كانت الانطلاقة الأولى للمخرج المجري الموهوب "لاسلو نيمِش" (وفقًا للنطق المجري الصحيح للاسم) في مهرجان «كانّ السينمائي الدولي» عام ٢٠١٥ من خلال رائعته «ابن شاؤول» (Son of Saul)، حيث انتزع "الجائزة الكبرى" وسط ذهول الجميع، ومنذ هذا التتويج العالمي الكبير واصل مسيرته في حصد الجوائز، ليظفر بعدها بجائزة "أوسكار أفضل فيلم أجنبي"، ويصبح بذلك المخرج المجري الثاني في التاريخ الحائز على هذه الجائزة، بعد المخرج المخضرم "استفان سابو" (مواليد عام ١٩٣٨) عن رائعته «مفيستو» (١٩٨١ - Mephisto).
كانت الانطلاقة الثانية للاسلو نيمِش الثانية في «مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي» عام ٢٠١٨ من خلال فيلمه «غروب» (Sunset)، الذي كان ينافس على "الأسد الذهبي". ورغم ما تميز به الفيلم من قوة فنية وجماليات بصرية رائعة وما طرحه من فكر عميق، فإنه لم يحقق الصدى أو النجاح نفسه الذي بلغه في عمله الأول، فنالَ عنه فقط جائزة "الاتحاد الدولي للنقاد". ومع ذلك ظل الفيلم حاملًا لبصمةِ المخرج البصرية والأسلوبية اللافتة جدًا.
اليوم، وبعد غياب طويل استمر لسبع سنوات، يعود لاسلو نيمِش بفيلمه الثالث «يتيم» (Orphan)، ليخوض مجددا غمار المنافسة على ”الأسد الذهبي“ في الدورة الـ٨٢ لـ «مهرجان البندقيَّة السينمائي»، التي انطلّقت فعالياتها في ٢٧ أغسطس وتستمر حتى ٦ سبتمبر ٢٠٢٥. وعلى غرار الفيلمين السابقين للمخرج، فإن نيمش يقدم من خلال هذا الفيلم دراما تاريخية معاصرة، عن سيناريو كتبه المخرج بالاشتراك مع رفيقته المعتادة في الكتابة، الفرنسية كلارا روييه.
نجح لاسلو بفيلمه البديع والصادم «ابن شاؤول» في أن ينزع عن المحرقة دعائيتها، وينقذها من فخ المبالغة الزائدة، ناهيك عن تضخيم الفظائع وتهويلها، بغية تحقيق أكبر قدر من التعاطف، واستنزاف المشاعر، وإيلام العواطف، وتضخيم عقدة الشعور بالذنب. لقد شكل اختيار نيمِش للموضوع، وطريقة التناول والطرح والمعالجة، إضافة إلى العناية الكبيرة بالسيناريو، وأسلوب التصوير، وشريط الصوت، واختيار العدسات، والكاميرا المحمولة، والمونتاج، علامةً فارقةً أكدت لنا أننا أمام مخرج صاحب موهبة فريدة، تشذ عن المعتاد، وتتحدى السائد. مخرج يدفع الجمهور بقوة إلى معايشة الأحداث والتساؤل العميق بشأنها، وإمعان التفكير، بدل الاكتفاء بالاستهلاك أو التسلية.
فكريًا، تتسم سينما لاسلو نيمِش بالجدية الشديدة، والبعد الفلسفي الواضح، والنهج التجريبي الجلي، واستعراض التاريخ ومُساءلته في محاولة لاستشراف المستقبل. مع تركيز خاص على موضوعات جدية مثل الهوية، والذاكرة، والمعاناة الإنسانية، وشقاء الطفولة. إلى جانب رصده لتبعات الحرب والنازية والشيوعية والاحتلال وأثرها على الشخصيات الباحثة بشقاء بالغ عن الحقيقة الغائبة والغامضة والمُلتبسة. هذه السمات تكتسب في فيلم «اليتيم» نبرةً ذات طابع شخصي بعض الشيء، إذ يُعيد المخرج تناول كل ما سبق من منظور ذاتي، محاولًا رصد تأثير ذلك عليه شخصيًا منذ طفولته، وعلى هويته باعتباره من الأقلية اليهودية المجرية في عصر كان فيه اليهود محل شك واضطهاد وكراهية ونبذ.
فنيًا، لا يحيدُ المخرج كثيرًا عن أسلوبه الفني المعتاد، إذ يظل وفيًا لبنية السيناريو القائمة بالأساس على الغموض وعدم اليقين والتشويش والارتباك. فيبقى أسلوبه راسخًا في كل أعماله، بداية من «ابن شاؤول» مرورًا بـ «غروب»، وصولًا إلى «اليتيم» حيث نلمح فيه تجليًا بالغ الوضوح لبصمةِ المخرج. وإن كانت حدة التجريب والتجريد والغموض في «اليتيم» أقل وطأة من فيلميه السابقين. غير أن الثيمة الرئيسية لا تزال بارزة فنحن لا نزال في حضرة التاريخ المعاصر وأمام الموضوعات ذاتها واللايقين نفسه، إذ تحضر رحلة البحث عن الحقيقة، واستكشاف الجذور والهوية، وتجسيد التمزق والتفتت والتشتت الأسري. وإن كنا هذه المرة في صحبة صبي تضطره الظروف والأحداث للنضوج قبل الأوان.
في «غروب»، نجدنا إزاء التاريخ المجري المعاصر، حيث تدور الأحداث في (بودابشت) عام ١٩١٣، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. نتابع فيها رحلة امرأة شابة تبحث عن جذورها وسط مجتمع يغلي تحت السطح. في محاولة أخرى للتركيز على الفرد ضمن سياق الأحداث الكبرى. وبدلا من تقديم نظرة بانورامية شاملة، يركز المخرج الكاميرا على شخصية واحدة فقط، ويدعنا نكتشف الفظائع أو التحولات الكبرى من خلال ما تسمعه أو تشاهده بشكل جزئي. وذلك بتقنية إخراجية، مُسخرّة لخدمة سرد مُلغز، يثير تساؤلات أكثر مما يعطي أجوبة. كما في فيلمه السابق «ابن شاؤول».
في «اليتيم»، يُلاحظ وبقوة تخلى المخرج عن اللقطات الطويلة، والتصوير البؤري، وتهميش الحواف أو ما يجري في جوانب الكادر. فضلًا عن ابتعاده قليلًا عن توظيف الأصوات المتداخلة أو المُبهمة الآتية من خارج الكادر. إلى جانب الاستخدام الوافر للمونتاج، وحركة الكاميرا العلوية والنصفية. وتجنب الكاميرا المحمولة الراصدة للشخصية طوال الوقت.
بصريًا، وبمهارة لافتة، وبفضل المصور السينمائي ماتياس إرديلي، المتعاون منذ فترة طويلة مع لاسلو نيمِش ينجح المخرج في تصوير فيلم فريد بصريًا. ينقل بصدق طبيعة المجر في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي. ليس فقط من خلال الشوارع والبنيات القديمة أو المهدمة أو تصميم الملابس، والصورة ذات الملمس الحُبيبي الخشن، بل أيضًا عبر سيادة اللون البني بدرجاته، المتراوحة بين البني القاتم والبني الأحمر، وإن كانت الغلبة للون البُني المائل للصفرة. اختيارٌ كان له أبلغ الأثر في التلقي الجمالي للفيلم، المصور على خام ٣٥ ملم، وصياغة العالم الضبابي للأحداث، والشعور الدائم بالحصار والاختناق، تماما كما كانت تشعر الشخصيات. ومما عزز من هذا التأثير هو عودة المخرج لاستخدام الكادر الضيق، كما في «ابن شاؤول».
تدور أحداث الفيلم الدرامي، القاتمة والمؤثرة بعض الشيء، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات. ثم تنتقل سريعًا لترصد فترة ما بعد الثورة المجرية وانتفاضة الطلاب ضد الشيوعية عام ١٩٥٦ التي سحقها السوفيت بقسوة. الأحداث مستوحاة بتصرف من التاريخ العائلي للمخرج وطفولته في بودابشت، لكنها في الوقت نفسه ذات بُعد إنساني عام. حيث يتابع الفيلم قصة الصبي أوندور (بويتوريان بوروباش)، البالغ من العمر 12 عامًا، الذي تنقلب حياته الهشّة رأسًا على عقب، عندما تسترده والدته اليهودية كلارا (أندريا فاشكوفيتش) من دار الأيتام التي وضعته فيها، عندما كان رضيعا بسبب الحرب واضطرارها للهرب والاختباء تجنبًا للاعتقال. تدريجيًا، تنهشه الشكوك حول ما أخبرته به والدته سلفًا عن أن والده البطل توفي أو فُقد في الحرب.
تتصاعد الأحداث بظهور رجل غامض، يتسم بالشراسة والعنف والفظاظة، اسمه بيرند (جريجوري جاديبوا) يدّعي أنه والده الحقيقي أو البيولوجي، ويصر على هذا بكل السُبل. غموض الأمر، وبحث أوندور المضني عن الحقيقة غير المؤكدة، يخرجه عن طوره، ويدفعه إلى العصبية والعنف والتمرد والقسوة والتهور. لا سيما، وأن أوندور عرف أن بيرند كان متزوجًا في السابق من امرأة أخرى، وتساوره الشكوك في أنه قتل ابنه. في حين تصر والدته على أنها مدينة بحياتها لهذا الرجل الذي أنقذها وخبأها عنده أثناء فترة هروبها. وبينما يحاول بيرند، بشتى السبل التقرب من أوندور، والعيش معًا كعائلة، لا يقوى أندور على استيعاب الأمر بالمرة. ولا يتقبل واقعه الجديد، بين فاشية وقمع في الخارج، وعنف وقسوة في المنزل. وتبقى مواصلة البحث عن الحقيقة والاستمرار في المقاومة والتمرد هي كل ما يملكه.
كعادته، يترك لاسلو نيمِش الأسئلة الجوهرية الفارقة مفتوحة على كل الاحتمالات والتخمينات، ليزيد الغموض والإثارة والإمعان في التفكير. الأمر الذي يُذكرنا بفيلم «ابن شاؤول»، وعجزنا عن التيقن من أن جثة الصبي هي فعلًا لابن البطل شاؤول أم لا. كذلك، استحالة الجزم بأن شاندور في «غروب» هو فعلا شقيق البطلة إيريس أم لا.
وعليه، حتى نهاية الفيلم، يصعُب علينا الجزم، مثلنا مثل أوندور، إن كان بيرند هو والده الحقيقي فعلا، وإن كانت تصرفات الصبي محض نزق ومراهقة وتمرد وطيش، أم أن هناك ما يدعمها حقًا. ومن ثم، يظل مصير هذه العائلة الغامضة مُعلّقًا، ومتروكًا ومفتوحًا على كافة الاحتمالات. يُعبّر المخرج عن هذا بجلاء في المشهد الختامي الذي نرى فيه الثلاثة معلقين معًا في الهواء في العجلة الدوارة بمدينة الملاهي.
إجمالًا، ومقارنةً بالفيلمين السابقين، يمكن القول إن «اليتيم» ليس الأقوى أو الأجمل فنيًا أو الأكثر متعة وإبهارًا. أما من حيث الأداء، فليس ثمة شك في أن المخرج يتمتع بموهبة لافتة فعلًا في اختيار الممثلين وإدارتهم بمهارة. وإن كان أداء الصبي بحاجة لبعض السيطرة والتحكم للابتعاد عن المبالغة الزائدة في بعض المشاهد. في حين يعتبر السيناريو هو الأضعف بين أفلامه الثلاثة، نظرًا لعدم ضبطه لتصاعد وتكثيف الأحداث، التي كانت بطيئة في البداية بعض الشيء، ثم تسارعت وباتت مشوقة في المنتصف، حتى هدأت وأصبحت شبه متوقعة في ختام الفيلم. أما من حيث بنية المشاهد والتكوينات البصرية والاشتغال الفني وسلاسة المتابعة، فيعتبر «اليتيم» هو الأسهل في المشاهدة والتلقي والتفاعل من بين أفلام المخرج، رغم بعض الإطالة التي امتدت بزمن الفيلم إلى ١٣٢ دقيقة.
نُشرت هذه المقالة بدعم من مبادرة «سينماء» لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي.
