مثَّل المسلسل التِّلفزيوني « آخر الناجين منّا» (...-2023- The Last Of US) نموذجًا فريدًا في سِلسلة عوالِم البقاء على قيد الحياة، وعوالِم ما بعد الكارثة! وهو النَّموذج التلفزيونيُّ الأول لِلُّعبة «The Last Of Us» التي عُدَّت من أَشهَر ألعاب البقَاء على قيد الحياة خِلال عام (2013)، حيث يمنحنا العمل أبعادًا جديدة لِمفهوم آخر عن الأوبئة التي تعَايشنَا معها الى وقتٍ قريب إَثر أزمة (كوفيد ١٩)، ولا يلتزم المسلسل بأحداث اللُّعبة تمامًا، بل يُؤسِّس لِذلك العالم وشخصيَّاته بطريقة لا تستدعِي مِمَّن يُشاهِده أن يكون من عُشَّاق اللُّعبة الأصليَّة.
إنَّ ما يَجعل عالم «The Last Of Us» استثنائيًا في سِلسلة عوالِم البقاء على قيد الحياة، هو أن الوباء هُنا ليس مخبرِيًا أو ذَا تدخُّلٍ بشرِي تحكمهُ أجِندة سياسيَّة كما هو الحال في سلسلة «الشر الساكن» (Resident evil) على سبيل المثال، بل فطريٌ يُنذر بمخاطر لم يتوقَّعها البشر مِن الأرض، ويصوِّر العمل تلك الفطريات التي اِنتقلت عبر محاصيل الدقيق والخميرة، وهي تسيطر على أدمِغة حاضْنيهَا، بمظهر يعكِس علميًا تعفُّن المحاصيل الزراعيَّة وظهُور الفطريَّات على أَسطحِها، وهذا ما تُعَززه أحداث القِصة عبر ظُهُور عدد من الموبوئين مضى على تحوّلهم وبقائهم تحت الأرض أكثر من (15) عامًا.
وَعلَى عكس مُعظم قِصص صِرَاع البقاء على قيد الحيَاة، لا يكُون المبدأ في هذا العمل اِمتِصاص الدماء، بل العدوى لِضمان سُرعة الانتشار وتكوين خليِّة حَيَّة من الفطريَّات، فالموبوءون -إن صحَّت تسميتهم- لا يستهدفون الأحياء لِامتصاص دِمائِهم كما هو الحال لدى الزومبي، بل لِنَقل العدوى إِليهم. ويبدو ذلك المبدأ جليًّا خِلال حِصَار «تيس» مِن قِبل أحد الموبوئين، ويؤكِّد ذلك المشهد تحديدًا الذي يُجسِّد دراميًا عبر قبلة الموت سُلوك الفطريَّات بِوصفِها مَملكة من ممالِك الكائنات الحيَّة تعيش في صُورة خلايَا مُتصِلة تسعى لِلانقسام والانْتشار.
«قبل معرفتك لمْ أكُن أبدًا خائفًا»
الرَّكض بِاتِّجاه الخوفِ بدلاً من مُقاومتهِ!
مِن اللَّحظة الأولى ينثُر هذا العمل بُذور الخوف مِن القادم، بدايةً من المشْهد الذي يَعود إلى أواخِر السِتينيَّات وينذِر خِلاله الباحث المُستضاف بقابليَّة اِنتشار عدوى الوبَاء وانتصاره على البشريَّة دون أن يَحُول بينهمَا شيء من الأمَان، وربمَا كانت تِلك اللَّحظة مِن الصَّمت بعد حديثه خِلال اللقاء كفيلة بأن تبُث في دواخلنا رهبةَ أن يتحوُّل ذلك إلى واقع ملمُوس نعيشه.
لِلخوف هُنا تذكيرات صادِمة ووحشِية، تُذكِّرنا بأننا نعيشُ في عَالمٍ جاهز لاستِقبال الكوارث! قد تَبدأ بالموت، وتمرَّ بالوباء وتصِل إلى القتل، كما أن الحياة في هذا العالم قائِمة غالبًا على أنقاضِ الموتى، فكُل مَلجأٍ هو مستودعٌ لذكرياتِ أشخاص سابِقين إمَّا عاشُوا فيه أو اِستخدمُوه مؤقتًا كمحطَّة اِختباء.
الخَوف هُنا من أحدِ الموُبوئين يُعادل الخوف من طائفة أكثر عددًا مِنهم، إذ تلتفُّ الفطريات في الشَّوارع والمباني مثل مُولداتِ الكهرباء، وبمُجرَّد أن يُقضى على أحدِ الموبُوئين تصِلُ عبر اِمتداد الفطريَّات إشارةً نابِضة إلى بقيَّتهم تُرشِدهم إلى موقِع الخطر، هذا ما يجعلُ التصدِّي لأحدهم بمثابة مُخاطرة أمام أعدادِهم الهائِلة والممتَّدة عبر تلك الفطريَّات.
يحكُم الخوف تجرِبة العَيش في عَالَم ما بعد الكارثة، ويداهم الشخصيَّات مِن زوايا مُختلفة، الخوف مِن الموت لدى مُعظم شخصيَّات ذلك المجتمع المذعور، والخوف مِن البقاء وحيدًا لدى «إيللي»، لكن القيمة الأعلى للخوف تجلَّت لدى الشخصيَّات التي لم تكُن تحملُ غايةً للعَيش مثل «بيل» و «جول»، تتجلَّى تلك المخاوف حين يُواجهون موت أَحِبَّتهِم؛ لدى «بيل» كانت الوسيلة الفرار من الحياة بعد فقد غايتِه من العيش عند موت الشَّخص الذي أَحبه، أما «جول» فابتلع الهزيمة مُبكرًا عند وفاة اِبنته خِلال الكارثة، لذا فبالتَّأكيد «جول» ليس ضمن الشخصيَّات التي تخاف الموت في هَذا العالم، إذ لَم يَعُد لديه غايةً لِلعَيش، بل رُبما أصبح ما يُخيفه تدريجيًا هو أن يجد سبب حقيقي يدفعه لِلخوف من الموت؛ مُتمثِّلا بطفلة يرعاهَا وهي «إيللي»، على الجهة الأخرى تقِف «إيللي» فَزِعَة أمام حقيقة أن شخصًا آخر أَلِفته يترُكها وحيدةً، مما سيجعلها "خائفة ًأكثر".
رأينا كيف يتحوَّل الخوف لدى العدِيد من الشخصيَّات من الجذور العميقة إلى واقع ميؤُوس منه، «بيل» الرجُل الذي اِستمتَع بالعزلة أصبح خائِفًا من العودة إليها، أما «جول»؛ الرجُل الذي أحبَّ الأبوَّة أصبح خائفًا من ظهور غرائزها مجددًا، و «إيللي» التي طالما حَلمَت بالهروبِ وحيدةً دون رفقة أصبحت أكثر خوفًا أن تعُود إلى تلك الوحدة.