في أيام الدراسة والعمل والنجاح والفشل كان محمد خان لا يتوقف عن عادته في كتاباته السينمائية لصديق عمره ورفيق مشواره فكان هو هناك في لندن يشاهد الأفلام حيث كانت تأتي من العالم كله بموجاته وثوراته الجديدة إلى لندن، ليقوم بالكتابة عنها لصديقه سعيد شيمي علّه يشاهدها حين تتاح له الفرصة، وتبادلا الرسائل في الحديث عنها، هذا هو محمد خان المشاهد المخضرم والصديق الوفيّ الذي عرفته من خطاباته إلى سعيد شيمي.
«ثلاثيّة الحداثة»
فيلم من إخراج مايكل أنجلو أنطونيونيّ
منذ «المغامرة» (1960 L'avventura) أنطونيونيّ يبني مواضيع أفلامه على جوّ معيّن وأحاسيس معيّنة. حيث خطوط القصص وجدت بدون أيّ أهمّيّة بالنسبة لذلك الجوّ وتلك الأحاسيس. في «المغامرة» اختفاء الخطيبة هو عامل لبناء العلاقة بين الخطيب والصديقة في خلال عمليّة البحث عنها. أمّا بالنسبة لسبب اختفائها أو إمّا سيكتشف وجودها أم لا... فهذا بدون أهمّيّة لأنطونيوني وفيلمه. كذلك في «الليل» (1961 La Notte) شخصيّة بنت الأرستقراطي الّتي تكاد تصبح عشيقة الزوج وخروجها من القصّة، أيضًا بدون أهمّيّة لأنطونيونيّ الّذي ركّز في فيلمه على علاقة الزوج والزوجة النفسانيّة والجسديّة. أما في «الخسوف» (1962 L'Eclisse)وهذا هو أحسن أفلامه بالنسبة لرأيي الخاصّ، علاقة الشابّ والشابّة بنيت مع نفس أهمّيّة المجتمع من حولهم. أنطونيونيّ لا يريد أن يؤكّد أيّ شيء بالنسبة لتصرّفات الشخصيّات... هل سيتقابلون في النهاية أم لا... هذا شيء آخر خارج موضوع فيلمه، وينطبق على نفسيّة وفكر المتفرّج. وفي «الصحراء الحمراء» (1964 Red Desert) أيضًا علاقة الزوجة وزوجها وطفلها وعشيقها علاقات سطحيّة، العمق هو بين نفسيّة الزوجة والمجتمع المقبض حولها.
«بلو أب» (1966 Blow-Up)
فيلم من إخراج مايكل أنجلو أنطونيونيّ
هو محاولة فاشلة في تأكيد نظريّة أنطونيونيّ، ولكنّ هذه المرّة في المجتمع اللندنيّ الحديث. فاشلة كفكرة وليس كتكنيك. بلا شكّ أنطونيّونيّ رجل شاعريّ في تعبيراته السينمائيّة، ومرّة أخرى الجريمة الّتي تحدث في هذا الفيلم ليست هي العقدة الأساسيّة الّتي يجب أن تحلّ، ويثبت ذلك بعدم حلّها بتاتًا، بل إنّ الفيلم بدون عقد واقعيّة. الشخصيّات كلّها سطحيّة، أنطونيونيّ ينظر إلى هذا المجتمع الملوّن الراقص نظرة مريرة، مليئة بالدهشة والخوف والاضطراب. الألوان تلعب دورًا كبيرًا في هذا التعبير، كما حدث في فيلم «الصحراء الحمراء» يحدث هنا مرّة أخرى مع استغلال نفس مدير التصوير «كارلو دي بالما». في فيلم «الصحراء الحمراء» أنطونيونيّ دهن شوارع بأكملها باللون الهادي -بل دهن الحشائش نفسها- . مرّة أخرى في «بلو أب» يدهن منازل باللون الأحمر، ومنازل باللون الأزرق، حتّى إنّه يبني خصّيصًا شكل بالنيون لكي يضاء في الليل… وقد استغلّه في مشهد الحديقة ليلًا حينما يكتشف المصوّر الجثّة، وكلّ هذه الأشياء تظهر لحظات معدودة على الشاشة، ولكن لن أنكر أنّ هذه اللحظات ذوات قيمة كبيرة لتهيئة الجوّ الحديث بأكمله.
إن غلطة أنطونيوني الكبرى هي خروجه عن الخطّ الرئيسيّ بالقصّة بدون أيّ داع مرّات عديدة… ولو أنّ ليس هناك قصّة فعلًا، ولكن هناك خطًّا رئيسيًّا ظاهر مثل الشمس وهو الفنّان المصوّر الشابّ الناجح والمجتمع من حوله، الغريب والخياليّ في مظهره ولو أنّه واقعي فعلًا.
- مشهد الفتاتين اللّتين يثيرونه حتّى ينام معهما معًا على أفرخ الورق البنفسجيّة على الأرض. (المشهد مثير ولعلّك تكون قد شاهدته بدون مقصّ الرقيب)، هذا المشهد بدون أيّ داع بالمرّة بالذات في تطويله، لقد دهشت لمقصّ الرقيب الإنجليزيّ في لقطة سريعة أثناء تعريتهم لبعض، فقد تعوّدنا على رؤية الصدور العارية والمؤخّرات العارية، ولكن لأوّل مرّة في حياتي وعلى الشاشة العامّة أرى في لقطة سريعة، عورة الفتاة ظاهرة وهي تدور على الأرض، لقد شاهدت الفيلم مرّتين، وفي المرّة الثانية تأكّدت من دهشتي هذه، وبعد أن رآه صديق لي… أكّد لي ذلك أيضًا، وما زالت الدهشة مرسى في ذهني.
- مشهد النادي الليليّ بالمغنّين والشباب الّذين يعزفون ويضربون بعضًا في سبيل الجيتار أو جزء من الجيتار المكسور.
- مشاهد الجار الرسّام وعشيقته، لم يزيدوا أو ينقصوا من جوّ القصّة... بلاش أقول قصّة كمان مرّة… من جوّ الخطّ الرئيسيّ.
أما المشهد الأخير ممتاز. الطلبة الجامعيّون في أزياء ومكياجات مختلفة، يجمعون تبرّعات معيّنة في ظيتة وظنبليتة «هذا باللغة العامّيّة طبعًا» ثمّ مباراة التنس الوهميّة، واللقطة الأخيرة له «أيّ الفنّان المصوّر» يشاركهم هذا الوهم، شاعرًا فجأة مع كلوز عليه.. بشيء غريب وسؤال غريب يتبادر إلى ذهنه: «هل هذا خيال أم واقع؟»، وطبعًا مكر أنطونيّونيّ يعطينا مع هذه اللقطة صوت كرة التنس فعلًا في الباكجراوند ليثبت هذه النظريّة. وفي هذا المشهد نشعر فعلًا بأنه ما كان الفيلم يدور في خطّة المتفرّع عنه… فالجوّ والأحاسيس الأنطونيّونيّة موجودة دائمًا من لقطة إلى أخرى، حتّى يبني لك بالتدريج جوّ المكان، فتشعر بوجودك فيه.. الديكور باستوديو الفنّان، روعة سينمائيّة، واستغلال مدير التصوير للألوان والإضاءة بلا شكّ موهبة. مع كلّ هذه الملامح الحسنة، شعرت بندم لأنّني توقّعت شيئًا أحسن من أفلام أنطونيّوني السابقة، ربّما إذا شاهدته مرّة ثالثة ثمّ مرّة رابعة لبدأت أقع في غرام الفيلم نفسه، ولكن متأكّد أنّ غرامي لهذا الفيلم سيكون دائمًا غرام نظريّ وسطحيّ، وليس عميقًا كما شعرت في «الرحلة» و«الليل» و«الخسوف» و«الصحراء الحمراء». «المكبّر» فيلم يستحقّ الاحترام والتقدير... والنقد، لأنّ به روحًا من الإخلاص والمحاولة… عن البحث في عالمنا هذا عن أحاسيس وأجواء.
«رجل وامرأة» (1966 Un Homme Et Une Femme)
فيلم من إخراج كلود ليلوش
هذا الفيلم عن الحبّ في شبه قصّة عاديّة، ولكنّ الشيء الغير عاديّ هو الإخراج والتصوير، الفيلم عبارة عن مشاهد في مثل أبيات الشعر. والكاميرا تتحرّك وتلتقط الوجوه وكأنّها ريشة الرسّام، ترسم وجوهًا جميلة. إنّك لن تنسى جمال الألوان والتصوير في هذا الفيلم أبدًا… أبدًا. هناك مشاهد كثيرة يستعمل فيها الفلترات، فنرى مشهدًا بأكمله رماديًّا، وآخر أخضر، وآخر أزرق، وحسب المشهد يتغيّر نوع الألوان. هذا الفيلم حقًّا هو فيلم المصوّر… الّذي هو المخرج أيضًا. أنّك ستحبّه وتحبّه لدرجة أنّك تريد أن ترى الفيلم مرّة بعد الأخرى. هذا الفيلم حقًّا هو فيلم الموسم من نوع الأفلام الشاعريّة الّتي تريد أن تعبّر بطريقة جديدة… طريقة ممتازة ومخلصة.
«السعادة» (1965 Le Bonheur)
فيلم من إخراج: أنييس فاردا.
عدد النساء المخرجات في السينما قليل، وأنييس فاردًا بلا شكّ أحسنهم، بجانب ثقتها في مقدرتها فنّيًّا، أفلامها تعبّر بإخلاص وبغرابة عن مشاعر مختفية في أعماق الشخصيّات. بدأت حياتها كمصوّرة فوتوغرافيّة وذلك التأثير ملحوظ في أفلامها ثمّ حياتها الشخصيّة، وهي زوجة للمخرج جاك ديمي مخرج «مظلّات شربور» (1964 The Umbrellas of Cherbourg)، وزميلة لـ آلان رينيه مخرج فيلم «هيروشيما حبيبتي» (1959 Hiroshima, Mon amour)، إذ يضيف إلى مواهبها الشخصيّة عوامل كثيرة. فبجانب اسلوبها نجد أحيانًا مقاطع سريعة لأشياء موجودة في حجرة ما، ممّا يذكّرنا بأسلوب رينيه، وحتّى أنّه نفسه في عام 1955 قام بعمليّة مونتاج فيلم صغير من إخراجها، كما هذه المرّة ، تذكرنا الألوان وبراعة اختيارها للديكورات والأماكن بألوان جاك ديمي في «مظلّات شربور».
إنّني أقدّم نبذة عن ماضي هذه المخرجة لأنّه يحتوي على العوامل والنتائج الّتي نراها في هذا الفيلم الحديث، أوّل أفلامها الطويلة كان عام 1958 وتدور أحداثه عن امرأة حامل تتجوّل في باري، كما كانت أنييس فاردا نفسها حاملًا أثناء مرحلة تصوير الفيلم، أما ثاني أفلامها الفيلم الشهير «كليو من 5 إلى 7» (1962 Cleo From 5 to 7) عن المغنّية الّتي تتوقّع الموت وتودّع باريس. أمّا هذا الفيلم الّذي يحمل عنوانًا بسيطًا وهو «السعادة»، مليء بالجمال وروح السعادة نفسها، اختيار فاردا لشخصيّة النجّار الشابّ الفلّاح الزوج والأب، كان أساسيًّا لتجنّب تعقيدات مبادئ وفلسفة رجل المدينة مثلًا، إذن فالسعادة تتطلّب بساطة الشخصيّة والمجتمع من حوله.
هذا الشابّ سعيد في زواجه ويحبّ زوجته الشابّة، الخياطة الفلّاحة والأمّ، هذه السعادة نراها في منزلهم وفي رحلاتهم الأسبوعيّة، إلى الحقول بين الورود والخضار وموسيقى موزارت الّتي تضيف الكثير لتكوين روح السعادة. يقابل هذا الشابّ فتاة أخرى، يحبّها وتحبّه ومعها يجد نوعًا آخر من السعادة أيضًا، إنّه يعترف لها ويؤكّد أنّه يحبّ زوجته أيضًا.. فهذا الرجل وجد بل اكتشف أنّه يستطيع أن يجد السعادة مع زوجته ومع الفتاة دون أيّ تأثير. وتقبل الفتاة هذا الوضع، وحتّى زوجته حين تسأله عن السعادة الزائدة الّتي تراه فيها، يخبرها أنّه وجد مزيدًا من السعادة ويعترف لها، فبعد تردّد تنسى وتقبل، وربّما تحاول أن تنسى أو تقبل. وبعد ذلك فورًا تموت الزوجة. إمّا كان ذلك انتحارًا أو حادثًا، فالمخرجة تترك هذه النقطة غامضة، فبالنسبة لموضوعها ليست لها أيّ أهمّيّة. يصبح الزوج حزين، وطفلاه في حاجة إلى حنان مفقود فيتزوّج الفتاة وتستمرّ السعادة في المنزل وفي الحقول.
إن دراسة المخرجة للسعادة وبساطتها مخيف بالذات في مجتمعنا المعقّد... فهي تؤكّد أنّ السعادة موجودة في كلّ مكان، وكلّ ما علينا هو أن نعترف بها ونأخذها إلى أنفسنا. نرى الزوج في سعادة تامّة وإخلاص في أحضان زوجته، ثمّ نراه في سعادة أخرى وإخلاص في أحضان حبيبته ، لكلّ من المرأتين نوع من السعادة، وذلك الرجل وجد احتياجه لذلك النوعين، الغيرة ليس لها مكان في هذه السعادة... إذا بدأت أن تنمو فقد انتهى كلّ شيء. تحرك فاردا الكاميرا بمهارة خاصّة بالمشاهد الداخليّة عكس بعض المخرجين الآخرين، فإذا كنّا قد شاهدنا «كليو من 5 إلى7» فتتذكّر الكاميرا في استوديو المغنّية، وهذه المرّة أيضًا، حيث النعومة والسهولة في تكوين كلّ مشهد في المشاهد الخارجيّة، بزواياه وإضاءته الخلّابة. هذا الفيلم من أجمل الأفلام الملوّنة الّتي شاهدتها في حياتي... فالسعادة نفسها تتطلّب ذلك الجمال. لقد بدأ الفيلم في الربيع في رحلة ريفيّة، الزوج والزوجة والطفلين وانتهى الفيلم في الخريف في رحلة ريفيّة، الزوج والفتاة والطفلان، السعادة في كلّ كادر وفي كلّ لحظة ومع كلّ لفظة.
«مدموازيل» (1966 Mademoiselle)
فيلم من إخراج توني ريتشاردسون
هذا الفيلم كان بالنسبة لي مفاجأة في نوعه، في تأثيره وفي أسلوبه. «توني ريتشاردسون» أخرجه في فرنسا باللغة الفرنسيّة، ولكنّ النسخة الّتي شاهدتها مدبلجة إلى الإنجليزيّة قبل أن أعبّر عن تأثّري من هذا الفيلم سأذكر لك ملخّص القصّة: (مدرسة فرنسيّة في قرية بفرنسا، نفسيّتها مليئة بالعقد من الناحية الجنسيّة خاصّة)، هناك أرمل إيطاليّ يعمل مع ابنه وزميله على قطع الأشجار في الغابات المجاورة، أهل القرية -خاصّة الرجال- يكرهون الغرباء الإيطاليّين، لأنّ الأرمل خاصّة يجذب إليه النساء. يقع ابنه الصبيّ في سحر المدرسة، في شبه حبّ بريء ليتحوّل إلى كراهية مريرة، المدرسة وهي المدموازيل تتسبّب في خرائب كثيرة عمدًا، مثلًا تغرق بعض الأراضي، تسمّم البهائم وتقيم الحرائق.. الكلّ يتّهم الأرمل الإيطاليّ المظلوم. في النهاية تستطيع المدموازيل أن تنال الأرمل في ليلة جنسيّة، ثمّ في اليوم التالي تتّهمه بأنّه اغتصبها، رجال القرية وجدوا الفرصة ليثأروا من الرجل فيقتلوه. تسافر المدرسة في منتهى البراءة، ويعود الصبيّ البريء الّذي يحمل الحقيقة في صدره إلى بلده، بجانب قوّة التمثيل وجمال الصورة الّتي هي: بالأبيض والأسود وبالشاشة البانا فيزن (Panavision) الواسعة، هناك شيء تجريبيّ وممتاز، الكاميرا لا تتحرّك أبدًا طوال الفيلم، الفيلم يقوم في شبه كادرات مدروسة من زوايا مدروسة وباكجراوند عميق، والشخصيّات هي الّتي تتحرّك فقط، النتيجة ليست مسرحيّة بالمرّة بل لدهشتي بإمتياز. لقد بنى ريتشاردسون بهذا الأسلوب جوًّا للقصّة والريف الفرنسيّ، جو لن تنساه. هناك لقطة ممتازة (كلوز أب) لوجه المدموازيل، وهي تنظر في عينيها بسعادة نحو حريقٍ هي الّتي سبّبته، ونرى الحريق نفسه معكوس في عينيها. هذا الفيلم لا بدّ أن تشاهده لترى بعينيك أنّه من الممكن أن لا تتحرّك الكاميرا أبدًا، ومع ذلك هناك قوّة كبيرة، بلا شكّ.. الشاشة الواسعة تلعب دورًا كبيرًا في هذا الأسلوب الخلّاب.
«مذکّر مؤنّث» (1966 Masculin Féminin)
فيلم من إخراج جان-لوك غودار
الملخّص: «بول» يقابل مادلين الّتي تريد أن تصبح مغنّية .
الفيلم يتناول حياتهم حيث يغيّر بول عمله من التجارة إلى الصحافة ثمّ إلى باحث اجتماعيّ، بينما تبدأ مادلين في النجاح كمغنّية، يعيش بول في شقّة مع مادلين وصديقتيها إليزابيث وكاترين، الّتي تحاول أن تعرقل علاقة الاثنين. مادلين تصبح حاملًا وبينما «بول» و«مادلين» يزورون شقّة جديدة سيشتريها هو من الورثة الّذين حصلوا عليها، ولكن يقع من الشرفة ويموت. تقول مادلين: للبوليس أنّها كانت حادثة، مثل هذا الملخّص المشتّت أفلام جودار ليست إلّا ريبورتاجات عن الحياة المصوّر، هذه المرّة ليس راؤول كوتار كالعادة بل مصوّر آخر.
كان جودار يريد أن يثبت أنّ تحرّكات الكاميرا في أفلامه من تصميمه هو فقط أو ربّما لأنّ «راؤول كوتار» كان مشغولًا بفيلم آخر ولكن بينما يهدف الفيلم ليكون ريبورتاج عن المجتمع الحديث الفرنسيّ، يحاول أيضًا أن يدرس بعض من الشباب الفرنسيّ الحديث. هذان الخطّين لا يجتمعا أبدًا، ربّما من المستحيل جمعهم في أسلوب مثل أسلوب جودار… وفي مراقبة أفلامه هذا الضعف —أيّ فيلم من أفلام جودار— ثقافة أو الأصحّ يسجّل ثقافة مرحلة معيّنة من المجتمع. هنالك سحر، سحر بدون أسباب وبدون نتائج. سحر مؤقّت يسيطر على المتفرّج أثناء العرض لدرجة غريبة. الكتب والمجلّات، الأغاني والسياسات العالميّة هي المزيج الّذي يصنع سيناريوهات أفلامه، التعليقات لا تلفظ في الحوار بل تظهر كعناوين وأفلامه تقسّم إلى أبواب ثمّ عناوين أو أرقام، والأرقام ليس من الضروريّ أن تكون متتالية بل أحيانًا القطع من لقطة إلى أخرى بدون تسلسل، هذا ليس خطأ، بل تعمّد في الإخراج لكي يقول لنا جودار دائمًا أنّ ما نشاهده ليس إلّا فيلم سينمائيًّا إنّه لا يريدنا أن ننفعل مع الشخصيّات، لا يريدنا، كلّ ما يطلب منّا أن نشاهد فيلمًا سينمائيًّا مركّبًا تكنيكيًا، أن نحبّ أو نكره الشخصيّات، لا يريدنا أن نفكّر فيما شاهدناه وبينما سنشاهد بعدّة لقطات.
الموسيقى تسمع ثمّ تقف ثمّ تسمع مرّة أخرى… إلخ. هذه الهرجلة السينمائيّة هي في نفسها سحر أفلام جودار الّتي تسرق انتباهنا واهتمامنا وتعليقنا عليها. هذا لا يعني أنّ أفلامه أو هذا الفيلم ليس بذكيّ، بل بالعكس الفيلم في منتهى الذكاء والدهاء والفكر، فجودار رجل يعيش حياته الخاصّة في صفحات الكتب والمجلّات والجرائد... هو صحفيّ في دمه وأفلامه عبارة عن صفحات عديدة متنوّعة. إنّه يقدّم الشباب بالفيلم بعنوان «أبناء ماركس والكوكاكولا» الدنيا الّتي تمرّ حول الشخصيّات، دنيا غريبة.. رجل في الشارع عنيف يطلب من البطل علبة كبريت وبها يحرق نفسه اعتراضًا على حرب فيتنام، بينما البطل مشغول عن السبب بأنّ الرجل لم يعد له علبة الكبريت ويعتبرها إهانة.
الزوجة الّتي تخرج خلف زوجها من كافيتريا بعد شجار مع زوجها ليطلق عليها الرصاص في الشارع بينما البطل يصيح بها أن تقفل الباب لأنّ الدنيا برد. انفعال البطل منه هذا غريب في تقديمه لكنّه يعكس أفكارًا ورموزًا عن المجتمع الحديث، (الرجل الّذي يطعن نفسه بخنجر بعد أن يلهي نفسه بإحدى اللعب قد زهق من الحياة)..
كلّ هذا العنف خارجيّ حول الشخصيّات الّتي يقدّمها جودار لكي نهتمّ بها، بينما مقتل البطل نفسه بوقوعه من الشرفة، لا نراه أبدًا على الشاشة بل نسمع عنه حينما تذكره البطلة للبوليس. إنّ تعدّد الأفكار والمواقف واللمسات لا يمكن أن أكتب عنها بالتفسير في صفحة أو صفحتين أو ثلاث فقط… بل ربّما الأصحّ أن أقول لا يمكن أن أكتب عنها أبدًا، أفلام جودار لا تشاهد لكي تنقد أو يكتب عنها، بل تشاهد في سبيل المشاهدة فقطّ، لأنّها كصورة دائمًا حيّة، دائمًا دسمة، دائمًا ذكيّة ودائمًا معلّقة... أفلام جودار هي سينما حرّة ونقيّة، لا تقف القوانين السينمائيّة أمامها كعقبة، فهي تكسر أو تلغي …القوانين هي الحياة نفسها فقط.
«بيرسونا» (1966 Persona)
فيلم من إخراج إنجمار برجمان
هنالك شعور مُقبض بعد مُشاهدتي لأيّ فيلم من أفلام «إنجمار برجمان» فإنّي أسأل نفسي، ماذا حدث للسينما بين الفيلم السابق الّذي شاهدته له وهذا الفيلم؟ هل تقدّمت؟ هل تغيّرت؟ والجواب هو أنّ هذا المخرج العبقريّ دائمًا يسبق المستوى السينمائيّ بعدّة سنوات، فهو في القمّة والأفلام الأخرى لا تزال تحاول أن تلحق به هل تكنيكه هو السبب ؟ لا. هل موضوعه هو السبب ؟ ربّما. إذن ما هو السبب الأكيد... في رأيي هو أنّ (برجمان فيلسوف بمعنى الكلمة، فمواضيعه ومعالجته، لهما طبيعية تصبح فلسفية، هذا أيضًا يحدث بالنسبة لتكنيكه البسيط والهادئ الّذي في زواياه وفي تحرّك كاميرته لتصبح مرّة أخرى طبيعية فلسفية). ولكي تسمح لنفسك بالتفكير في أيّ فيلم من أفلامه لا بدّ أن تكون قد شاهدت شيئًا من عمله السابق لأنّ في كلّ عمل له هناك روابط فلسفيّة بأعماله السابقة.
الصمت في فيلم «الصمت» (1963 The Silence) كان هو المكان أمّا هنا فالصمت يحدث فعلًا جسمانيًّا، سأوضّح نفسي إليزابيث الممثّلة الّتي فجأة توقفت عن التمثيل أثناء إحدى المسرحيّات وصمتت منذ ذلك. فقد شعرت فجأة أنّ كلّ تمثيل هو كذبة وكلّ حركة كذبة، فمن الصعب أن تقول الحقيقة ومن السهل الكذب. لذلك فجأة صمتت. الحقيقة تؤلم والكذب يريح ولكنّها فضّلت الألم. فهي تريد أن تكفّ عن الكذب والطريقة الوحيدة لذلك هو الصمت التامّ ثمّ هنالك «ألما» الممرّضة الّتي تهرب من الماضي في الكلام أي الكذب. وبينما «ألما» تحاول الخداع والطرق لتجعل إليزابيث تتكلّم، تجد نفسها تقترب منها نفسانيًّا وكأنّ الاثنين أصبحا شخصيّة واحدة، ومن هذا المعنى يأتي عنوان الفيلم نفسه. فـإليزابيث تراقب الممرّضة وتخرجها من شخصيّتها الحقيقيّة حتّى إن تصبح هي فعلًا ممرّضة في دور تمثيليّ بالمستقبل. وكأنّ الممرّضة في الحياة ستكون في المستقبل الممرّضة على المسرح، وبينما تحاول «إليزابيث» في صمتها ذلك، «ألمًا» تصبح جزءًا من إليزابيث الممثّلة. فحينما يعود زوج الممثّلة الأعمى ويخطئ في حجرة نوم زوجته وينام مع الممرّضة، تقول له بعد العمليّة الجنسيّة أنّه كان ممتازًا فيها. هذه هي كذبت… هذا هو تمثيل. وتزداد محاولات «ألمًا» في جعل الممثّلة «إليزابيث أن تتكلّم ولكنّ تأثيرها دائمًا سريع وغالبًا صامت. وبالتدريج تكتشف «ألمًا» أنّ الممثّلة لا تحتاج إليها كممرّضة بل تستغلّها كإكسسوار وكأنّ حياتها هو المسرح نفسه وكلّ شيء حولها هو الإكسسوار. ولكنّ اكتشاف الممرّضة لذلك متأخّر. بعد أن استغلّتها الممثّلة في كلّ شيء حتّى في علاقة جنسيّة بينهم. إنّ الممرّضة فقدت دون أن تدري كلّ شخصيّة فيها وأصبحت هي الممثّلة. هذه الفلسفة المعقّدة ينجح هذا المخرج العبقريّ في تحويلها إلى فيلم سينمائيّ رائع. بينما تتكلّم الممثّلة أخيرًا، الكلمة الّتي تقولها هي "لا شيء" فقط.
فيلم غريب ساحر وممتع، وكما ترى من الصورة حساسيّته وعفويّته في كادر واحد قوّة ذلك، برجمان يقول لنا أنّ فيلمه ليس إلّا كذبة أخرى، ففجأة نرى الصورة تهتزّ وتحترق تعود كأنّ آلة العرض وقفت ثمّ بدأت صورة أخرى
أريد أن أكتب بعض الأشياء عن فيلم شخصيّة «بيرسونا» الّتي هي شرح وتفسير لبعض الأشياء بالفيلم يفتتح الفيلم على بقعتين من النور على الشاشة وكلّما نقترب منهما ويكبرا في حجمهما تجد أنّهما شعلتان يكادان يلمسا بعضًا. فهذه الشعلتان هم الكربون داخل آلة العرض وحينما يلتقيان تبدأ الآلة في العمل. ونرى في لقطات أخرى الفيلم وهو يدور داخل الآلة أمام عدسة العرض ثمّ الشاشة البيضاء والنور عليها وقطع من أفلام قديمة وعدّة لقطات رمزيّة تمثّل العنف والرهبة، مثل يد تفحّص، عين أرنب، أو ميّت يفتح عينيه على صوت الهاتف. كلّ هذه الأشياء يضعها برجمان لكي يقول لنا أنّ ما سنشاهده هو فيلم سينمائيّ وأنّ هذا العنف وهذه الرهبة هما وسائل سينمائيّة لتشعرنا به فكما ذكرت في نقدي عن الفيلم أنّ التمثيل هو الكذب وأنّ الكذب هو الراحة، في فلسفته تقول إنّنا كلّنا في الحقيقة ممثّلون وأنّ فيلمه ليس به إلّا ممثّلون فنحن نكذب وهو يكذب معنا. فشخصيّة الممثّلة الصامتة والممرّضة المتكلّمة تلتحمان في شخصيّة واحدة، ويرينا برجمان ذلك في لقطة كلوز كبيرة لوجه الممثّلة حيث بالمزج يتحوّل نصف وجهها إلى نصف وجه الممرّضة، وما التكنيك… هناك لقطة أخرى رائعة الّتي أرسلت إليك صورتها مع النقد، ففي الحقيقة هذه نراه هو وجه واحد… هذه لقطة ممتازة ولا تشعر بالحيلة السينمائيّة فيها من الدقّة في اللقطة تظهر على الشاشة باللون الرماديّ الغامق الباهت وتعطي ذلك المشهد الجنسيّ بينهما نوع من النقاء والطهارة الغريبة في مظهرها .
الحقيقة أنّ براعة هذا المخرج تظهر في شيء هامّ بكلّ أفلامه وهو الوجه ... فالوجه دائمًا هو الشيء الّذي يعبّر عمّا يدور بالقصّة، وبرجمان يؤكّد ذلك بكلوزاته الطويلة الفنّيّة للممثّلين. فإنّ أنانيّة الممثّلة الّتي تعيش كلّ دور حتّى نهايته ثمّ تتخلّص منه، تبدعها الممثّلة السويديّة الّتي قامت به ولو أنّ دورها كلّه تقريبًا صامت. فهي تكفّ عن التمثيل بمسرحيّة إلكترا على المسرح ولا تريد أن تنطق أو تكذب بكلمة أخرى، ولكن في النهاية تجد أنّ في هذا الصمت هو دور في نفسه، تلعبه هي وربّما في المستقبل ستتخلّص منه أيضًا، بل مراقبتها للممرّضة هو استعداد لدور ممرّضة ربّما تقوم به في يوم ما، الممرّضة نفسها الّتي تقول في أحد المشاهد أنّها لا تعرف أيّ شيء عن التمثيل تكتشف في النهاية أنّها هي أيضًا ممثّلة. وينهي برجمان الفيلم على الشعلتين اللّتين رأيناهما في البداية وهما يفترقان. إنّ هذا الفيلم بلا شكّ سيكون كتمثال يزوره كلّ ممثّل سواء في السينما أو المسرح، مثلما جعل المخرج فيديريكو فليني من فيلم «ثمانية ونصف» (1963 81/2) تمثال ليزوره كلّ مخرج. أظنّ كفاية كتابة وإلّا وجدت نفسي أكتب لك مشهد مشهد من ذلك الفيلم العظيم.
«السفينة الحربيّة بوتيمكين» (1925 Battleship Potemkin)
فيلم من إخراج سيرجي أيزنشتاين
مثل طبق البسبوسة بالقشطة الّذي فجأة أتوحّم عليه، شعوري نحو مشاهدة فيلم روسيّ أتى بالطريقة نفسها. ولو أنّي خجول من نفسي لعدم مشاهدة هذا الفيلم الكلاسيكيّ من قبل، بل يزداد خجلي لأنّي ذهبت لمشاهدته لأنّه يعرض مع فيلم روسيّ آخر أكتب لك عنه في صفحة أخرى فهو فيلم يستحقّ المشوار له فقط … ربّما شاهدته أنت فهو كما أتذكّر عرضًا في الجمعيّة بعد 42 سنة منذ إنتاجه ولا تزال الحياة تدبّ فيه لتثبت النظريّة، أنّ الفيلم الممتاز شيء حيّ لا يموت أبدًا، كتب السينما تذكّر هذا الفيلم دائمًا كمرجع للدراسة في فنّ المونتاج خاصّة. فالفيلم الصامت الّذي يريد أن يقصّ قصّة أو يعطي شعور معيّنًا يعتمد فقط على التكنيك السينمائيّ الّذي به سيصل إلى أعماق المتفرّج.
مشكلتنا أثناء إنتاج فيلمنا الصغير «الهرم» ليست إلّا كلقطة واحدة بالنسبة لهذا الفيلم الخالد ولكن ثق أنّنا تعلّمنا من خلال اعتمادنا على التعبير والوصول إلى فكر المتفرّج بفيلم صامت الكثير ... تعلّمنا كيف نعتمد على الصورة فقط، وفي السفينة الحربيّة بوتيمكين قاموس لوسائل التعبير السينمائيّة البحتة . إنّ «آيزنشتاين» يعالج مشكلة تمرّد البحّارة على قوّاد السفينة بسبب الطعام ويعالج الاستقبال الحارّ للسفينة من سكّان مدينة «أوديسا» والهجوم الأخير من الجيش ثمّ عودة السفينة لتلتحق بالسفن الأخرى بهم، يسيطر على أسلوب تدريجيّ مثل «الكريشيندو» الّذي يبني بكلّ جزء نوع من الكلايمكس. ومثلًا فنّ هذا المخرج في استغلال حركة الكاميرا حينما يعبّر عن خروج السفينة من الميناء يعتبر اختراعًا في حدّ ذاته حينذاك.
«حاجز» (1966 Barrier)
فيلم من إخراج جيرزي سكوليموفسكي
قبل أن أستمرّ في نقدي هذا، لا بدّ أن تعتبر وصفي لهاتين الصورتين هامّ لكي أشرح لك شيئًا معينًا وخاصّ بهذا الفيلم وليس من أجل جمال الصور فقط. هذا الفيلم هو ثالث أفلام المخرج البولنديّ جيرزي سكوليموفسكي وأوّل أعماله الّتي أراها . المخرج خرّيج مدرسة السينما في بولندا، وبدأ ككاتب سيناريو مع مخرجين شهيرين مثل «أندريه فايدا» ومثل خاصّة رومان بولانسكي حيث اشترك في كتابة سيناريو فيلم «السكّين في الماء» (1962 Knife in the water) الّذي شاهدته منذ عدّة سنوات. هذا الفيلم قد حاز جائزة بأحد المهرجانات السينمائيّة . والمخرج حاليًّا قد ترك بولندا ليعمل في فرنسا وبلجيكا. هذا الفيلم عنوانه «حاجز» ويرمز للحاجز الموجود دائمًا بين شباب اليوم وعجائز الأمس . إنّني أتذكّر في مصر حينما عرض الفيلم القصير (دنيا) من إخراج (خليل شوقي) أثار إعجاب الكثير بالذات لأنّه مختلف ولأنّه اعتبر فنّ تشكيليًّا. هذا الفيلم أعتبره شخصيًّا تحفة في هذا الفنّ التشكيليّ. إنّه تحفة لأنّه لا يعتمد على ديكورات غريبة أو أشياء مصطنعة، بل يستغلّ الأماكن الواقعيّة نفسها في كثير من الأحيان بخيال لا مثيل له، محوّلًا هذا الواقع بكادراته وإضاءته وقطاعاته إلى جوّ غريب خارج هذه الدنيا. هذه هي روعة هذا الفيلم، فيلم لتفهّمه لابدّ أن تشاهده أكثر من مرّة.
«المرتفع والمنخفض» (1963 Highest and Lowest)
فيلم من إخراج أكيرا كوروساوا
مثلما اقتبس الغرب بعض الأفكار السينمائيّة عن أفلام يابانيّة، اقتبس كوروساوا قصّة فيلمه عن كتاب عربيّ. فالقصّة عن اختطاف ابن رجل أعمال ثريّ في مرحلة يحتاج إلى كلّ قطعة نقود لديه ليسيطر على شركته، ولكنّ السارق اختطف ابن السائق بالخطأ، ممّا يحور القصّة إلى هل قيمة ابن السائق في مثل قيمة ابن الثريّ، ولكنّ كوروساوا يزداد عن ذلك أيضًا في حصر البوليس للمجرم بالتدريج، بينما نحن نرى ونعرف المجرم الفقير الّذي يسكن في حيّ الفقراء ومن نافذة كوخه يرى على التلّ بيت الرجل الثريّ، ممّا يشرح عنوان الفيلم بالمرتفع والمنخفض. الفيلم طويل ولكنّه ليس مملًّا بالمرّة براعة كوروساوا تظهر في تكنيكه، الساعة الأولى تدور تقريبًا في حجرة واحدة وبالشاشة الواسعة ووجود حوالي ثماني شخصيّات بالحجرة. الزوايا واللقطات الطويلة الّتي يستغلّها المخرج تشعرك بنعومة وعمق أسلوبه، الّذي يتغيّر فجأة بالمشاهد الخارجيّة إلى حركة وإثارة، بل إنّ رمزه في التقاط المشاهد بالبيت العالي من زوايا عالية، ثمّ الشوارع وأحياء الفقراء بزوايا منخفضة، في نفسه إثبات لخطّ قصّته، المشهد الأخير رائع، حينما يواجه المجرم في زنزانته قبل أن يعدم بسبب قتله لآخرين، للرجل الثريّ الّذي تسبّب في تحطيم حياته الماليّة، تحمل قوّة سينمائيّة خلّابة.