ما بعد الطليعة: الكاميرا التجريبية

September 13, 2023

"لقد كان تعريف الفن دومًا على حسب ما كان عليه في الماضي، ولكنه لم يعد مشروعًا اليوم؛ لأنه أصبح مفتوحًا على ما يريد أن يكون.. وربما ما سيصير إليه".

أدورنو.

مما لا شك فيه أن كل كتابة حول الفن والسينما تحديدًا تستدعي مسائلة جذرية لظروف الراهن الذي نعيشه اليوم، فلهذا العصر -أي القرن الواحد والعشرين- صفات لم تكن متوفرة فيما مضى، ساهمت بشكل ما في تغيير رؤيتنا للعالم والحياة، ومن أهم هذه التغيرات بلا شك سيادة التقنية، مما قاد إلى انفتاح القارات على بعضها، فلم يعد من الممكن الحديث عن قيم محدودة بجغرافية ما، بل على الضد تمامًا حيث نشهد يوميًّا تداخل قيم مستمرًّا بين الحضارات، وقد بلغ أوجه فيما صار يُسمى عصر الإمبراطورية مع هارت ونيغري، أي أننا ندخل عالمًا جديدًا حيث الأرض كلها منزل ضخم، فيه تعدد قيم لم يعد من الممكن ضبطه إلا بمعايير مثل الفردانية والحرية الشخصية وغير ذلك، إلا أن هذه المعايير القيمية لم تعد كافية لتفسير واقعنا المعاصر، بل كثر حولها النقد فيما صار فيما بعد فلسفات ما بعد الحداثة، وإن هذا الوعي العميق بالراهن والانفتاح العالمي يقودنا إلى شيء من الحتمية التاريخية، وأعني أهمية تقبل كل هذه القيم والدخول معها في نقاش نقدي عميق، والأمر يشبه مشاهدة فيلم يتنبأ بغزو فضائيين للأرض، مما يجعل مهمتنا -نحن المشاهدين- أن نوفر كل ما يتطلب لردم الهوة بيننا وبينهم، أي أن نستعد نقديًّا لهذه المواجهة، ونحن اليوم في السعودية نشهد هذا الحراك الفني في عدة أصعدة، ومن بينهما السينما، وعليه يكون السؤال الذي من المفترض أن يطرحه الفنان على نفسه: ما موقفنا الفلسفي والنقدي إزاء هذا الإرث العالمي الذي هطل علينا بغزارة منذ هيمنة التقنية ووسائل التواصل الكونية أي كونية البشر؟ إن سؤالًا مثل هذا يضعنا في مواجهة التاريخ والماضي مباشرةً، ليس تاريخنا فحسب، بل تاريخ الإنسانية بشكل عام، لذلك سأقسم هذه المقالة إلى محورين كبيرين، هما: في المعنى العميق لما بعد الطليعة، وفي المبدأ الجوهري للفن المعاصر؛ وهو الذي أطلق عليه بشيءٍ من الحوار الداخلي بين الحاضر والماضي [الكاميرا التجريبية]، على أن تنتهي المقالة بخاتمة تستعرض ما ظفرنا به، وتعد بسلسلة من المقالات تدور حول السينما التي تُعد -حقًّا- الفن الأكثر حداثة، على الرغم من أن الحداثة ليست هي اللفظ المناسب في مقالة مطلعها ما بعد الطليعة، على أن بيان ذلك سوف يأتينا تباعًا.

ما بعد الطليعة

لا نريد من لفظ ما بعد الطليعة أن يكون بمثابة تنبؤ بموجة ما داخل التاريخ الفني أو السينمائي، بل ما بعد الطليعة هنا تعني الظرف التاريخي الذي وُضع فيه إنسان هذا العصر، حيث وجد نفسه مُثقلًا بتراث فني كبير يجعله في مواجهة مستمرة مع ذاته ومع ممكناته الإبداعية. إن المتأمل في تاريخ الفن في سياقه الغربي1 يلاحظ كيف أن الفن ذاته مر بتحولات عدة؛ فبعد أن كان الفن حِرفة وفي خدمة الدين أو في خدمة التطلعات السحرية، حقق الفن الاستقلالية، مما فجر كل تلك البحوث الفلسفية حول الفن، والتي صارت فيما بعد تحت مسمى الإستطيقا أو الجمالية، وتحديدًا بدأ هذا الأمر مع بومغارتن الذي وضع مصطلح الإستطيقا، وبعد ذلك ظهر كتاب كانط (نقد ملكة الحكم) سنة ١٧٩٠، وهذه تعد محطات مهمة في تاريخ هذا المبحث أي الجمالية، وهو ما قاد إلى تعدد الرؤى في مسائل تشغل كل مشتغل بالفن: ما الجمال؟ ما العمل الفني؟ كيف يبدع الفنان عمله؟ وغير ذلك مما كان يشغل بال أفلاطون وأرسطو قبل ذلك، إلا أنهم قيدوا الفن بالميتافزيقا أو اللاهوت. وعلى كلٍّ يعد القرن العشرون قرنًا مفصليًّا في تاريخ الفن، حيث نشهد ظهور أبرز المدارس الفنية الداعية للتجديد والقطيعة مع الماضي، فنحن هنا نشهد ولادة الانطباعية والدادائية والتكعيبية والسوريالية والفارسالأزرق وغيرها، كل هذه المدارس تملَّكها هاجس هو التجديد والقطيعة مع الماضي والإرث، وذلك، بمعنى أن يحقق الفنان حريته وفردانيته دون أن يُفرض عليه ماهية عمله الفني، إلا أن من بين هذه الثورات الفنية كان هناك مَن يدعو إلى شيء مختلف، أي لم نعد نتحدث عن الطليعة، بل عن ما بعد الطليعة، ولم يعد الحديث عن الحداثة بل عن ما بعد الحداثة، لذلك نسأل بكل مشروعية، على ما أعتقد: ما المعنى العميق الكامن خلف هذه الثورات الفنية؟ وكيف آل الأمر إلى الحديث عن ما بعد الطليعة وما بعد الحداثة؟ إن ما يهمني هنا -حتى لا يطول المقال- هو مسألة بعينها وهي: التجديد. ولا شك أن كل هذه الثورات تدعو للتجديد داخل العمل الفني، وهذا التجديد لا يأتي من فراغ، بل حالة راهنة ملحة تدعونا للتدبر أكثر فيما كنا نعتبره حقًّا لا لبس فيه. إن قيمة الجديد ذاتها هي مَن ستقع عليه المسائلة هنا: فهل من الممكن أن يكون هناك قيمة جديدة بالمعنى المطلق لهذه الكلمة؟ في زعمي أن كثيرًا من هذه الموجات والمدارس في الفن التشكيلي -الدادائية مثلًا- وفي الأدب -جيل البيت- وفي السينما -الموجة الجديدة… إلخ- تضمر معنى غير مفحوص لماهية الجديد، وهو ما قاد إلى أمور عدة منها: ما صار يسميه غادامير بالاغتراب الجمالي، وكذلك صار الفنان -وحتى الفيلسوف- لا يعون تمامًا قواعد اللعبة، ببساطة ليس هناك جديد مطلقًا، وهو ما يعني أننا نلتصق بالتراث والماضي بشكل ما، إلا أن هذا لا يعني أننا نقول بالتقيد بالتراث، بل يعني أن الصراع بين الماضي والحاضر لا يقوم على القطيعة الجذرية مع الماضي، بل يقوم على توظيف هذا الماضي بطرق مستحدثة، وهذا الأمر كان هيغل على وعي به حيث قال: "أما التغيرات التي تحدث في الطبيعة؛ فمهما كان تعدادها اللا متناهي فإنها لا تعرض علينا سوى دورة يعاد تكرارها باستمرار، فليس هناك جديد تحت الشمس يحدث في ميدان الطبيعة، ولهذا فإن التفاعل المتعدد الأشكال بين ظواهرها لا يثير إلا شعورًا بالضجر؛ فالجديد لا يظهر إلا في تلك المتغيرات التي تحدث في المجال الروحي". لذلك ليس من الغريب أن تكون أطروحة موت الفن هيغلية، وليس من الغريب أيضًا أن كل الثورات الفنية ظهرت بعد هذا الإعلان؛ لأن غائية الفن لم تعد كما في السابق، فالفن لم يعد مُشبع الغايات العليا للروح. وهنا نجد أنفسنا أمام نزاع بين الجديد والقديم، إلا أن هذا النزاع لم يأخذ منطقه العميق لفهم ماهية القواعد وكيف تتبدل مع الأزمنة، إن الحركات الفنية لما بعد الطليعة تُثبت -بوعي منها أو بدون وعي- هذه العلاقة الجوهرية بين الماضي والحاضر، أو بين قيم الحداثة والأصالة. فمثلًا نجد الفن المغالطي anachronistes ونجد هذه العلاقة الجدلية بين القديم والحديث جلية، حيث إن هذا الفن يقوم في جوهره على إحداث صدمة بين قيم ماضية وقيم حديثة، كأن نشاهد صورة لحادثة تاريخية قبل ظهور الإنترنت ومع ذلك نشاهد الجميع يحمل جهازه الخاص في عصر لم تكن فيه هذه التقنية أصلًا، وقل مثل ذلك على الدادائية، فهي تمزج بين الصور والأشكال قديمها وحديثها معًا، لذلك يبقى من المهم أن نسأل بعد ذلك: ما المبدأ الجوهري الذي على فنون العصر الحديث أن تتخذه في عملياتها الإبداعية؟

المبدأ التجريبي:

كتب أستروك عن [كاميرا القلم]، وكتب كذلك كراكاور عن [الكاميرا الواقع]، وفي هذه الصياغة تكمن رسالة مهمة، وهي أنه على السينما أن تتمحور حول القلم أو الواقع، لكن ليس الأمر بهذه السهولة؛ لأنه من الضروري أن لا تكون غاية فنٍّ ما صنمية، وإلا لاستحال هذا الفن لشيء يقترب من الوعظ أو الدعاية، فضلًا عن كون قيمة الجمال ذاتها ستسقط في عملية تكرار يُفقدها بريقها. نلاحظ أن هناك مقولات أساسية في هذه البنى الطليعة وما بعد الطليعة مثل مفهوم التكرار ذاته والتجديد والقطيعة وغير ذلك، لذلك نسأل: ما المبدأ الممكن لكل عملية إبداعية؟ لا شك أن التجريب مبدأ يساعدنا كثيرًا في فهم الحياة التي نعيشها، كما أن التجريب يقودنا إلى فهم واستيعاب كل تيار جديد، إلا أن لهذا المبدأ قوانين قَلَّ مَن يراعيها حتى تلك الفلسفات الجذرية في ماديتها، وحتى العلم الحديث يلتف أحيانًا على هذا المبدأ. إن التجريب في جوهره تعليق مستمر لأي حقيقة متعالية على التاريخ والزمان، وهذا التعليق ليس كما هو عليه في مجالَي الفلسفة والعلم، حيث إن الفن خطاب يدَّعي -منذ البدء- بأنه لا يتمركز حول الحقيقة، ولو أردنا تأريخ ظهور هذا المبدأ من الناحية الفلسفية والعلمية، لرأينا أنه وُلد نقيضًا للعقلانية، والتي تعني الرؤية التي تنطلق من قبليات لتفرضها على العالم، بينما التجريب يلتقي العالم بوصفة صفحة بيضاء خالية، وهو ما يسمح لمعطًى ما أن يقدم ما لديه، إلا أن المعضلة الدائمة هي أن ما يُقدم لنا من قوانين نرفعها لمصاف المطلق، ومن ثم نسقط مجددًا في ثنائيات مثل كلاسيكي وحديث وغيره من هذه الثنائيات الصلبة. إن كل التيارات الفنية -على الأقل منذ بداية القرن العشرين- كانت تنطلق من هذا المبدأ أي التجريب، لذلك ما نسعى إليه مستقبلًا هو تطبيق هذا المبدأ بدقة على فن لم يكف حتى اليوم عن تطوير أدواته مثل السينما، فمنذ بداية ظهور هذا الفن كانت هناك تساؤلات عدة حوله: هل السينما فن؟ وهل للسينما قواعد وأصول ثابتة؟ ومنذ بدايتها ظهرت نظريات حول هذا الفن كما عند آيزنشتاين، لذلك فمبدأ التجريب هو دعوة لخوض رحلة الحياة بحرية أكثر، ولا يوجد ما هو أروع من رحلة استكشافية مغلفة بالفن.

هناك كثير من التصورات الخاطئة حول ما يُسمى ما بعد الحداثة أو ما بعد الطليعة؛ لذلك فإن فهم هذه التيارات في عمقها يفتح لنا مجالًا لحوارات نقدية مثمرة، وكما رأينا فإن أحد أهم ما يمكن أن تقدمه لنا هذه الفلسفات والرؤى هو إعادة النظر في علاقتنا بالقيم القديمة والحديثة، ومن ثم نفهم أيضًا ماهية الإبداع الفني الذي يُتصور عادة بأنه خُلق من العدم، بينما الإبداع هو توليف بين قوانين سابقة وحديثة ليس إلا. وهذه ليست بالمهمة الهينة، كما أننا بعد تتبع تاريخ الفن، ندرك بأن المبدأ الذي يحافظ على طاقة الفن دومًا هو التجريب، وهذا المبدأ وُلد مع العلم، إلا أنه يلامس عمقًا بشريًّا دفينًا؛ أي الصيرورة والملل من التكرار، ورغبة جامحة لاستكشاف العوالم. هذه الرغبة بدأت جلية في السينما تحديدًا مع فيلم بونويل «كلب أندلسي» (1929 Un chien Andalou) وفيلم «رجل مع كاميرا فيلم» (1929 - man with a movie camera) وغيرهما كثير، مما سيكون لنا وقفة معه في باقي المقالات. وأخيرًا من المهم أن نعي -عند الحديث عن أي فن- ظروفه وولادته وبقية الفنون المجاورة له. وفي النهاية أقتبس من كتاب «ما الجمالية؟» لمارك جيمينيز حيث يضع أصبعه على صفة الفنان ما بعد الطليعي: «ليس أمام فنان العهد ما بعد الحداثي سوى خيار واحد هو الاستعادة المتكررة للماضي، وهو أيضًا قبول الحاضر، وهو مدعوٌّ بعد تحرره من الطوبى الحداثية إلى التمتع بهدوء ومن دون تطلعات وهمية ومستقبلية بمحاسن العهد الحالي». وسوف يكون هاجسنا في المقالات القادمة: كيف يكون التجريب ممكنًا؟ أي أن نفسح المجال لهذا المبدأ حتى يبلغ أقصى ممكناته، إن كان من الجائز الحديث عما هو أقصى، ومع ذلك ليس التجريب مبدأً كافيًا لجمالية الشيء، كما أن القلم والتضحية بجمالية الصورة لا يعدان كافييين أيضًا لجمالية عمل ما، وكذلك تحويل الفن إلى خطاب يتعاطى الواقع ويجعله مقيدًا وفق مركزية الحقيقة، ولطالما كانت ميزة الفن أنه مبرأ من الاتهام بالكذب؛ لأنه لا يقول الحقيقة.

الهوامش:

1. عندما يقال غربي أو شرقي لا نقصد به أي فصل بين السياقات؛ لأننا نتخذ موقفًا نقديًّا من تلك الرؤى التي تنطلق من مفاهيم مثل الخصوصية الثقافية، ولا يعني ذلك أنه لا وجود للخصوصية، بل يعني بشكل دقيق أن بنية الأفكار بين البشر متجانسة؛ لأنهم يملكون الجسد ذاته ويسكنون الأرض ذاتها، إلا أن الاختلاف بينهم يكون في الزمان فقط، وفي عدد كثرة تطبيق مبدأ التعلم أي المحاولة والخطأ؛ لذلك لا ننتظر الحداثة حتى نبشر بما بعد الحداثة؛ فالتاريخ لا يسير بشكل خطي بل هو أقرب للدائري والمتشظي
المراجع:
1. هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ- دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1986.
2.جيمينيز، ما الجمالية؟- المنظمة العربية للترجمة، 2009.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى