بين قمم الجبال وثقل أحجارها، وبين ضباب المشاعر وعواصفها المُهلّكة، وعلى وقع زخات المطر، وتلاطم الأمواج بين الهدوء والصخب، وإما أن نساير اضطرابها أو نغرق في أعماقها المظلمة.
رموزٌ يرسمها بارك تشان ووك في لوحته «قرار الرحيل» (2022 Decision to leave) لكي نفحص ونتأمل مليًا طيّاتها.
بجانب أسلوب بارك تشان ووك الفريد في تجميع القوالب التي تشكل قصصه بين الجريمة والدراما، وانتقالاته التي تمثل أحد أروع الانتقالات التي شاهدتها في هذا العمل، ومرونة حركة الكاميرا، واستقصائها كمحقق ثالث يتمعن في تفاصيل الحادثة، فقد لمستُ إلى جانب هذه العناصر عنصرًا آسرًا للانتباه، يكمن في كيفية انتقاء المخرج لعناصر الطبيعة كرموز تعبّر عن مشاعر وأفكار شخصياته التي اختارت طريق رحيلها، وربطها بمراحل بداية وتشتت ونهاية العلاقة التي جمعت بين الأرملة «سونغ» والمحقق «جان»، فكيف جمع لنا بارك تشان ووك عناصر الطبيعة؟، وكيف أضافت وأثَّرَت هذه العناصر على لوحته الشاعرية؟
يستعرض لنا بارك تشان ووك قصته من خلال رسمه لدائرتَين متنافرتَين، وجعلنا نراقب اندماجهما واتحادهما رغم تنافرهما. هناك دائرة بيضاء يعيش بداخلها رجل تحكمه القيم الأخلاقية وخدمة القانون، فيقبض على المجرم ويجبره على الإفصاح، كصيادٍ يخنق فريسته لينال من دمها.
أما الدائرة الأخرى فهي دائرة سوداء تعيش فيها امرأة تحكمها غريزة البقاء بسحقها للأعداء.
الرجل الذي يحكمه القانون يصوره لنا المخرج في شخصية «جان هاي جونغ» المحقق الذي تثيره القضايا الغامضة وتؤرق منامه، والمرأة التي تحكمها غريزة البقاء تتمثل في شخصية «سونغ سوراي» الأرملة التي خرجت من دائرتها ملطخة بهالاتها السوداء، وبمزيجٍ من المكر والخداع أصبح أسلوبها للبقاء على قيد الحياة.
ورغم هذا التنافر إلا هناك سمةٍ واحدة تجمعهما: ألا وهي عزة النفس والصمود رغم الظروف القاهرة حولهما. ولم تظهر هذه السمة إلا من خلال الطريقة التي مزج بها بارك تشان ووك دائرتيهما من خلال وقوع الجريمة، والتي لو لم تحدث، لم نكن لنرى المزيج الأخلاقيّ المدمج بأداءات براقة من «تانغ وي» و«بارك هاي إيل»، ومن هنا تبدأ الجريمة في سرد ما يحدث برموز تحاكي وتواكب مشاعر «سونغ» و«جان» المضطربة، وحملت نهاية العمل معنىً بهيًا في نهاية رحلتيهما.
الجبل
نبدأ بالجبل الشامخ الذي يصف شخصية «سونغ»، وكيف يشكلّ شخصيتها من خلال ما تعرضت له أثناء هجرتها من الصين إلى كوريا الجنوبية، ووصول مشاعر الكُره لديها حتى قمته، فهي قتلت مُنقذها ومُهينها في نفس الوقت. والجبل لدى «جان» يمثل بداية لقائه و اهتمامه بـ «سونغ»، ثم وقوعه في غرامها لاِتسامها بـ شموخ وثبات الجبل. وهو ايضًا رمز التحطّم والدمار النفسيّ بعد اكتشافه لأفعال «سونغ» لاحقًا.
المطر
ثم نستمع لإيقاع زخات المطر المتناغم مع ألحان «جو يونغ ووك» العذبة، ونرى في تساقطه جفاف أنامل «سونغ» وانفتاح مشاعر «جان» تجاه ما يُحبّ وما يكره في مسرح الجريمة، وفي المطر نرى «سونغ» ما بين ضحكاتها ودموعها عند استماعها لسرد المحقق، واهتمامه بتفاصيل يومها، وما أدت تلك الدمعات المتساقطة مع المطر إلى حذف أحد أدلة التحقيق في الجريمة.
الضباب
وبعد المطر تنعدم رؤيتنا في الضباب الذي يرمز إلى عدم الاستقرار وعدم وضوح مشاعر «سونغ» و«جان»، فجاءت هذه المرحلة محملة بنهاية العلاقة وبدايتها معًا، فالضباب عبّر عن أرق «جان» بعد تحطمه وابتعاده عن «سونغ»، وكيف تسبب في حرمانه من علاج يؤرقه تحت أشعة الشمس، وعبر الضباب أيضًا كان اللقاء الثاني الذي جمعهما رغم زواجها من رجل آخر؛ كمحاولة لتخطى علاقتها مع «جان».
الثلج
بعد انقشاع الضباب، يحضر الثلج ليغمر «سونغ» ويلامسها، مبدّلًا سواد دائرتها الذي استمد ظلامه من الجبال. في حضوره تتحقق وصيّة الأم، إذ تُسلَّم رفاتها للرجل الجدير بالثقة، كما يصبح الثلج إشارة وداعها لـ «جان». أما عند «جان» فالثلج يمثل بوابة تكشف خفايا مشاعره نحو «سونغ» وسط عتمة الجبل، والضوء الأبيض المُسلّط نحو عينيه كما لو كان اختراقًا لدائرة «سونغ» السوداء. وفي المقابل، كان ضوء «سونغ» إعلانًا لدخولها دائرة «جان» البيضاء، عبر رغبتها في تقبّل جزائها وتقديم الدليل الذي يثبت ارتكابها للجريمة.
البحر
تنتهي رحلة «سونغ» عند البحر، الرمز الذي رافقها في جدران بيتها، وصندوق طعامها، وأغلفة كتبها، وحتى ألوان ملابسها. كان البحر مرآتها الأولى؛ منه استمدت طباعها، ومعه تعلمت الإبحار في مواجهة أمواجه العاتية بعد إزهاق حياة أمها، وانكسار كرامتها حين عُثر على جسدها النحيل محاطًا بالقذارة. والبحر أيضًا صار لغة حب «جان» لها، حينما ردد على مسامعها عباراته عن دفن الدليل في قاعه لئلا يُفضح جرمها. هكذا يغدو البحر بداية الرحلة ونهايتها، رمزًا يواجهها خلف جبل رملي من كبرياء وكره وذنب، تحطمه الأمواج لتدفن ملامحها وتُخفي الدليل الحي على جريمتها، فيما يظل طيفها يلاحق «جان» في أرقه وأحلامه.
ومن هنا يدمج بارك تشان ووك ألوان لوحته الشاعرية التعيسة من شموخ الجبال ومشاعر المطر، وضبابية الأفكار، وقسوة الوداع، واضطراب أمواج البحر لنتلمس أثر هذه المشاعر بين صلابتها وبرودتها ورطوبتها وضبابيتها، ومن ثم رحيلها كسفينةٍ عملاقةٍ مُحطمة يبقى أثرها في قاعِ البحار دون أن تتلاشى.