اليابان بين كبسولة الراوي وضوء المشهد الأخير

في دورةٍ غنيَّةٍ بالبرامج، قدَّم «مهرجان أفلام سعودية» طيفًا واسعًا من التجارب البصريَّة، من بين هذا التنوع لفتَتني زاويةٌ حملت طابعًا مختلفًا: اليابان، كما ظهرت في فيلمَين قُدِّما ضمن برنامجَين منفصلين تمامًا. لم يُعرَض الفيلمان في اليوم نفسه، ولم يُقدَّما كثنائيَّةٍ مُتعمَّدة. لكن فكرةَ المقاربةِ بينهما وُلِدت في المسافة الصغيرة التي فصلتهما داخل مهرجان أفلام السعوديَّة في دورته المنقضية.

الأول فيلمٌ تسجيليٌّ بعنوان «الجانب المظلم من اليابان»، والذي حاز في حفل الختام على جائزة النخلة الذهبيَّة لأفضل فيلمٍ وثائقي. الفيلم من تأليف وإخراج عمر فاروق (صانع أفلامٍ ومؤثِّرٌ بحرينيٌّ معروف)، وأُنتج عام 2023، وعُرض في اليوم الثالث ضمن مسابقة عروض الأفلام القصيرة.

أما الثاني، فهو الفيلم الروائي الطويل «أضواء أوزوماسا» (Uzumasa Limelight)، من كتابة وإخراج وإنتاج المخرج الياباني كين أوتشياي، الحاصل على عدة جوائز داخل وخارج اليابان، وأُنتج عام 2014، وعُرض في اليوم السادس ضمن برنامج «أضواء على السينما اليابانية».

الربط بين الفيلمين لم يفرضه توقيت العرض، بل وُلِد من طبيعتهما التأمليَّة، ومن ذلك السؤال الوجوديُّ الذي يسكن كلَيهما، وعلى الرغم من اختلاف وسائطهما من حيث النوع والأسلوب، إلا أنَّ تجربة المشاهدة فرضت عليهما مقاربةً من نوعٍ خاص، مقاربةٌ لا تنطلق من الموضوعِ بل من الإحساس: كلا العملين يتعاملُ مع اليابان بوصفها خشبة مسرحٍ تؤدَّى عليها الحياة، كحيِّزٍ محكوم بالضبط والتمثيل، حيثُ التكرار والانضباط لا ينتجان الطمأنينة دائمًا، بل قد يكونان قناعًا يغطي شروخًا داخليَّة.

«الجانب المظلم من اليابان»: النهاية منذ البداية

يتقمَّص عمر فاروق دورَ الراوي والشاهد في آن، يتجوَّل في شوارع طوكيو ملتقِطًا ما لا يُقال: العيون المنهكة، الإيقاع المتسارِع، ثقافة العمل المستمر التي تحاصرُ الإنسان. يتنقَّل الفيلم بين لحظاتٍ حكائيَّةٍ داخل كبسولة النوم في إحدى الفنادق، حيث يسجِّل الراوي انطباعاته بعد كلِّ محطَّة، معتمدًا على أسلوب التأمُّل الشخصيِّ أكثر من توثيق الواقع من زواياه المتعدِّدة. واحدةٌ من محطات الرحلة هي لقاؤه مع شابٍّ سعوديٍّ في طوكيو يعملُ في مجال تصميم الألعاب، يعيشُ في عزلةٍ واضحة، ويتحدَّث عن ضعف التواصل الإنساني، والإدمان على النمط الاستهلاكيِّ والتقنيِّ في حياة اليابانيِّين.

ينتقل الفيلمُ بعد ذلك إلى الريف، حيث التقى فاروق بعائلةٍ اختارت الانسحابَ من النظام التعليميِّ والعمل اليوميِّ في المدينة، وقرَّرت تعليم أطفالها بأنفسهم، في فضاءٍ مفتوحٍ تحكمه الطبيعة. المدرسة هناك مجرَّد حصَّةٍ واحدةٍ في اليوم، والباقي يملؤه الاكتشاف الذاتي. لكنَّها رؤيةٌ رومانسيَّةٌ لا تُقابَل بنقاشٍ أو نقض. لم نسمع صوتَ الياباني الذي يرى في المدرسة وسيلةً للنجاة، ولا العامل الذي يجد ذاته داخل المنظومة. غابَ عن الفيلم جدل الطبقات، وتحوَّل إلى نشيدٍ فرديٍّ يفتقر إلى صراع الأفكار. استمعنا إلى ثلاثِ شخصيَّاتٍ اختارت الطبيعة: فتاة، رب أسرة، وشاب، يتحدَّثون نفس المنطق عن توحُّش العاصمة والأثر القاتل في معدَّلات النومِ وعبوديَّة العمل، وانعكاس إدمان التكنولوجيا في اليابان على الإدراك والصحَّة. لكنَّ هذا السرد لم يقدِّم الريف كخيارٍ شخصيٍّ وهو بالفعل كذلك حسب شهاداتهم، بل قدَّمه كخيارٍ مضاد، وهذا ما أضعف الرؤية التحليليَّة وحوَّل السرد إلى طابعٍ يوتيوبي، خاصَّةً وأنَّ التحدي في هذا العمل قد بدأ من عنوانه: عنوانٌ يبرِز النهاية منذ البداية، إذ يحمل حكمًا مباشرًا مختزَلًا في نبرةٍ تشخيصيَّة، ممَّا حدَّ من احتمالات التأويل قبل أن يبدأ المتلقِّي بالملاحظة، هذه المباشرة تلقي بظلالها على سرديَّة العمل، فتؤطِّره داخل استنتاجٍ واحد.

على المستوى البصري، تتكرَّر اللقطات بين زحامِ العاصمة وهدوء الطبيعة الريفيَّة، ولم يكن خطيًّا، ففي أحد المشاهد التي يؤكِّد فيها عمرُ ذهوله حول قناعة العائلة الريفيَّة ابتعادها عن كل ما يخصُّ الحياة المدنيَّة ومن ضمنها التعليم المدرسي، تُظهِر لقطةٌ يتحدث فيها الأب قائلا: «دعني أقول لك وجهة نظري في هذا الأمر» ثم تنتقُل الكاميرا إلى حدثٍ عاديٍّ لا يمتُّ للحوارِ الذي يسبقه بصلة، ولا يفسر العلَّة أو السبب! يستمرُّ الفيلم في هذه الزاوية بلا بناء متصاعدٍ أو ذروةٍ سرديَّة. بالمقابل، مثَّل سرير الكبسولة زاويةً مكرَّرةً لتلخيص الانطباعات، لكنَّها لم تُستثمر وثائقيًّا بقدرِ ما بقيت فكرةً شعوريَّة. هذا ما جعل الفيلم أقرب إلى تأمُّلٍ شخصيٍّ منه إلى وثائقيٍّ متعدِّد الأصوات والرؤى بالرغم من تلقائيَّته وفرديَّته، لكنَّه يدفعنا للسؤال: هل الخلاص دائمًا في الانسحاب؟

«أضواء أوزوماسا»: الموت على الشاشة حياة كاملة

في فيلم «أضواء أوزوماسا»، سيرةٌ صامتةٌ لممثِّلٍ ظلَّ يؤدي مشاهدَ الموت طيلة حياته المهنيَّة دون أن يحظى بنهايةٍ دراميَّة، الممثل سيزو فوكوموتو، الذي يؤدِّي ببراعة شخصيَّة «كامياما» الذي يجسد دوره في الواقع ويجسِّد اختفاءه أيضًا. 

تدور القصة حول سيئيتشي كامياما، ممثِّلٌ مسنٌّ يؤدِّي أدوار الموت في أفلام الساموراي في استوديوهات «أوزوماسا» الأسطوريَّة، هو في الحقيقة ممثل ظلَّ لأكثر من خمسة عقودٍ يقدِّم هذا النوع من الأدوار دون أن يحصل على بطولةٍ واحدة. يقدِّمه لنا العملُ كرمزٍ لزمنٍ سينمائي آخذٍ في الأفول، زمنٌ كانت فيه التفاصيل الصغيرة جزءًا من العظمة، وكانت مشاهدُ الموت فنًَا قائمًا بذاته.

يقول المخرج كين أوتشياي، والذي تواجدَ في مهرجان الأفلام بصفته رئيس لجنة تحكيم الأفلام الروائيَّة القصيرة، أنَّه أختار موضوع «أضواء أوزوماسا»، ليحتفي بالممثل فوكوموتو الذي يمثِّل فئة الهامش، ويرثي نمطًا كاملًا من التمثيل بدأ يتلاشى مع صعود نماذجَ الأداء السريع والسرد السطحي، مؤكدًا أنَّه كان يبحث حينها عن شخصيَّات في الساموراي لا تصرخ، بل تموت جيدًا. وهنا تمامًا يكمن الفارق بين التمثيل الذي يُعرَض للعرض، والتمثيل الذي يُؤدَّى كطقسٍ أخيرٍ للحياة.

في أحد المشاهد التي تُلخِّص فلسفة الفيلم، يُدرِّب كامياما فتاةً شابَّةً على أداء السقوط، إذ يقول: «أن تموت بشكلٍ جميل، يعني أنَّك تحترم الحياة أكثر من الآخرين». الموتُ هنا أداء، انتقال وليس منتهى. الفيلم لا يبكي على الماضي، إنما يودِّعه بأناقة.

كلُّ مشهد قتالٍ في الفيلم هو تدوينٌ بصريٌّ لشكلٍ من أشكال الإخلاص: إخلاصٌ للمهنة، للشاشة، للمخرج، ولكن ليس للجمهور! وفي المشهد الذي يُستَبدل «كامياما» لاحقًا بممثِّلٍ شابٍ، لا نجد تعليقًا أو تأطيرًا عاطفيًّا! فقط صمتٌ يكتفي بتسجيل الغياب. والمشهد يعاد لاحقًا من دونه، لكن بلا روح. أمَّا أداء «فوكوموتو» هنا فإنَّه يحملُ الكثير من الصمتِ المكثَّف، ففي أحد المشاهد يستعيدُ تاريخه الطويل بسردِ أرقامٍ طويلةٍ تحوَّلت إلى جزءٍ من جلده: «لقد قُتلت خمسين ألف مرة، لكن هذا يعني أنَّني نهضتُ خمسين ألفَ مرَّة» الجملة قيلت بصوت رجلٍ اعتاد التكرار حدَّ الذوبان فيه، رجلٌ حولَ جسده الذي خذله مع كبر السن، إلى نص، إلى سؤالٍ وجودي: كيف يعيشُ من لم يُطلب منه إلا أن يختفي؟

الخاتمة: بين الانسحاب والوفاء

ينتهي فيلم «الجانب المظلم من اليابان» باقتراح الانسحاب من النظام، أما «أضواء أوزوماسا» ينتهي بالبقاء فيه حتَّى اللحظة الأخيرة. كلاهما لا يعطي إجابة، بل يعرض خيارَين يبدوان متناقضَين، لكنَّهما في جوهرهما صرختان مختلفتان ضدَّ نسقٍ لا يسمح للفرد أن يتنفَّس، ففي كلا العملين يتكرَّر مفهومٌ واحدٌ بأشكالٍ مختلفة: الانضباط، لكنَّه انضباط لا يُكافأ عليه أحد. فمن يعيش في طوكيو لا يصفَّق له، ومن يموت على الشاشة لا يُذكر اسمه.

إذا كانت السينما التسجيليَّة تنقل الواقع، فإنَّ «الجانب المظلم من اليابان» نقل نصفه وهمَّش النصف الآخر. وإذا كانت الدراما الروائيَّة تعيدُ صياغة الواقع، فإنَّ «أضواء أوزوماسا» اخترقته حتى عُمقه. كلا الفيلمين يعيدان تعريف الأداء: الأول بوصفه ردَّة فعل، والثاني بوصفه مصيرًا.

في النهاية، بين فيلمٍ يسجِّل المدينة كما تُرى من الخارج، وفيلمٍ يُمثِّلها كما تُنطَق من الداخل، تتقاطع الحكايتان عند مفترقٍ فلسفي: اليابان بوصفها مشهدًا لا يتوقَّف.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى