تعودُ أضواء مهرجان كان السينمائي لتتوهَّج من جديدٍ على شاطئ لا كروازيت، حيث تنطلقُ فعاليَّات الدورة الـ78 من 13 حتى 24 مايو 2025، في حدثٍ يستقطبُ أنظار السينمائيِّين ومحبِّي الفن السابع من مختلف أنحاء العالم. وفي هذه الدورة تترأسُ النجمة الفرنسية جولييت بينوش، صاحبة المسيرة اللامعة والاختيارات الجريئة، لجنة التحكيمِ لتضفي بحضورها المميَّز عمقًا خاصًا على واحدةٍ من أكثر دورات المهرجان ترقُّبًا.
منذ انطلاقه عام 1946، ظلَّ مهرجانُ كان مساحةً خصبةً لاكتشاف السينما من زواياها المتعدِّدة، ومختبرًا حقيقيًّا للتجريب والرؤية الفنيَّة، مقدِّمًا جوائز مرموقةٍ مثل السعفة الذهبيَّة (Palme d'Or)، الجائزة الكبرى (Grand Prix) وجائزة لجنة التحكيم (Prix du Jury)، التي تحتفي بالتميُّز والابتكار.
وكما في كلِّ عام، تمتدُّ خارطة المهرجان إلى أقسامه الموازية التي تشكِّلُ نافذةً لاكتشافِ المواهب الجديدة والأصوات المختلفة، ذلك عبرَ فعاليَّاتٍ مثل «أسبوع المخرجين» و«أسبوع النقاد»، ممَّا يعكسُ حيويَّة المشهد السينمائيِّ العالميِّ وتنوُّعه.
في مشهدٍ لا تكتملُ طقوس المهرجان من دونه، تعود السجادة الحمراء لتجمع كبارَ النجومِ والمبدعين في لحظاتٍ استثنائية من العروض الأولى والاحتفالات، وسط عدسات المصوِّرين ودهشةِ الجمهور الذي يحتشد على ضفاف لا كروازيت، منتظرًا لحظة سحرٍ سينمائيٍّ جديدة.
هذا العام، اختار المهرجان أن يحمل شعار "الأمل"، في رسالةٍ بصريَّةٍ وشعوريَّةٍ تتجسَّد في الملصق الرسمي المستوحى من الفيلم الفرنسي الكلاسيكي «رجل وامرأة» (A Man and a Woman - 1966) للمخرج كلود ليلوش، الحائز على السعفة الذهبية عام 1966. يحتفي الملصق ببطلَي الفيلم أنوك إيميه وجان لوي ترينتينيان، ويستحضر عبر لقطاتهما الحميميَّة فكرة الإيمان بالعلاقات الإنسانيَّة كضوءٍ في عتمة الأزمات.
جولييت بينوش، أليس رورفاكر، ومولي مانينغ ووكر… نساءٌ استثنائيَّات على رأسِ لجنة التحكيم
بعد رئاسة غريتا غيرويغ للمهرجان في دورته السابقة، حان الوقت لجولييت بينوش كي تتولَّى رئاسة لجنة تحكيمِ مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78. ستقودُ بينوش، الممثِّلة الفرنسية الحائزة على جائزة الأوسكار عن دورها في «المريض الإنكليزي» (The English Patient - 1996)، لجنة التحكيم إلى جانب مجموعةٍ من الأسماء السينمائيَّة اللامعة، مثل هالي بيري، الفائزة بجائزة الأوسكار عن دورها في «كرة الوحش» (Monster’s Ball - 2001)، وجيرمي سترونغ، الذي اشتهر بأدائِه المميَّز في مسلسل «خلافة» (Succession - 2018-2023)، والمخرج الكوري هونغ سانغ سو، المعروف بأسلوبه الفريد في معالجة الحياة اليوميَّة في أفلام مثل «المرأة التي تهرب» (The Woman Who Ran - 2020).
وتنضمُّ إلى لجنة التحكيم الممثِّلة الإيطاليَّة ألبا رورفاكر، التي اشتُهرت بأعمالها الخلَّاقة مثل «سعيد مثل لازارو» (Happy as Lazzaro - 2018) و «الكيمير» (La Chimera - 2023)، والمخرج الكونغولي ديودو حمادي، الذي اشتُهر بتقديم أفلامٍ ذات بعد اجتماعيٍّ مثل «ماما كولونيل» (Mama Colonel - 2017)، والمكسيكي كارلوس ريغاداس، الذي عُرف بأفلامه العميقة مثل «وقتنا» (Our Time - 2018).
أما في أقسام المهرجان الموازية، فتترأس المخرجة أليس رورفاكر، شقيقة ألبا، لجنة تحكيم جائزة «الكاميرا الذهبيَّة» (Caméra d’Or)، بينما تقود المخرجة البريطانيَّة مولي مانينغ ووكر، صاحبة فيلم «كيفيَّة ممارسة الحب» (How to Have Sex - 2023)، لجنة تحكيم فئة «نظرة ما»، التي تركِّز على تسليط الضوء على الأعمال السينمائيَّة الجريئة والتجريبيَّة.
تجتمعُ هذه الشخصيَّات المبدعة، من خلفيَّاتٍ ثقافيَّةٍ وسينمائيَّةٍ متنوِّعة، لتشكِّل لجنة تحكيمٍ غنيَّةٍ تعكسُ التعدُّديَّة الثقافيَّة والتجربة السينمائيَّة العميقة، ممَّا يعدُ بمسابقةٍ مليئةٍ بالابتكار والثراء.
كما تشهدُ السجادة الحمراء هذا العام لحظاتٍ فارقة، حيث يُكرَّم روبرت دي نيرو بالسعفة الذهبيَّة الفخرية تكريمًا لإرثه الفنِّي، فيما يعود توم كروز بفصلٍ جديدٍ من سلسلة «مهمَّة مستحيلة» (Mission: Impossible). من جهةٍ أخرى، تقدِّم سكارليت جوهانسون أولى تجاربها الإخراجيَّة بفيلم «إلينور العظيمة» (Eleanor The Great - 2025)، بينما تكشف كريستين ستيوارت عن أحدث أعمالها «تسلسل الماء الزمني» (The Chronology of Water). أما لوران لافيت، فيتولَّى مجدَّدًا تقديم حفلَي الافتتاح والختام بأسلوبِه الساخر والمحبَّب.
مهرجان كان السينمائي 2025: أفلام متنوعة وأسماء لامعة في الدورة الـ78
في دورته الحاليَّة الحاملة لشعار "الأمل"، أعلن مهرجان كان السينمائي عن قائمته الرسميَّة للدورة الثامنة والسبعين، والتي أُهديت هذا العام إلى ذكرى الممثِّلة البلجيكيَّة إميلي دوكين، الحاصلة على جائزة أفضل ممثِّلة عن دورها في فيلم «روزيتا» (Rosetta - 1999) من إخراج الأخوين داردين، وهو الفيلم الذي نال أيضًا السعفة الذهبيَّة في تلك السنة.
تضمُّ المسابقة الرسميَّة لهذا العام مزيجًا لافتًا من الأسماء الراسخة والوجوه الجديدة، حيث يُفتتح المهرجان بفيلم «الرحيل يومًا ما» (Leave One Day - 2025) للمخرجة أميلي بونان، وهو أول أفلامها الروائيَّة الطويلة ويُعرض خارج المنافسة. من أبرز الأفلام المتنافسة في هذه الدورة نذكر فيلم «الخطَّة الفينيقية» (The Phoenician Scheme - 2025) للمخرج الأمريكي ويس أندرسون الذي يعود بأسلوبه المتفرِّد، وفيلم «إدينغتون» (Eddington - 2025) للمخرج آري آستر في عملٍ يحمل أبعادًا نفسيَّة وفلسفيَّة، وفيلم «أمهات شابات» (The Young Mother's Home - 2025) للأخوين داردين في معالجةٍ جديدةٍ للهشاشة الإنسانيَّة، كما تعود المخرجة جوليا دوكورنو، الحائزة على السعفة الذهبيَّة عام 2021، بفيلم «ألفا» (Alpha - 2025) الذي يثير التساؤلات حول الجسد وحدود السينما. ويشاركُ المخرج النرويجي خواكيم ترايير بفيلم «القيمة العاطفيَّة» (Sentimental Value - 2025) الذي يمزجُ بين الذاكرة والحسِّ الإنساني، كما يُعرضُ فيلم «امرأة وطفل» (Woman and Child - 2025) للمخرج الإيراني سعيد روستائي الذي يواصل مقاربة مواضيع الأسرة والهويَّة في ظلِّ الأزمات، بينما يُقدِّم جعفر بناهي فيلم «حادث بسيط» (A Simple Accident - 2025) كاستمرارٍ لنهجه المتحدِّي في وجه المنع والتضييق.
أمَّا قسم «نظرةُ ما»، المعروف باحتضانه للرؤى السينمائيَّة الجديدة والمغايرة، فيشهد عرض فيلم «إلينور العظيمة» (Eleanor The Great - 2025) من إخراج الفنانة الأمريكيَّة سكارليت جوهانسون في أولى تجاربها الإخراجيَّة، إلى جانب فيلم «تسلسل الماء الزمني» (The Chronology of Water - 2025) للمخرجة كريستين ستيوارت المستلهَم من السيرة الذاتيَّة بمنظورٍ شعري، إضافة إلى فيلم «الضحك والسكين» (I Only Rest in the Storm - 2025) للمخرج البرتغالي بيدرو بينو الذي يزاوجُ بين العبث والسياسة.
ويستمرُّ مهرجان كان في تألُّقه خارج إطار المسابقة الرسميَّة من خلال أعمالٍ لافتةٍ على غرار فيلم «من الأعلى إلى الأسفل» (Highest 2 Lowest - 2025) للمخرج سبايك لي الذي يحمل توقيعه الاحتجاجي، و«المهمَّة المستحيلة: الحساب النهائي» (Mission: Impossible - The Final Reckoning - 2025) للمخرج كريستوفر ماكويري وبطولة النجم توم كروز، وفيلم «حياة خاصَّة» (Vie Privée - 2025) للمخرجة ريبيكا زلوتوفسكي في طرحٍ معاصرٍ لقضايا الأنوثة والهوية.
أما في قسم «عروض منتصف الليل»، المعروف بجرأته، فنجد فيلم «هاني دونت» (Honey Don’t - 2025) لإيثان كوين في معالجةٍ جديدة للكوميديا السوداء، إلى جانب فيلم «أبناء الضوء النيون» (Sons of the Neon Night - 2025) للمخرج جونو ماك الذي يقدِّم أجواء آسيويَّة مشحونة بالغموض والإثارة.
السينما العربية تواصل توهّجها في مهرجان كان 2025
تواصل السينما العربيَّة تألُّقها في مهرجان كان السينمائي لعام 2025، حيث تسجِّل حضورًا قويًا ولافتًا في الدورة الثامنة والسبعين من خلال مشاركة خمسة أفلامٍ عربيَّةٍ ضمن أقسام المهرجان المختلفة، تتوزع بين المسابقة الرسميَّة وقسم «نظرة ما»، إذ يتنافس فيلمان عربيان على السعفة الذهبيَّة، بينما تشاركُ ثلاثة أفلامٍ أخرى في قسم «نظرة ما» الذي يُعنى باكتشاف الأصوات السينمائيَّة الجديدة.
من بين هذه المشاركات يبرز فيلم «عائشة لا تستطيع الطيران» (Aisha Can't Fly Away - 2025) للمخرج المصري مراد مصطفى، وهو أوَّل أفلامه الروائيَّة الطويلة بعد تجربته السابقة في «أسبوع النقاد» بفيلم «عيسى - أعدك بالجنة» (I Promise You Paradise - 2023)، ويشارك في بطولته بوليانا سيمون ومغني الراب زياد ظاظا، ومن إنتاج سوسن يوسف وفيصل بالطيور.
كما يحضرُ فيلم «كان يا مكان في غزة» (Once Upon a Time in Gaza - 2025) للمخرجين الفلسطينيين عرب وترزان ناصر، في عودةٍ قويَّةٍ لهما من خلال قصَّة انتقامٍ تتحوَّل إلى مواجهةٍ داخليَّةٍ وسط قلب غزة، ويؤدِّي البطولة نادر عبد الحي، ويأتي هذا الفيلم امتدادًا لمسيرتهما الدوليَّة بعد أعمالٍ مثل «غزة مونامور» (Gaza mon amour - 2020) و «ديجراديه» (Dégradé - 2015).
كذلك تشارك المخرجة التونسيَّة أريج السحيري بفيلم «سماءٌ بلا أرض» (Promis le ciel - 2025)، في عودتها إلى كان بعد فيلمها السابق «تحت الشجرة» (Under the Fig Trees - 2021) الذي عُرض ضمن قسم «نصف شهر المخرجين».
أما في المسابقة الرسميَّة، فتسجِّل السينما العربيَّة حضورًا نوعيًا من خلال مخرجين أوروبيِّين من أصولٍ عربيَّة، حيث تقدِّم المخرجة حفصيَّة حرزي، الفرنسيَّة من أصولٍ تونسيَّة-جزائريَّة، فيلم «البنت الصغرى» (The Little Sister - 2025) الذي يروي حكاية فتاةٍ تتأرجحُ بين قسوة البيئة المحافظة في الضواحي الحياة المتحرِّرة للطلبة في باريس.
كما يشاركُ المخرج طارق صالح، السويدي من أصولٍ مصريَّة، بفيلم «نسور الجمهوريَّة» (The Republic’s Eagles - 2025)، في تجربةٍ سياسيَّةٍ جديدةٍ تلي فيلمه السابق «صبيٌّ من الجنة» (Boy from Heaven - 2022) الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في دورة عام 2022.
ولأول مرَّةٍ يشهد المهرجانُ حضورًا مؤسَّساتيًا عربيًّا واسعًّا من خلال أجنحةٍ رسميَّةٍ تمثل السعوديَّة، العراق، فلسطين، الجزائر، المغرب ومصر، إضافةً إلى شراكةٍ بين مهرجانَي القاهرة والجونة ومركز السينما العربيَّة، إلى جانب حضورٍ لافتٍ لأبرز المنتجين والموزِّعين والنقاد العرب.
ومع هذه المشاركة المتنوِّعة، يظلُ الأمل معقودًا على جيلٍ جديدٍ من السينمائيِّين العرب الذين يحملون إلى العالم قصصهم وأسئلتهم وجرأتهم.