلطة، حيث تلتبس الحقيقة بالمسرح، في فيلم يُواصل فيه صالح مساءلة السلطة السياسية من منظورٍ عربيٍ وغربيٍ في آنٍ واحد.

أما في قسم «أسيد - ACID»، فقدّم الوثائقي الفلسطيني «ضع روحك على يدك وامشِ» للمخرجة سبيده فارسي شهادة قاسية ومؤثرة عن الصحفية الراحلة فاطمة حسونة، مستندًا إلى تسجيلات شخصية عُرضت بعد استشهادها، في عمل يتجاوز السرد التقليدي نحو تجربة سينمائية تحتفي بالغياب والذاكرة.

وحمل العراق صوته إلى «أسبوع المخرجين» عبر «كعكة الرئيس» (2025- The President’s Cake) للمخرج حسن هادي، الذي استعاد بعيون طفلة زمن حكم صدام حسين، في فيلم يدمج التهكّم السياسي بالدراما النفسية. من المغرب، حضرت رندة معروفي في «أسبوع النقاد» بفيلم «المينا»، حيث ترصد الحياة في مدينة جرادة الهامشية، متتبِّعة التبدلات الاجتماعية من خلال عدسة صامتة، لكنها مشحونة. وهو وثائقي تجريبي قصير يلقي الضوء على أجواء استخراج الفحم غير الرسمي بعد إغلاق المناجم عام 2001. وقد استخدمت فيه تقنيات بصرية مبتكرة مثل “سوبر 8” والمسح ثلاثي الأبعاد. 

وفي مسابقة الأفلام القصيرة، وقع الجمهور على مفاجأة فلسطينية بعنوان«أنا سعيد لأنك ميت الآن» (I’m Glad You’re Dead Now - 2025)، أولى التجارب الإخراجية للممثل توفيق برهوم، الذي عاد إلى جذوره ليروي، بكاميرا شاعرية، قصةً عن الذاكرة والذنب والعائلة، في عمل اختزل الكثير من المعاناة في لحظات سينمائية مكثّفة.

جوائز مسابقة «نظرة ما»: تتويج يحمل الكثير من المفاجآت

يحتفي مهرجان كان 2025 بسينما حيوية مفعمة بالإبداعات الشابة، سينما المؤلف والاكتشافات، حيث قدمت تشكيلةُ هذا العام 20 فيلمًا طويلًا، منها 9 أفلام هي الأولى بالنسبة لمُخرجيها، تتنافس على جائزة الكاميرا الذهبية. افتتح المهرجان، ضمن قسم "نظرة ما"، بفيلمِ المخرجة أريج السحيري «سماء بلا أرض»، وهو عملٌ يسلط الضوء على قصص إنسانية ذات أبعاد اجتماعية، يعالج مواضيع حساسة وواقعية في إطار درامي مؤثر.

تترأس لجنة تحكيم هذا القسم المخرجة البريطانية وكاتبة السيناريو ومديرة التصوير مولي مانينغ ووكر، وتضم في عضويتها المخرجة الفرنسية السويسرية لويز كورفوازيه، ومديرة مهرجان روتردام السينمائي الدولي الكرواتية فانجا كالودجيرسيك، والمخرج والمنتج الإيطالي روبرتو مينيرفيني، والممثل الأرجنتيني ناهويل بيريز بيسكايارت.

في فئة «نظرة ما»، نال الفيلم الأول للمخرج دييغو سيسبيدس «النظرة الغامضة للفلامنغو» (2025 - The Mysterious Gaze of the Flamingo) الجائزة الكبرى لهذا القسم. يتناول الفيلم حياة عائلة في تشيلي خلال أوائل الثمانينيات، مستكشفا موضوعات الهوية، الخوف، والقبول. أما جائزة لجنة التحكيم من نفس القسم فذهبت إلى الفيلم الكولومبي «شاعر» (2025 - A Poet) للمخرج سيمون ميسا سوتو، وهو كوميديا سوداء تستعرض عالم الفن من زاوية نقدية، حيث يسلط الفيلم الضوء على الصراعات الداخلية والتحديات التي تواجه الفنانين.

وحصد الأخوان عرب وطرزان ناصر جائزة الإخراج عن فيلمهما «ذات مرة في غزة» (2025 - Once Upon a Time in Gaza)، الذي يروي قصة تاجر مخدرات صغير في قطاع غزة في السنة التي سيطرت فيها حركة حماس على القطاع، مستعرضًا الأوضاع الاجتماعية والسياسية المعقدة في المنطقة. كما فاز فرانك ديلان بجائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم «قنفد البحر» (2025 - Urchin) لهاريس ديكينسون، وهو عمل درامي يحكي قصة رجلٍ بلا مأوى، يعكس معاناة المشردين والتحديات التي تواجههم في المجتمع. بينما نالت كليو ديارا جائزة أفضل ممثلة عن فيلم «الضحك والسكين» (2025 - The Laughter and the Knife) للمخرج بيدرو بينيو، الذي يتناول موضوع الاستعمار الجديد من خلال قصة تجمع بين الفن والسياسة، مستعرضًا تأثيرات الاستعمار المعاصرة على المجتمعات.

وفي فئة أفضل سيناريو، حاز الفيلم الأول لهاري لايتون «راكب الدراجة الخلفي» (2025 - Pillion) على الجائزة، وهو فيلم يركز على قصة شخصية تنسج من خلال تجربة إنسانية عميقة، تجمع بين التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهها البطل في رحلته.

 

مهرجان كان السينمائي 2025: أبرز جوائز وأحداث الدورة الـ78

اختتم مهرجان كان السينمائي دورته الثامنة والسبعين مساء السبت، بعد اثني عشر يومًا حافلًا بعروضٍ ومنافساتٍ قوية. شهد المهرجان هذا العام عرضًا لـ 22 فيلمًا ضمن المسابقة الرسمية، تنوعت بين أعمال نالت إعجاب النقاد والجمهور، وأخرى أثارت جدلاً وساهمت بقوة في إثراء المشهد السينمائي.

بداية بفيلم الافتتاح «العقل المدبر» (2025 - The Mastermind) للمخرجة كيلي رايتشارد، بطولة جوش أوكونور، الذي قدّم قصة غير تقليدية تركز على شخصية تواجه عواقب أفعالها في إطار درامي بعيد عن نمط أفلام السرقة المعتاد. وكانت الممثلة الفرنسية جولييت بينوش قد تولت رئاسة لجنة التحكيم، التي ضمت نجوما عالميين مثل هالي بيري، ألبا رورفاكر، ليلى سليماني وغيرهم، حيث كانت مهمتها اختيار أفضل الأعمال وتوزيع الجوائز المرموقة.

في فئة الأفلام القصيرة، حصل فيلم «أنا سعيد لأنك ميت الآن» (I’m Glad You’re Dead Now - 2025) لتوفيق برهوم على السعفة الذهبية، بينما نال فيلم «علي» (2025- Ali) لعدنان الراجيف تنويهًا خاصًا لجَسارته البصرية. وحصلت المخرجة المغربية رندا معروفي على جائزة Leitz Cine Discovery لأفضل فيلم قصير، عن فيلمها «المينا» ضمن فعاليات "أسبوع النقاد"

 أما جائزة الكاميرا الذهبية فكانت من نصيب فيلم «كعكة الرئيس» (2025- The President’s Cake) لحسن هادي، الذي يحكي قصة مؤثرة لطفلة في زمن الحرب، فيما نال فيلم «ظل والدي» ( My Father’s Shadow - 2025) لأكينولا ديفيز جونيور تنويهًا خاصًا ضمن نفس الفئة. 

في المقابل حصد فيلم «القيامة» (Resurrection - 2025) للمخرج الصيني بي جان جائزةً خاصةً، حيث اعتبرت رئيسة اللجنة فيلمه تحفة فنية، بينما حصل الأخوان جان-بيير ولوك داردين على جائزة أفضل سيناريو عن فيلم «أمهات شابات» (The Young Mother's Home - 2025)، وسط أجواءٍ مرحةٍ أضفى عليها الممثل جون سي. رايلي روح الفكاهة.

فاز المخرج البرازيلي كليبر مندونسا فيلهو بجائزة أفضل إخراج عن فيلم «العميل السري» (2025 - The Secret Agent)، معبرا عن فخره بجمال وطنه مبديا شكره للمهرجان وواصفا إياه بـ«كاتدرائية السينما».

على صعيد التمثيل، تألقت الفرنسية الشابة نادية مليتي بفوزها بجائزة أفضل ممثلة عن دورها الأول في فيلم «الأخت الصغرى» (The Little Sister - 2025)، فيما نال البرازيلي واغنر مورا جائزة أفضل ممثل عن نفس الفيلم، وتسلم المخرج الجائزة نيابة عنه.

أما جائزة لجنة التحكيم فقد فاز بها فليمان مناصفةً: «صراط» (Sirât - 2025) للمخرج الفرنسي-الإسباني أوليفر لاكس، الذي شدد على أهمية التنوع الثقافي في السينما، و«صوت السقوط» (Sound of Falling - 2025) للمخرجة ماشا شيلينسكي التي وجهت رسالةً قويةً للنساء بأهمية الاستمرار في العمل وعدم التراجع.

في حين كانت الجائزة الكبرى من نصيب المخرج النرويجي خواكيم ترايير عن فيلم «القيمة العاطفيَّة» (Sentimental Value - 2025) التي جاءت بمثابة تكريم لإرث عائلته السينمائي، وقد وجّه المخرج تحيةً لمهرجان كان باعتباره ملاذًا للصور والقصص التي تحمل عمقًا وبعدًا فكريًا في زمن تفيض فيه وسائل الإعلام بالصور السائلة سريعة الاستهلاك.

وأخيرًا، نال المخرج الإيراني جعفر بناهي السعفة الذهبية عن فيلمه «حادث بسيط» (A Simple Accident - 2025)، ومثلت هذه المشاركة عودة قوية بعد غياب دام 15 عاما بسبب التحديات التي تواجهه في بلده من حظر واعتقالات. وجه الفيلم نقدًا حادًا للنظام الإيراني بطريقة تشويقية ومؤثرة، وناشد بناهي خلال استلامه الجائزة أبناء وطنه بالوحدة من أجل حرية ومستقبل إيران.

بهذا، يؤكد مهرجان كان 2025 مكانته الرائدة كمنصةٍ تجمع بين التنوع والتميز، يُحتفى في رحابها بالسينما التي تُعبّر عن قضايا إنسانية تنطوي على عمقٍ وجرأةٍ فنية لافتة. في دورةٍ ستُخلَّد في الذاكرة بوصفها دورةً طبعتها المفاجآت الكثيرة، واللقاءات غير المتوقعة، وتميزت بتشكيلة مميزة من الأفلام القوية، والعديد من اللحظات التي أسرت قلوب رواد الكروازيت.

نُشرت هذه المقالة بدعم من مبادرة «سينماء» لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى