لوكينو فيسكونتي وعبقريّته الميلودراميّة والمنفوخة والناعمة

February 11, 2022

في إحدى أيام نيسان عام 1944، قبض الجنود الفاشيّون على الكُونْت لوكينو فيسكونتي دي مودروني، في مدينة روما. كان الكُونْت شيوعيًّا مخلصًا منذ أواخر الثلاثينات؛ إذ أجار أعضاء حزبه في منزله، بل وباع جواهر العائلة ليموّل هزيمة موسوليني. كما يقول بيتر بوندانيلا في تاريخ السينما الإيطالية، سُجن فيسكونتي لعدّة جنايات ارتكبها ضدّ الدولة، وضُرب ثلاثًا في اليوم الواحد. خُتم ملفّه بهذه الكلمات «ليُرمى بالرصاص»، قدرٌ محتوم لولا قدوم الحلفاء لإيطاليا في بواكير حزيران. بعد مضي عدة أشهر، إبان سيرته المهنية الشامخة، طلبه الحلفاء ليخرج فيلمًا عن إعدام آمر سجنه الذي أشرف على تعذيبه.

لنتصوّره في أرذل عمره، حاملًا كأسَ الشمبانيا وسيجارة تتدلّى من شَفتَيه (كان شرهَ التدخين)، يستذكر الكونت أيّام سجنه. تبدو الحكاية بمحطّاتها مناسبةً لمخرجٍ بصيتٍ ذاع واندثر مراتٍ لا تُحصى. في السابق، ضُمّ فيسكونتي في زمرة روسوليني ودي سيكا في النقاشات التي تتناول المخرجين الشباب الواعدين في إيطاليا، ولكنّه في أواخر الستينات عُدّ من التجريبيّين من أمثال غودار وأنطونيوني. بينما يصرّ مخرجو هوليوود الجديدة كسكورسيزي على الادّعاء أنه ذو أثرٍ كبير، إلا أنّ أفلامه (الغريب The Stranger، الفهد The Leopard، لودفيغ Ludwig) عصيّة على المشاهدة في الولايات المتحدة أو متوفّرة فقط في نسخ شوهاء مدّتها تسعين دقيقة.

في هذه المرحلة من المقالة، يقول المؤلف عادةً شيئًا من قبيل «لقد حان الوقت لإلقاء نظرة جديدة في سيرة المخرج المهنيّة»، لكن في حال فيسكونتي، الوقت ليس المسألة. غالبًا، تشكّلت سماته في وقتٍ طويل ولم تلقِ بالًا، إن لم تكن معاديةً، نحو المعاصَرة. ينطبق هذا تمامًا على الأفلام التي أكملها فيسكونتي في آخر عقد من حياته — وعندما يُنظر لها كمجموعة، تبدو كإهانة موجّهة لناقديه، ومع كل شتيمة أوجعته في أفلام صباه — «ميلودراميّة»، «منفوخة»، «ناعمة» — سمى بها وأوغل فيها بقوّة وحزم.

كتب الناقد ريتشارد برودي «لم يكن إلا في سنين الفنانين الأخيرة التي أصبحوا فيها أكثر حريّةً، وأقلّ اهتمامًا بما واجهوه في سنيّ صباهم، مقدامين تجاه أفكارهم وشغفهم بدون قيود». الروائع التي أخرجها فيسكونتي بين العامين 1969 و1973 — الملعونون The Damned، وموت في البندقية Death in Venice، ولودفيغ — شواهد على ما يحدث عندما يتوقّف مخرج جليل، بيمزانية وكاريزما غزيرتَين، عن الاهتمام بآراء الناس حول أفلامه. هذه الأفلام أيضًا لا مثيل لها في التأمل حول موضوع الإفراط، بعواقبه المتداخلة بين النشوة والخوف.

في سبيل إخراج هذا الصنف من الأفلام التي تميل للبطء والكثافة أكثر من سابقيها، كانت للكونت أفضليّة في عدم احتياجه للمال. حكم آل فيسكونتي ميلانو في بدايات عصر النهضة، وما زالوا مؤثرين اقتصاديًّا وسياسيًّا في إيطاليا حتى هذا اليوم. يصوّر درعهم الحربي أفعى تبتلع إنسانًا، مع شعار لاتيني — في العربية، «لن أخون مقاليد الأفعى» —. هذه إلماحة عن سبب نفوذ العائلة المرعب. على أيّ حال، لم يشذّ فيسكونتي الشاب عن هذه القاعدة حيث كانت الأوبيرا والموسيقا الكلاسيكية جزءًا مهمًّا في طفولته، كما هي في أفلامه. لقد عُرف في عشريناته كمربٍّ لخيول السباق قبل أن يشدّ رحاله إلى باريس ليجرّب نَفَسَه في الإخراج السينمائي.

بدأ فيسكونتي، تحت تأثير المخرج الكبير جان رينوار، قصّة عشقه مع الماركسية؛ وقد أكسبته حصّةً لا بأس بها من السخرية، حتى أنّ سالفادور دالي وصفه مرّةً «شيوعيٌّ لا يحب إلا حياة التّرف». مثل العديد من كبار الفنانين الذين وُصموا بالنفاق، فاز فيسكونتي بأهمّ محور، وهو ما أخرجه من روائع، وتناول الكثير منها الطبقات الكادحة، وما زال يُحتفى بها كمنطلقٍ للواقعيّة الجديدة. أولها الهوس Ossessione (1943)، اقتباس غير قانوني لرواية ساعي البريد يدق الباب مرتَين لجيمس كين، الذي جرَت على إثره باقي أفلامه الجادّة: عاطفي (تتمحور القصة حول عاشقَين يخططان لقتل الزوج)؛ ومنسجمٌ مع نسيج الحياة اليومية وجوّها (تدور المشاهد الرئيسية في غرف فندق قذر أو مطبخ بينما تطبخ الشخصيات الطعام)؛ وطويل (ساعتان ونصف تحكي المئة صفحة الأولى لرواية كين)؛ وبقت نسخته شوهاء طوال سنوات عديدة.

ينتمي الهوس لقائمة روائع فيسكونتي الأولى مع فيلمه الأرض تهتز La terra trema (1948) الذي يحكي ملحمة صائد السمك وهو يناضل لحريّةٍ اقتصاديّة، وسينسو Senso (1954) أولى أفلامه الملوّنة. لربّما أحبّ فيلمَين له اللذين أكملهما في بداية الستينات: روكو وإخوته Rocco and His Brothers (1960) الذي يتحدث عن أسرة ميلانيّة من طبقة كادحة مزّقتها الشهوة والطمع، والفهد (1963) الذي يتناول قصّة نبيل من القرن التاسع عشر يحاول حماية أسرته أن تمزّقها حركة توحيد إيطاليا الحديثة. نالت هذه الخماسية اهتمام النقّاد والمشاهدين — مع هذا، يقول البعض أنها طغت على ما قدّمته الثلاثيّة التي تلتها من تحدٍّ وإقناع.

الملعونون والموت في البندقية ولودفيغ — كما عُرفوا بالثلاثية الألمانية لمناخها التيوتوني من شخصيات وسمات — أفلام عصيّة على الحب. في البداية، مقياسها المحض: كواليسها الشاسعة المهيبة؛ انفجارات ماهلر وفاغنر؛ مدّتها التي لا تكاد تنتهي (تمتد الثلاثية لما يقارب الثمان ساعات ونصف، ولودفيغ يحتل أربع منها). مع الغرف الفسيحة التي تعرضها الثلاثية، نجد مبالغة في الزخرفة إلى حد الغثيان، ملأى بأسطح مُذهَّبة ثلاثًا وممرات قاتمة الأعماق. هذه التخمة البصرية التي تتحلّى بها الثلاثيّة تتناسب مع مناخها المتقلّب بالمآسي والغثيان والقبح والضحك والرعب والعاطفة في آن، مثل عجوز يلطخ نفسه بالمكياج ليخفي ترهّلات وجهه. فَلْتَدعهِم مشكلات فيسكونتي السينمائية: عادةً أعمال الباروك المتأخرة معرّضة لأن تغرق في فنّها.

لم يجهد فيسكونتي نفسه بأن يحبب المشاهد في أبطال الثلاثية — هم كاللغز، أسرى هوًى لا نشاركهم فيه. في الموت في البندقية، ثمة موسيقارٌ عليل يُدعى جستاف فون آشنباخ يسيل لعابه على فتى؛ وهناك لودفيغ الثاني ملك بافاريا وهو يتغنّى في دور الأوبرا بينما يعد الجيش البروسي جهازه للاحتلال. أخيرًا، هناك عائلة إيسنبك المسكينة في دور بطل جمعي في فيلم الملعونون. ينحو فيسكونتي في النصف ساعة الأولى منحى ودودًا، تاركًا باقي الفيلم حطامًا يتنازعه القتل وسفاح القربى أمام شبح الرايخ الثالث.

إذن، لمَ نحن مشدودون تجاه هذه الشخصيات؟ ربّما لأنهم كلّ ما نملك — فنتعلّق بهم، في أعماق أفلام فيسكونتي الشاسعة، رغبةً في الرّفقة. لكنهم أيضًا فوّاحون بعبيرٍ مَرَضيّ، فيسحروننا على بشاعتهم. دقيقةً بعد دقيقة، يتّضح أنّ فيسكونتي يصارع مشاعره تجاه شخصياته وإنتاجه — وبنظرة أشمل، تجاه حياة الترف الذي عرفها منذ نعومة أظفاره.

لم يخجل فيسكونتي بأنه مثلي طوال سني رشده، وكان في الخمسين عندما وقعت عيناه لأول مرّة على الممثل النمساوي الشاب هلموت بيرجر. لقد هاما في بعضهما مذاك (بعد وفاة فيسكونتي في 1976، حاول بيرجر الانتحار). تسلّم بيرجر أدوارًا في أربع أفلام رئيسة لفيسكونتي، ومن ضمنها دور مارتن، أروع وأردى فرد من عائلة إيسنبك في الملعونون، ودور لودفيغ الشريف. فيسكونتي، المُصاب بداء المشاهد الطويلة في الثلاثية الألمانية، يصوّر وجه حبيبه المليح في مشاهد أخّاذة ومُلغِزة. في الملعونون، تتباطئ الكاميرا على بشرة بيرجر البيضاء، وحواجبه الدقيقة، وفمه الفاغر المظلم. إنه كالدمية المرعبة، في البداية كان سعيدًا باتّباع نَصّه، لكنه يجمح في المشهد الأخير المروّع.

يمكن قول شيءٍ مشابه عن المهووس النرجسي بفاغنر الذي يمثّله بيرجر في لودفيغ، أو في آشنباخ الذي أحياه النجم ديرك بوجارد. في فيلم الموت في البندقية، كما في رواية توماس مان الذي صدرت عام 1924، يتّجه آشنباخ نحو إيطاليا لقضاء الإجازة لكن تفشل خططه بسبب فتى مشاكس اسمه تادزيو، الذي يبدو أنه يروي عطش الموسيقار الجمالي والإيروتيكي، حتى ولو لم ينبسا بكلمة (آشنباخ في رواية مان كاتب، لكن فيسكونتي المولع بالموسيقا، يبدّل حرفة الشخصية). تبرز نهاية الفيلم مشهدًا قريبًا لوجه بوجارد المنتفخ وهو مغطّى بمكياج ذائب. يموت آشنباخ بسكتة قلبية، باذلًا أقصاه أن يعود لأيّام الصّبا، متأمّلًا في تادزيو ومستقبله الزاهر.

تظهر لحظات أخرى تصوّر مرور الزّمن وتوريث السلطة في الثلاثيّة الألمانيّة. يبدأ كلا لودفيغ والملعونون بمشاهد تتويج يسلّم فيها قائد شيخ الشعلةَ لوريث غرير. يجلو هذا عن واحد من أغرب الأشياء في هذه الأفلام الغرائبية: تتمحور حول شخصيات مضطربة ومنبوذة، إذ تبدو أنها منقطعة عن العالم الأكبر، لكنها قَلِقة كلّ القلق عن تكوين هذا العالم — أي، العالم الأوروبي الحديث. مرارًا وتكرارًا، توظّف أفلام فيسكونتي جماعة صغيرة منغلقة كنموذجٍ مصّغرٍ للمجتمع، كطريقة لفهم التحاقب التاريخي. تسفر الثلاثية الألمانية عن اهتمامه بالعقود التي انتهت بصعود الفاشية في أوروبا الغربية؛ إذ حاولت فهم حيثيّات الخطأ.

من المعروف أنّ الرومانسية المتأخرة وأوائل الحداثوية لم تعرفا حدًّا، فقد كانتا تفيضان بالعوائد الاقتصادية والتجارب الجنسيّة، وأدرجت الثلاثية الكثير منهما —كانت مشاهد الحفلات الجنسية المثلية محور لودفيغ والملعونون. لكن مخيّلة فيسكونتي حِسّانيّة: ينتهي المجون في الملعونون بمذبحة، حيث تُمهّد مصابيح الحان الحمراء لعصبات ذراع الجلّادين النازيين الحمراء. كلّما يأتي فيسكونتي بانحلال حسّي، يتأهّب للهوائل اللاحقة.

إنّ الرابط بين الانحلالات الجنسية لليسار المتطرّف وصعود اليمين الفاشي ثيمة مفتاحية لسينما ما بعد الحرب، بدءًا بفيلم الملتزم The Conformist لبرتولوتشي، تلميذ فيسكونتي، مرورًا بفيلم كاباريه Cabaret (الذي يتناقل مشهد منه بين راقصات يرتدين ملابسهن وجنود يحطمون الأرض بمشيتهم)، حتى مسلسل برلين ألكساندربلاتز Berlin Alexanderplatz (الذي يعد مخرجه راينر فيرنر فاسباندر أن الملعونون أعظم فيلم شاهده). ستُناقش حيثيّات هذا الرابط للأبد، لكن تشير هذه الأعمال نحو أُلفة مربكة بين هذَين التيّارَين.

«هذا خطأنا» تقول إحدى الشخصيّات القلائل ممن يعارضون النازيين معارضةً صريحة في الملعونون. «كل ما أعطيناه ألمانيا ما هو إلا ديموقراطية مريضة ... إنّ النازيّة من فِعالنا». إحدى النظريات التي تظهرها الثلاثية الألمانية أنّ التّساهل الأعمى الذي كان في مطلع القرن السبب الحقيقي في صعود هتلر؛ فالمعيشة في عالم الأوبرا والشمبانيا الرقيق جعل من النخبة الأوربيون يعبّدون طريقًا محتومًا مادَ عليه ذلك الطغيان الظالم.

ربما عاش فيسكونتي في عالمٍ مشابه، وهو الأعلم بهذا. طوال الثلاثية، نقدُ ذلك الترف الذي خَبِره والاحتفاء به، تنازعاه. اصطدم هذان الاندفاعان في لودفيغ عندما أكمل الملك بناء «مغارة فينوس»، قصر مُتَع يجول فيه قاربٌ كالصّدفة. من جهة، تشعر أنّ فيسكونتي متعاطف مع أهواء بطله الكيخوتية — بناء موقع تصوير بكلفة عالية جاء من مخزون الكُونْت الخاص. لكن منظر الملك وهو يجدّف في الأرجاء، مُطعمًا بجعاته الأليفة، منظر سخيف بلا شك — لربما كان من الأفضل أن يتغنّى بقيثارة بينما روما تحترق!

الفرق الجوهري بين الكُونت لوكينو فيسكونتي والملك لودفيغ الثاني أنّ الأخير راعٍ للفنّانين، بينما فيسكونتي فنّان في الأصل، بل وفنان عظيم. في الثلاثية الألمانية، وجد سبلًا لاستكشاف النقائض في التاريخ الأوروبي، كما وجدها تعتلج في نفسه — ماركسيّته وأرستقراطيّته ومثليّته — والتي جعلت دالي يسخر منه لاحقًا. النتيجة، لبعض المشاهدين، تناقض مشوّش لا غير. أما للآخرين، فهو كنوتات افتتاحية «تريستان وإيزولت» المتضاربة لفاغنر: عقدٌ بلا حلّ، وهنا يكمن السّحر.

المصدر

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى