مفاضلة مترددة. لعل الكلام عن المفاضلة بين الأنواع الفنية وقياس بعضها إلى بعض صار، بعد كل هذا التاريخ الطويل، غير مستساغ ولا مقنع، فنحن في زمان ما بعد الحداثة، التي من أسسها الأسلوبية، إثر سقوط السرديات الكبرى، تجنيس كل الأنواع بعضها ضمن بعض. حتى وإن كان كل خطاب ما بعد الحداثة وتنظيره متناقضًا ومردودًا، فهو في حقيقة الأمر ما يحدث داخل المجالات الفنية بدرجة كبيرة، والأهم أنه ما صار يسلكه الغالبية العظمى من المتلقين، فضلًا عن المبدعين، حتى وإن لم يعوا بذلك. فليكن آفةً أو سواها، فهو واقع.
رغم هذا كله فإن الشعر يظل ذا مكانة أثيرة وغريبة في آن، أثيرة بحيث يبدو سحريًّا ويبدو الشاعر دومًا ذا هالة - وإن كانت وهميةً في غالب الأحوال - تضفي عليه وقار الكاهن والحذر من الصعاليك، في آن معًا، وغريبة حيث إن الشاعر في الواقع اليومي صار أقرب إلى الشرذمة والعاطلين منه إلى الكاهن، ضمن عصر نفعيٍّ على نحو مباشر... فيظل بين المكانة الأثيرة - بالمعنى الحرفي، من الأثير وهو الوهمي العالي غير المدرَك ولا المحسوس، مضمنًا في الأفكار والخطاب لا أكثر من ذلك - وبين مكانة مرذولة واقعيًّا ومستنكرة في شوارع عالم لا يتجاوز أن تكون محال أرصفته إما شركات أو ملاهي.
عود أبدي، بالمعنى اللطيف. في واحدة من أبدع قصائده كتب قسطنطين كافافي مستعيدًا صوت شاعر قديم يتكلم على لسانه، قائلًا: «شيخوخة جسدي وحُسني/ ندبةُ مطواة شنيعة/ لست أقدر على احتمالها/ فإليك، يا فن الشعر، أعود/ يا عارفًا ببعض العُقار/ تهدئةً وتبنيجًا/ باللغة والخيال.// إنها لَنُدبةُ مطواة شنيعة/ فهاتِ، يا فن الشعر، عقاقيركَ/ لعلّها تهدّئ ندبتي ولو إلى حين». في هذه القصيدة اختصار لكثير مما يحمله الشعر من قيمة: إنه الملجأ والمستراح. ومن هنا يتأتى وهمُ أنه ذو قدرة سحرية، وهي ليست إلا قدرةً على التذكير بألطف ما يمكن، بالهمس، بأنها لا تساوي جناح بعوضة: الدنيا، وأن وراءها ما هو أجمل، لا بالمعنى الديني وحسب. وفي ذات هذه القدرة تكمن نقطة تسفيهه بأنه غير ذي جدوى، وهذا أيضًا صحيح. والأمر كله، في النهاية، يتوقّف على المتلقي وحساسيّته.
تتحدث القصيدة، في جوهرها، عن الدهر ومروره المروع على كل شيء من خلال مرآة صغيرة تتمثل في جسد المتكلم خلال القصيدة. الشيخوخة هي الخيط الأقرب لإحساسنا بالزمن، الخيط الملتفّ أبدًا. ومع مرور الدهر تطورت وسائل البشر للتعبير وصولًا إلى الفن السابع. لقد ظن البشر أنهم بوصولهم إلى هذا الفن سوف يتجاوزون قدرة اللغة بواسطة الصورة المتحرّكة، إلا أن هذا الظن ما لبث أن انتكس، وظللنا نعود إلى الشِعر، بل ونعود إليه بالصورة. هذا ما اصطُلح عليه بـ«السينما الشعرية»، السينما التي تتوسل بأدوات الشعر لا بأدوات الصورة المتحركة وحسب. نعرف أن في الشعر صورةً أيضًا، غير أنها صورة شعرية. وما تم، أو ما حُووِل إتمامه في السينما الشعرية هو العكس: شعرنة الصورة.
في خضم هذه المغامرة السينمائية تمت عديدٌ من المحاولات بطرائق متعددة، فبدلًا من اللحاق بالقصة وتسريع تتالي الصور في التحريك، تم النقيض بتبطيء الصورة ثم بجعلها تأخذ نفَسًا طويلًا مع عين المتلقي، مثلما تفعل الصورة الشعرية في القصائد حيث لا تتكون إلا عبر تتابع ملحوظ لبناء الجملة في السطر الشعري. هذا يجعل القصة مجرد خيط تُعلَّق عليه الصور بمقابل إعطاء الإحساس. تقاربٌ يطمح إلى أن يقوم مقام ما تقوم به القصيدة: التحسيس من بعيد على الوجع، التنبيه دون وعظ، التذكير بلا هَدي يقينيٍّ، التنفّس ببطء وسط العاصفة. ثم تأتي الموسيقى التصويرية؛ لا سينما شعرية بلا موسيقى تصويرية، وذلك لتعميق كل ما تفقده الصورة من اللغة: الصوت. أما الشعر فإنه يعطي ذلك، بسهولة الماء، فإن لم يكن ذلك بإيقاعه في القصيدة الموزونة، فبالصمت الذي يقرأ فيه المتلقي قصيدة النثر. ولعل ذلك يعطي أفضليةً: واحد-صفر!
أفلام عن الشعر، بدلًا من سينما شعرية. إن كانت روما هي الشعر فالطرق كثيرة للعودة إليها إذن. ثمة ضرب آخر من العودة إلى الشعر في السينما، فبدلًا من توسل أساليب الشعر نفسه فإننا نستطيع الحديث عنه مع المحافظة على أدوات الفيلم من قصة وحبكة ومقدمة ووسط ونهاية وإمتاع بسيط. «مجمع الشعراء الموتى» (Dead Poets Society - 1989)، من إخراج بيتر وير، أشهر مثال على ذلك: عمل يقوم بدور المعلّم وكأن الدنيا كلها حصة أدب. يحاول إعادة الشعر إلى مكانته والتنبيه إلى الأهمية في ذلك، يعظ إنما بمرح وخفة. وزبدته أن الشعر طريقة نظر إلى الوجود، وأن علينا ألا نستهين بالشعراء الأموات فهم أكثر حياة منا. كما قلنا: وعظ مرِح. وثمة فيلم لجيم جارموش بعنوان «باتِرسون» (Paterson - 2016) الذي يحاول أن يرينا شعرية الحياة اليومية عبر شاعر ملتزم بروتينه المنضبط وعمله البسيط: سائق باص. بل لعله، من وجهة نظر أخرى، يضع الشاعر المعاصر في مكانه الصحيح، أن يكون ضمن العمال العاديين، وأن يكتفي بدفتر ملاحظات صغير لتدوين قصائده؛ وربما هذا المكان مكانه لِما قلناه من حالته المعاصرة من التشرذم وسقوط الهالة. أما في العام نفسه فقد صدر العمل الذي حاول جمع الطريقتين: السينما الشعرية والسينما التي عن الشعر. إنه فيلم «شعر أبدي» (Endless Poetry - 2016)، فيلم يقدّم فيه مخرجه أليخاندرو يودوروفسكي سيرته الذاتية - كجزء ثان من فيلمه السيري «رقصة الواقع» (The Dance of Reality - 2013) - واضعًا نفسه لا بوصفه مخرجًا سينمائيًّا بل شاعرًا من خلال تتبع رحلة حياته منذ المراهقة وحتى الكهولة. وبينما يقوم بطل الفيلم (الأنا الفنيَّة للمخرج) بكتابة القصائد والوقوع من حب شاعرة، يقوم المخرج (الأنا الفعلية لبطل الفيلم) بإخراج الفيلم مثل قصيدة عبر الشطح السوريالي وتفضيل المجازي على الواقعي من مبالغات وخيال، ورفض للواقعي بكسر جذع شجرة العائلة.
إننا عائدون، ولا بد، إلى الشعر بوصفه المستراح المتاح دومًا، الذي يهب العطية ولا يعطي بالتزام نبيل بمهمة الفن: تقديم الوهم طريقًا لواقع أفضل، أو للمحاولة في سبيل ذلك على الأقل. ولعل حالة فيلم «شعر أبدي» تغوي بالحديث عن المخرجين الشعراء بالمعنى الحرفي: مثل بازوليني وعباس كيارستمي وفروغ فرخزاد... أو مَن كان أبوه شاعرًا، أعني تاركوفسكي.. غير أن لذلك مقامٌ آخر.