محمود المليجي: أنتوني كوين الشرق

ثمة قائمة طويلة من الأسماء التي حققت شهرة واسعة في تاريخ التمثيل العربي. وصل بعضهم إلى النجومية ولكن قلة منهم يمكن تصنيفهم كعباقرة. ومن أبرز هؤلاء العباقرة محمود المليجي، الذي توفي قبل 38 عامًا في 6 يونيو 1983، أثناء تصوير دوره الأخير في فيلم «أيوب» للمخرج هاني لاشين.

وُلد محمود المليجي في 22 ديسمبر 1910 في حي المغربلين في قلب القاهرة لأسرة من الطبقة المتوسطة، انتقلت بعد فترة وجيزة إلى حي الحلمية. انجذب المليجي في طفولته إلى فن التمثيل، إذ كان يسير في أثر العروض المسرحية التي تقدمها الفرق المتجولة في حي السيدة زينب.

حاول كثيرًا تقليد المسرحيات التي شاهدها. وعندما التحق بمدرسة الخديوية الثانوية، اتصل بجماعة الممثلين الذين كان يدربهم عمالقة المسرح، أمثال جورج أبيض وعزيز عيد وفتوح نشاطي.

يروى المليجي حادثة كادت أن تقلب مسار حياته كليًا، عندما أخبره عزيز عيد أكثر من مرة أنه لا يصلح لمهنة التمثيل. بعث هذا الكلام الحزن في نفسه، بل ودفعه أحيانًا إلى البكاء. ولكن، ما إن أوشك أن يعترض على مُعلّمه، فإذا به يتفاجأ بِعيد وهو يخبره أنه كان يختبر إصراره على ممارسة هذه المهنة، ويؤكد له أنه بالفعل ممثل موهوب. وقد حثّه على الانضمام إلى الفرقة المسرحية التي كانت تديرها زوجته فاطمة رشدي في عام 1930.

أُعجبت فاطمة رشدي بأدائه في مدرسة الخديوية، وقد استمر المليجي في ارتقاء سلم الأدوار التي مثّلها حتى برز على أقرانه من الممثلين.

انفضّت الجماعة بعدها بفترة، ثم اتجه الملّيجي إلى العمل في فرقة رمسيس المسرحية، حيث ردّه مؤسسها يوسف وهبي خطوات عدة إلى الوراء، إذ اختار له أدوارًا ثانوية ومساعدة، حتى إنه أقرّه في بعض الأحيان على دور المُلقّن. 

غير أن فاطمة رشدي كانت مُتيقنة من موهبة المليجي، وهكذا أقدمت على خطوة فتحت له أبواب الشهرة والنجومية على مصراعيها. ذلك أنها اختارته، وهو لمّا يبلغ من العمر 23 عامًا فقط، ليشارك إلى جانبها في بطولة فيلم «الزواج» الذي أنتجته وأخرجته في عام 1933.

انطلقت بعدئذ مسيرة المليجي السينمائية الحافلة التي تمخضت عن 350 فيلمًا، وهذا ما جعله أغزر الممثلين إنتاجًا في السينما العربية، متجاوزاً فريد شوقي وأمينة رزق اللذان عمّرا أطول منه على الشاشة وفي الحياة.

في بداياته، أدّى المليجي عددًا من الأدوار الصغيرة، كان أهمها في فيلم «وداد» (الصادر في 1936 بإخراج فريتز كرامب) وفي فيلم «قلب المرأة» (الصادر في 1940 بإخراج توجو مزراحي). على أن فيلم «شهداء الغرام» (الصادر في 1944 بإخراج كمال سليم) كان الفيلم الذي عاين فيه المتفرجون لأول مرة تلك الصفة التي ارتبطت بشخصية محمود المليجي على الشاشة، وهي شخصية الشرير، التي لعب دورها بعد ذلك في كثير من الأفلام، حتى بات يلقب بـ "شرير الشاشة". 

انتُقد المليجي لأنه تقمص بإذعان صورة الشرير النمطية، ولعل السبب في هذا شيوع المآسي والميلودراما في تلك الحقبة. وبما أن هذه الأنواع من الأفلام كانت بحاجة إلى مؤامرات شريرة، وتحريض على العداوات والأذى، وإغواء السيدات وقتل الشرفاء، فقد كان للمليجي دائمًا دورًا محجوزًا في هذه الأفلام. وهذا ما يعلّل الطلب الكبير على خدماته، حتى إن عدد الأفلام التي كانت تعرض عليه في العام الواحد فاقت 20 فيلمًا.

على أن محمود المليجي، الذي كان يمتلك قدرات تمثيلية استثنائية، كان حريصًا على تنويع أدواره وتحسين مهاراته في التمثيل. لذلك، عندما كان الدور يحتاج منه المكر والدهاء، كانت تعابير وجهه تتأهب وعيناه تتقد وصوته يلين. وهذا بالضبط ما فعله في فيلم «غزل البنات» (الصادر في 1949 بإخراج أنور وجدي).

وعندما كان يؤدي دور عضو في عصابة أو رئيسها، كانت تظهر عليه أمارات القوة البدنية، وهذا ما عاينه المتفرجون حينما لعب دور أحد أسوأ الخارجين عن القانون في صعيد مصر في فيلم «الوحش» (الصادر في 1954 بإخراج صلاح أبو سيف). ولعل هذا الدور، الذي أظهر فيه قوته البدنية، فتح له أبواب تأدية سلسلة من الأدوار، بالتزامن مع بروز أفلام الأكشن على يد مخرجين أمثال نيازي مصطفى وحسام الدين مصطفى وحسن الصيفي ومحمود فريد.

استغل هؤلاء المخرجون الشعبية الهائلة التي حققها فريد شوقي طوال الخمسينيات والستينيات بوصفه مثال البطل الشجاع، فأعطوا لمحمود المليجي دور غريمه الأبدي، وبهذا شكّلا ثنائيًا ناجحًا في أفلام حركة، وهذا ما ظهر في فيلم «رصيف نمرة 5» (الصادر في 1956 بإخراج نيازي مصطفى)، وفي فيلم «أبو حديد» (الصادر في 1958 بإخراج نيازي مصطفى)، وفي فيلم «بطل للنهاية» (الصادر في 1963 بإخراج حسام الدين مصطفى). 

بجانب هذه الأدوار، انفرد المليجي ببطولة عدد من أفلام الحركة، كان أبرزها فيلم «ابن الشيطان» (الصادر في 1969 بإخراج حسام الدين مصطفى). ولكن الأدوار الخالدة التي ارتبطت باسم محمود المليجي لم تكن تلك الأدوار التي أدى فيها دور الشرير.

أول هذه الأدوار كان الذي لعب فيه دور شقيق مصطفى كامل، القائد الوطني المصري، في فيلم «مصطفى كامل» (الصادر في 1952 بإخراج أحمد بدرخان)، وثانيها دور الأب المخمور في فيلم «أيام وليالي» (الصادر في 1955 بإخراج هنري بركات)، وثالثها دور المحامي الفرنسي في فيلم «جميلة» (الصادر في 1958 بإخراج يوسف شاهين)، وأخيرًا دوره الرائع في فيلم «الأرض» (الصادر في 1970 بإخراج يوسف شاهين).

في الفيلم الأخير، لم يكن محمود المليجي (لعب دور محمد أبو سويلم) مجرد فلاح عادي يعاني ويلات الفقر والقمع زمن الثلاثينيات، بل كان تجسيدًا لحالة الشعب المصري تحت نير الاحتلال والفساد المستشري في القصر الملكي. وبالرغم من تلك المظالم، استأسد الفلاح المصري في الدفاع عن أرضه ومبادئه، إلى درجة التضحية بحياته، كما تجسّد في نهاية الفيلم. وكانت كاريزما محمود المليجي وأداؤه الرزين وتعبيرات وجهه أمينة للغاية فى نقل تلك المعاناة.

لعل أداءه العبقري هو الذي أحاط الفيلم بهالة السحر التي رافقته وقت عرضه في مهرجانات الأفلام، ولعل هذا الفيلم كان وراء تسمية محمود المليجي "أنتوني كوين" الشرق، على أن زملاءه من الممثلين والمخرجين فضّلوا تلقيبه باسم "الغول".

وقد قال يوسف شاهين ذات مرة إنه كان يخشى النظر في عيني المليجي في أثناء التصوير لأنه كان يتقمص الشخصية التي كان يؤديها إلى حد كبير.

واصل المليجي التمثيل حتى أنفاسه الأخيرة في 6 يونيو من عام 1983، خلال تمثيله في فيلم «أيوب» إلى جانب رفيق دربه عمر الشريف.

الهوامش:

1. الترجمة عن موقع https://english.ahram.org.eg

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى