عندما نتأمل فيلما اشتبكت في صناعته خيوطٌ عديدة ليس بدءًا من الناحية الفنية والثقافية ولا انتهاءً بالناحية التقنية مثل فيلم (باردو "السجل الكاذب لحفنة من الحقائق") لأحد أبرز المخرجين المكسيكيين المعاصرين (أليخاندرو غونزاليس إيناريتو) علينا أن نلج عالمه الفسيح ونُفكِّك خيوطه المتشابكة بأدوات لا تقل عمقًا عن أدوات صناعته وهذا ما يضع هذه القراءة الانطباعية للفيلم على أرض رجراجة تحاول أن تتحدى نفسها على السير بخطى ثابتة من مبتدأ الفيلم حتى منتهاه.
يأخذنا (غونزاليس) في رحلة سريالية الملامح عبر فيلمه هذا الذي أخرجه عام 2022 إلى أعماق ذاكرة بطل الفيلم الممثل المكسيكي (دانيال جيمينيز) والذي لعب دور صحفي وصانع أفلام وثائقية مكسيكي اسمه (سيلفاريو). يضع المُخرج (سيلفاريو) في غيبوبة طيلة الفيلم بحيث يسمح له بأن يسبر أغوار ذاكرته الشخصية الغنية بالتقاطعات التاريخية والسياسية بين موطنين تمحي بينهما الحدود في ذاكرته، "المكسيك" وهي موطنه الأصلي، و"أمريكا" وهي الموطن الذي هاجر إليه مع عائلته ليقيم فيها فتمنحه جائزة تقديرية عن أفلامه الوثائقية التي يتناول فيها قضايا سياسية وتاريخية واجتماعية شائكة في موطنه المكسيك من جهة وعن العلاقة المتوترة بين الموطنين من جهة أخرى.
تتضح ملامح الفيلم الفنية من العنوان الذي يمثل العتبة الأولى للسفر في عالم التداعي الحر للذاكرة الشخصية والجمعية في هذا الفيلم على حد سواء. وتحيل كلمة (باردو)-كما تشير تعاليم التيبيت البوذية- إلى الحالة البرزخية بين حياتين على الأرض، بين موت المرء وبين ولادته من جديد في حياة ثانية وما يحدث في هذه الحالة من تداعيات على المستوى الروحي واللاواعي للمرء، الأمر الذي يحيله إما إلى الخلاص والتحرر أو إلى حياة أقل مستوى من الأولى على الصعيد الروحي والبدني نتيجة لفعل "الكارما" عليه.
أما في الجزء الثاني من العنوان (السجل الكاذب لحفنة من الحقائق) فنجده يحيل إلى جوهر الفن وطبيعته في آن باعتباره سعيا وراء الحقيقة بأدواته الخاصة مثله مثل أي حقل من الحقول المعرفية الأخرى، حيث أن الفن في أسمى غاياته هو البحث عن الحقيقة وفي السعي إلى ذلك يخلق الفنان عالمهُ الخاص غير الواقعي والمبني على حدسه وتأملاته اللاواعية والواعية في آن واحد للوصول إلى الحقيقة المنشودة، بمعنى آخر، الفنان يخلق الأكاذيب اللازمة لإيصاله إلى الحقيقة المبتغاة كما جاء على لسان (V) في فيلم (V for Vendetta) الذي أخرجه عام 2005 المخرج الأسترالي "جيمس ماكتيج":(الفنان يستخدم الأكاذيب ليقول الحقيقة)*، وتقول الكاتبة والروائية الأمريكية (آنا لاموت): (الكاتب يبحث عن الحقيقة، ويروي الأكاذيب في كل خطوة على الطريق إليها)*، والكتابة ذاتها هنا أحد هذه الحقول الفنية العديدة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المخرج (غونزاليس) قد كتب سيناريو الفيلم بنفسه مع مشاركة زميله الكاتب الأرجنتيني (نيكولاس جياكوبوني).
إذًا، بهذا العنوان يهيئنا المخرج (الكاتب) إلى المحتوى الذي سيعرضه طيلة الفيلم حيث وهو في طريقه لسبر أغوار ذاكرة (سيلفاريو) الشخصية يمتزج الواقعُ بالخيال لتكوين صورٍ نافرة من اللاوعي، متفجرة بالغرابة مهدِّمةً لكل رابط منطقي بين هذه الصور المتتالية على الشاشة على المستوى العقلي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقعي، وذلك لأن هذه الصور وُلدت جوهريا من المخيلة الحرة حيث المستوى (ما فوق الواقعي) أو (السريالي) الخلاق الذي من خلاله يسبر أعماق (سيلفاريو) المجهولة ويُظهرها على سطح الشاشة بكل ما تحتويه من مخاوف ذاتية ورغبات خفية وأحلام مجهولة وتوتر عاطفي صارخ يتأجج في قلبه من صراع هويتين بسبب انتماءه للموطنين. ولذلك يرى المشاهد على الشاشة محاكاة بصرية لذاكرة (سيلفاريو) الثرَّة بكل تداعياتها الحُرَّة غير المترابطة منطقيًّا وعليه أن يفكك هذه الشفرات الهذيانية من خلالِ بصيرةٍ نافذة ومخيلةٍ جامحة، وهذا ما يطمح إليه الفنان السريالي بشكل عام من خلق هذه العوالم الغرائبية، وكما ينقل الكاتب السينمائي والأديب أمين صالح في كتابه (السريالية في عيون المرايا) قول "ماكس إرنست": (الهدف ليس الحصول على منفذ لما تحت الوعي وتلوين مضمونه بطريقة وصفية أو واقعية، بل ليس حتى الحصول على عناصر مختلفة للاوعي أو بناء عالم خيالي من هذه العناصر، إن الهدف هو إزالة الحواجز الطبيعية والنفسية بين الوعي واللاوعي، بين العالمين الداخلي والخارجي، وخلق واقع أسمى تكون فيه العناصر الواقعية واللاواقعية، والتأمل والعمل والوعي واللاوعي مجتمعة ومختلطة لتسيطر على كل مظاهر الحياة) وكل هذا الخلط الخلاّق نراه ملموسًا في مظاهر حياة الفيلم منذ المشهد الافتتاحي له.
الظل ودلالاته في الفيلم
للظل دلالات لامتناهية في مختلف الحقول المعرفية والفنية ومختلف الحضارات والديانات، نظراً لطبيعته الغامضة الباعثة على التأمل في كينونته، وارتباط الظل بالروح ورد في الكثير منها، وفقدان الجسد للظل يعني تحرر الروح من الجسد، كما تنقل الدكتورة فاطمة الوهيبي في كتابها (الظل أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية) بأنه في أساطير العرب قديما يُقال عن الرجل إذا مات (ضحا ظله) لأنه إذا مات صار لا ظل له. وتنقل كذلك اعتقاد قبائل "البازوتو" عن التماسيح بأنها تسلب أرواح البشر عن طريق التهام ظلالهم المنعكسة على الماء.
في المشهد الافتتاحي للفيلم نستمع إلى صوت أنفاس - نكتشف في نهاية الفيلم أنها أنفاس (سيلفاريو) وهو في غيبوبته وهي تظهر وتختفي مرات عديدة في الفيلم - ونرى ظلاً يركض محاوِلًا التحليق في صحراء فسيحة إلا أنهُ لا ينجح في التحليق إلا في المرة الثالثة وكأنه إسقاط للروح هنا وهي تحاول التحرر من الجسد الذي هو عالق ما بين الحياة والموت! في المشهد الختامي يعود المخرج لظل (سيلفاريو) من جديد ويصورهُ وهو يحلق بعيدا وكأنه يريد أن يقول لنا بأن سيلفاريو تحرر أخيرًا من جسده حينما ضحا ظله! وذلك لأن المشهد الذي سبقه كان يصوّر عائلته: (زوجه وابنه وابنته) وهم يمشون على سورٍ في الصحراء يفصل بين حياتهم وحياة (سيلفاريو) في العالم الآخر حيث يطلب منهم أن يستديروا ويعودوا فلا شيء لهم هنا -على حد تعبيره- حين ينادونه ليصحبوه معهم إلى عالمهم وعالمهِ قبل الوقوع في غياهب الغيبوبة.
- الذاكرة والتقاطعات الفنية:
الفيلم يزخر ببعض المشاهد السينمائية التي تتقاطع مع مشاهد من أفلام أخرى، ولا مبرِّر لذلك في اعتقادي غير أمرين: الأول أن هذه التقاطعات ظهرت نتيجة المخزون السينمائي الثري في ذاكرة المخرج (الكاتب) والثاني –وهو المرجّح- بأن المخرج تعمَّد إظهار هذه التقاطعات كون الفكرة الجوهرية للفيلم هي سبر الذاكرة الشخصية، والتي تتمثل هنا في ذاكرة بطل الفيلم (سيلفاريو) المتماهية مع ذاكرة المخرج ذاته وهذا من باب إظهار ما تأثر به المخرج من أفلام ورؤى فنية تركت أثرها العميق في ذاكرته السينمائية، وهنا سأكتفي بضرب مثالين اثنين:
- في أحد مشاهد الفيلم العابرة نجد ابنة (سيلفاريو) نائمة على سريرها، وهي ترتفع عنه قليلا وكأنها معلقة في الهواء، وهذا المشهد يتقاطع تماما مع مشهد آخر في فيلم (المرآة/Mirror) لمخرج السينما الشعرية الروسي (أندريه تاركوفسكي) والذي أخرجه عام 1975م حيث نجد بطلة الفيلم (Margarita Terekhova) ترتفع بملائتها البيضاء في مشهد شعري فاتن عن السرير وهي نائمة وكأن الرياح تحملها كالحلم!
- مشهد آخر كان قريبًا من النهاية، نجد أناسًا قادمين من الشمال ومتجهين إلى الجنوب كما يجيبون بذلك (سيلفاريو) حينما يصادفهم ويسألهم عن وجهتهم المحددة في صحراء قاحلة وهم يسحبون مجسمًا لكف ضخمة بنية اللون ومتشققة الجلد مثل الصحراء التي يسيرون عليها، وهذا المشهد يتقاطع تماما مع مشهد آخر -مع بعض الفوارق- في فيلم (نظرة في السديم/ Landscape in The mist) لشاعر السينما اليوناني ثيو أنجيليبولس والذي أخرجه عام 1988م حيث نجد ذات الكف في مشهدٍ فاتن تخرج من البحر بدلًا من الصحراء وتسحبها طائرة الهيلوكوبتر إلى الأعلى بدلًا من أيدي الناس، وباطن الكف مبسوطة باتجاه البحر بدل أن تكون مبسوطة باتجاه السماء كما فيلم باردو.
ختامًا، فيلم مثل هذا الفيلم مكتنزٌ بالدلالات والإسقاطات العديدة، متكئ على الصور الغرائبية المتفجرة من التداعي الحر للذاكرة مثل : الصورة العدمية المتمثلة في عدم رغبة الطفل المولود بولادته، امتلاء القطار بماء كيس الأسماك الصغير الذي كان (سيلفاريو) يحمله بين يديه، جسد سيلفاريو الذي أَصبح قزمًا وهو يتحدث مع طيف والده الذي ظهر له في دورة المياه، وتساقط الناس فجأة في الشارع وصعود (سيلفاريو) على جبل من الجثث، لا تكفي مشاهدة واحدة له لمحاولة تفكيك شفراته اللامتناهية في الغموض، وعلى المشاهد أن يُقبل على الفيلم بعينٍ حاذقة وبصيرةٍ نافذة وتركيز عالٍ كي يلتقط الإشارات التي تلمِّح ولا تصرِّح مثل قصيدة شعرية طويلة تقول ولا تقول.