السيّد والسينما المستقلة: رحلة طويلة في الأروقة الخلفية للسينما (حوار)

أ. قيس عبداللطيف
و
October 22, 2024

تشهد السعودية في السنوات الأخيرة حراكاً سينمائياً كبيراً، استطاع أن يلفت الأضواء ليس في المنطقة فحسب بل في العالم أجمع، تعكس هذه الجهود الكبيرة وهذا الزخم المتزايد الذي ينطوي عليه هذا الحراك طموح الفاعلين في المجال وصناع القرار في رسم صورة مشرقة ورائدة للسينما السعودية، وتعزيز الثقافة السينمائية، والالتفات الجماهيري، ودعم المبدعين وصناع السينما والمخرجين للوصول بالصناعة السينمائية والإنتاج السينمائي السعودي إلى أرقى المراتب والمحافل بخطى ثابتة تتصدى لكل التحديات. وقد استطاعت السعودية في ظرف وجيز تحقيق نقلة نوعية في مجال السينما بإنتاجاتها المميزة وبالاعتراف والاحتفاء الذي حظيت به. وتاريخ السينما السعودية لم يخلُ قط من أفلام ولدت خارج فضاء الاستوديوهات الكبيرة، نائيةً ومستقلةً عنها، فكانت فريدة في طرحها وأصيلة في لغتها السينمائية.

ولاشك أن الطريق إلى سينما نوعية يبدأ من خلال فضاءٍ حرٍّ لا تُضيقه القيود، ومساحةٍ كبيرة للتجريب واستكشاف وتطوير الأساليب، واستقلالٍ في مراحل الإنتاج. فبعيداً عن أنظمة الأستوديو الصارمة ولدت أعظم الأعمال التي طَوّعت لغة بصرية آسرة لأجل أن تصنع سينما مستقلة خلاقة تشق طريقها رغم صعوبات التمويل والإنتاج.

منذ منتصف التسعينات، برز لدى الناقد خالد ربيع السيد شغف بالسينما المستقلة، وتنامى بتنامي الفضول والإعجاب وحب السينما الذي كان يرافقه عبر كل مراحل بحثه. بدأت علاقته بالسينما المستقلة حين كان يشاهد أفلاماً أمريكية وأوروبية مختلفة ومغايرة في خصائصها وطرحها وأسلوبها لأنماط السينما الرائجة، لكنها تمتاز بالأصالة واللغة الفنية الآسرة، فدوّن ملاحظاته وتراكمت معرفته طيلة سنواتٍ انتقل فيها من العالمي وصولاً إلى العربي المحلي، وقادته رحلته إلى الإحاطة بالأفلام العربية المستقلة، فجاء كتاب «السينما المستقلة – نظرة على العالمية والعربية والسعودية» ثمرةَ بحثٍ جادٍ، وروح تواقة للمعرفة، ومشاهدات واسعة، وعين ذواقة ناقدة. وهو كتاب صفحاته من القطع الكبير صدر عن دار رشم للنشر والتوزيع، مزوداً بقراءات نقدية تحليلية عن الأفلام المستقلة وواقعها وبقوائم معلوماتية مثرية.

اختار ربيع السيد مهرجان الأفلام السعودية توقيتاً مثالياً لإصدار كتابه، ليأتي في قلب هذا المحفل إضافةً قيّمة ومُثرية في وسط سينمائي يجيد التلقي ويحتفي بكل إنتاج ثقافي نقدي، إذ يلتقي السينمائيون بتنوع خلفياتهم وتجتمع المواهب وتتنافس الإبداعات والإنتاجات السينمائية المحلية وتتنوع المساهمات الثقافية والأعمال التي تسعى إلى تعزيز ورفع الرصيد الثقافي السينمائي، ومن خلال الندوات والورش والمطبوعات السينمائية التي تتسم بقيمتها النقدية يتم دفع السينما والثقافة السينمائية في خطوات عديدة وثابتة إلى الأمام.

لمناقشة الكتاب، وتفاصيل المشهد السينمائي في المملكة على ضوء القراءة النقدية للسينما المستقلة، حل الناقد خالد ربيع السيد ضيفاً على «ميم» في حوار مطوّل ومثري، عرض من خلاله أفكاره ورؤاه:

تمّ نشر كتابك بالتزامن مع الدورة العاشرة لمهرجان أفلام السعودية، الجهة التي مثّلت ملاذاً لصنّاع الأفلام المستقلة في المملكة لسنوات، ما رمزيّة هذا التزامن، وما القيمة التي ترى بأن المهرجان يساهم بها في تنمية صناعة السينما المستقلة في المملكة بصورة خاصة والخليج عموماً؟

الحقيقةُ، قَصدتُ أن يَصدُر الكتاب مع انعقاد الدورة العاشرة لمهرجان أفلام السعودية؛ لما لذلك المهرجان من أثر حميم بداخلي. فهو كان ولا يزال نافذةَ أملٍ لأصدقائي السينمائيين السعوديين، الذين كنت أتواصل معهم بشكل يومي، قبل إطلاق المهرجان في 2008 وبعده، حول مستجدات أعمالهم التي كانت تمثل طموحاتهم وتجاربهم الأولى، والتي كانت مستقلة هي الأخرى، حيث نفذوها بمجهوداتهم الذاتية، فالمهرجان اهتم بهذه الأفلام المستقلة، وبالطبع لم يكن هذا المصطلح متعارفاً عليه، أقصد الأفلام والسينما المستقلة، وكنا نطلق عليها الأفلام السعودية، والتي في الغالب كانت قصيرة. لذلك فتوقيت إصدار الكتاب الذي تزامن مع انعقاده العاشر يرجع إلى الحميمية والعرفان، فكان إهداءً للمهرجان وصناع الأفلام الشباب.

خلق المهرجان، بكل تأكيد، خلال دوراته العشر مجتمعاً ووسطاً مهتماً ومتطلعاً لإنتاج أفلام ذات قيمة فنية وفكرية وتقنية؛ ورغم أنها كانت تتأرجح بين الجودة والضعف، إلا أن الجمهور المتابع تفاعل معها باهتمام وحب، وبالطبع شهدنا في الدورات الأخيرة مدى الإقبال الذي كان على الإنتاج، غير أنه بعد دورة 2020 التي كانت على الشبكة (أونلاين)، تزايد التوسع في المهرجان، بشكل مُخل، دون التطلعات.

تذكر أن المهرجان كان نافذةَ أمل، وخلق أوساطاً مهتمة ومتطلعة للإنتاج وتفاعلا جماهيريا كبيرا، لكنه في بعض نواحيه جاء دون التطلعات وكان توسعه توسعا مخلا، فما هي الجوانب التي لمست فيها هذا النقص في المهرجان والتي تأمل تغييرها إلى الأفضل فيما سيأتي من دورات؟

المهرجان في أساسه محلي ومخصص تقريباً لإنتاجات الهواة المبتدئين، هكذا رُسمت هويته منذ البداية، وهو أمر حسن، وعملية التوسع في البرامج المصاحبة له من ندوات وورش ومحاضرات وإصدارات كتب شيء جميل يُقدّر، وكذلك المشاركة المحدودة للأفلام الخليجية، هي أيضاً توسع صائب، لكن الأمر المُخل هو أن التوسع في دعوات النقاد جاء دون التطلعات في إثراء الفضاء الثقافي، فقد شمل التوسع دعوة عدد من النقاد من الدرجة الأولى والأكاديميين والإعلاميين وفناني الصفوف الأولى من المخرجين والممثلين في العالم العربي، وضيوف الشرف، ولكنهم كانوا مدعوين حباً وتكرماً، ليس لغاية ومطلب حقيقي في المساهمة في تقديم كل قيمة معرفية تفيد صناع الأفلام السعوديين، وجاء حضورهم دون تحقيق ذلك. وقد رأيت بعيني كثيراً من الضيوف يأتون للمهرجان باعتباره ترفيها وزيارة نقاهة وسياحة، فيتنقلون بين أروقة مقر المهرجان للمسامرة واحتساء القهوة والدردشة. ثم ماذا؟ لا دور مؤثر ومطلوب يلعبونه، لا ندوات أو محاضرات، ما عدا قلة منهم بمحاضرات قليلة جدا، لا كتابات نقدية تحليلية تفيد الصناع، لا دراسات أو مقالات معتبرة يستفيد منها الحراك برمته، ولا جلسات حوارية تعقب كل فيلم يعرض. صحيح كانت ثمة تغطيات صحافية وإلكترونية لكنها جاءت عابرة ترصد الحدث بكلام صحافي مستهلك فقط.

مستوى الأفلام والنقاد

بالطبع، لسان حال هؤلاء النقاد: أنها أفلام بدائية؛ حتى إنهم لا يكلفون أنفسهم عناء الدخول إلى قاعات العرض والمشاهدة. أو قد يدخل أحدهم للمشاهدة، ثم يعود بتقرير يركز على نقاط السوء والضعف، فيعزف الباقون عن حضور الأفلام. بل إنني كثيراً ما سمعت كلاماً يعبر عن استيائهم من الأفلام ووصفها بالهزيلة والضعيفة وغيره من الكلام الفاضي. لا أحد يُقدّر أن هؤلاء مخرجون مبتدئون وفي حاجة إلى التوجيه؛ تغريهم المهرجانات الكبرى، فيتبارون في الكتابة والنقاشات حولها. هم محقون في ذلك؛ لأنهم دُعوا إلى مكان ليس مكانهم، ومحفل أقل من مستواهم.

لا صناديق دعم أو حراك تطويري

الأَمرُّ من ذلك أن بعض هؤلاء الضيوف لا يَحضُرون إلى مقر المهرجان من الأساس، ويبقون في الفنادق يستمتعون بالتسوّق والنزهات الخارجية. على أية حال، هذا شأن خَطَر ببالي، وهو مزعج بالنسبة إلي، لأنه توسُّع غير مدروس ومباهاة في غير موضعها؛ ليس توسعاً لإشراك النخب والصناع والجمهور، وأرى أن الميزانية الموضوعة لدعوتهم في غير محلها، في حين أن بعض شركات التوزيع تقتنص مثل هذه الأفلام لتستثمر في توزيعها؛ لعلمها أن هناك جمهورا يهتم بها. ولذا الأجدر أن تخصص هذه الميزانيات لإنشاء صناديق الدعم، وإقامة ورش وندوات على مدار العام، وتُنفق على مسابقات منفصلة لكتابة السيناريو، والتدريبات الأكاديمية القصيرة في التمثيل وتنفيذ المونتاج والتصوير والمكياج؛ بدل أن تذهب الأموال هباءً بهدف المباهاة الإعلامية.

المملكة والسينما المستقلة

نحن في المملكة في مرحلة تنمية سينمائية، وأعتقد أن الفئات الشبابية الناهضة ستعبّر من خلال إنتاجات مستقلة مستفيدة من كل التقنيات المواكبة للتطور الإنتاجي، ولا أستبعد في هذه السنة والسنوات القادمة أن يدخل الشباب توظيفات مشتقة من الذكاء الاصطناعي، مثلاً، الذي سيدخل في مضمار الأفلام المستقلة والتجريبية على نحو أكبر. ولكن بالتوازي مع ذلك، نلاحظ تزايد شركات الإنتاج التي تقدم أفلاماً جماهيرية، والتي بدأت تأخذ طريقها إلى الجمهور السعودي والعربي.

من زاوية أخرى، أود أن أنوه بأني أعتقد -وكما شاهدت عبر العقود الماضية- أن عُمر المخرج المستقل قصير؛ لأنه بمجرد أن تعرفه الشركات المنتجة تجارياً حتى تتوالى عليه للاستعانة به وتوظيفه في إخراج أفلام تجارية.

في أحيان كثيرة، يكتسب المخرج المستقل قوة إقناع بأعماله؛ فتسعى إليه الشركات ليصنع لها أفلاماً برؤيته، ولا بأس من فرض بعض الشروط.

تقدم السينما المستقلة نفسها كبديل عن السينما الرائجة التي تحصل على تمويل شركات الإنتاج الكبرى عالمياً، لماذا يحتاج المشاهدون إلى سينما بديلة، وفي المملكة، هل ترى بأننا بحاجة للسينما المستقلة في ظل صناعة سينمائية ناشئة؟

هي ليست بديلاً جماهيرياً، بل هي بديل إنتاجي وتقني وفكري، العامل المالي هو الذي يدفعها للظهور، بالإضافة إلى العوامل الأخرى التي تحدثنا عنها، والتي تجعلها وسيلة بعض السينمائيين للتعبير بلغاتهم الخاصة عما يريدون "تفليمه".

في رأيي أن المشاهدين في حاجة إلى كل ما هو ممتع وشيق وجديد، وربما لا يهمهم ولا يعرفون أن هذا يسمى «فيلما مستقلا»، أو أي مُسمى تصنيفي آخر، يهمهم ويثير إعجابهم ما يلامس تطلعاتهم وما يفاجئهم بأفكاره وأساليبه ولغته وقضيته وموضوعه. نعم، المشاهدون يحتاجون إلى سينما مستقلة تنقلهم بعيداً عن الأنماط السائدة، وبكل تأكيد نرحب بظهور المزيد والمزيد من المخرجين المستقلين، لأنهم سوف يدخلون مضمار السينما الشعبية والجماهيرية والفنية والوثائقية والتجارية.

الأفلام المستقلة هي التي تكشف لنا عن سينمائيين جيدين. الفيلم المستقل هو الخطوة الأولى للمخرج الجيد. هذا الأمر تدركه المنظمات الرسمية لدينا في المملكة، لذلك نشأت مبادرة «ضوء» في هيئة الأفلام، على سبيل المثال، لغرض دعم المخرجين المستقلين المبتدئين، لأن هذا المخرج المبتدئ سيتطور وسيحقق أفلاماً مهمة، هكذا أرى الأمر. الصناديق الداعمة للسينما في السعودية، مثل: صندوق التنمية الثقافية، والصندوق السعودي للأفلام، وصندوق البحر الأحمر، وصندوق «بيج تايم» الاستثماري، ومركز إثراء، وقرية نيوم الإعلامية، واستوديوهات جدة، واستوديوهات العلا، كل هذه الجهات تدرك أن تطوير السينما يبدأ من المخرج، سواء كان مستقلاً أو يعمل ضمن مجموعة.

على المستوى الشخصي، متى بدأت علاقتك بالسينما المستقلة، سواءً من حيث المشاهدة أو الاطلاع والقراءة عنها، نريد أن تقدّم لنا صورة بانورامية عن تشكّل هذا الشغف لديك؟

بدأت علاقتي بالأفلام المستقلة منذ منتصف التسعينيات، حيث كنت أشاهد أحياناً نوعية من الأفلام الأمريكية والأوروبية تختلف خصائصها كلياً عن الأفلام العالمية الرائجة، وكانت تتميز بالعمق الفكري والفني وبالبساطة الإنتاجية وبأبطال غير معروفين ومخرجين كنا نجهلهم. تتميز هذه الأفلام بلغة فنية آسرة تمتلىء بساطةً وعمقًا في آن واحد، وبُعدها عن الاشتغالات الفلسفية أو الرمزية أو التجريب الغرائبي، وفيما بعد عرفت أن هذه الأفلام تسمى بـ«السينما المستقلة» لأنها مستقلة عن الشركات الكبرى، فيما عدا التوزيع وحقوق البث أحيانًا.

في عام 2018م، ومع بداية نشاط دور العرض العامة في المملكة، وجدتني أتساءل: هل تلك الأفلام، التي من ضمنها الأفلام السعودية، ستُعرض في دور السينما العامة؟ وعدت للمشاهدة والقراءة عن السينما المستقلة بشكل مكثف وجاد، فكنت أدون الملاحظات، ليس بهدف إصدار كتاب، بل لإثراء معرفتي وتدوينها في مذكراتي الشخصية.

الغوص في التيارات السابقة

انتقل بي البحث والمشاهدة إلى الاتجاهات السينمائية في أوروبا؛ بدءً من الموجة الجديدة في فرنسا، وجماعة «الدوغما 95» في الدنمارك، والسينما المباشرة الحقيقية، كما أطلق عليها، وسينما المؤلف، وسينما «مامبلكور-Mumblecore»… هذه التيارات أدت إلى نشوء السينما المستقلة، فعندما نشاهد أفلامها نعي إلى حد كبير التطور الفني الذي أدى إلى السينما المستقلة، وإن كانت إرهاصات تاريخ الاستقلال السينمائي قد بدأت منذ وقت مبكر؛ إذ في 1919م اجتمع عدد من السينمائيين الأمريكيين لتأسيس شركة «يونايتد آرتست» بصفتها شركة مستقلة لإنتاج وتوزيع أفلامها.

غير هذا وذاك، قادتني رحلة الاطلاع إلى التعرف على الأفلام العربية المستقلة؛ بدءً من نبوءة المخرج المصري محمد خان في بدايات الألفية وتحققها على يد المخرج المصري إبراهيم البطوط، التي أخذتُ بالفعل تتبعها ومشاهدتها، وكذلك فعلت من خلال استكشاف الأفلام المستقلة في الدول العربية والخليجية، غير أن الأمر اختلف مع الأفلام السعودية، فقد كنت بالفعل مواكباً ولا زلت لكل ما ينتجه السعوديون، وكانت الحيرة عندما نويت أن أضع ملاحظاتي ونتائج مشاهداتي بين دفتي كتاب. لكن على أية حال، اخترت توليفة من الأفلام التي رأيت أنها تبرز كمفاصل تطورية في السينما السعودية، وتعمقت على نحو خاص في الأفلام التي تنتجها الشابات السعوديات المستقلات، اللواتي لم يعدن الآن مستقلات.

الروائي والمترجم والناقد والسيناريست البحريني أمين صالح والذي كانت له تجربة خلابة في كتابة نصّ الفيلم المستقل: «الحاجز - 1990»، قام بتقديم كتابك، وقد أشار في مقدمته إلى أهمية الكتاب في السياق الحالي، متى وقع اختيارك عليه ليكون مسؤولاً عن المقدمة، وهل كان لتاريخه الطويل في مجالات السينما المستقلة دورٌ في ذلك؟

أمين صالح مفكر تحليلي سينمائي رفيع، وسينيفيلي حقيقي، ذائقةً ووعياً وأسلوبَ كتابة متفرد. كما أنه ترجم عدة كتب أضافت للسينما الخليجية والعربية الكثير، وهو خير من رصد تطورات السينما البحرينية. وقع اختياري عليه عندما بدأت أتقصى السينما في الخليج، وفي البحرين على وجه التحديد، لأنها أول دولة خليجية طرقت أبواب السينما، أيقنت تماماً أن أمين صالح يدرك عمق السينما المستقلة في العالم أجمع. وعندما انتهيت من فصول الكتاب -التي لا تنتهي- اتصلت بالأستاذ أمين وتحدثنا بالحميمية التي جمعتني دائماً به، وطلبت منه الاطلاع على الكتاب وتوجيهي لما ينقصه أو يراه، ثم طلبت منه أن يكتب المقدمة للكتاب إذا رأى أنه يستحق. وبالفعل، وبعد أسبوع، بعث لي بمقدمته التي أعتز بها، والتي أكسبت الكتاب أهميته.

لأمين صالح مكانة مرموقة

أحب أن أتحدث عن أمين صالح، فكلما اجتمعت مع الأصدقاء تطرقت إلى الحديث عنه. هو أديب ومتذوق جمالي بالدرجة الأولى؛ يكتب عما يحبه، فيجعلك تحب ما أحَبه. يُنمي الملكة التأملية في جماليات الأفلام، ويرتقي بالقارئ ليتيح له أن يرى بعمق أكبر. كتبه العديدة علمتنا كيف نتذوق السينما ونفهمها، هو محلل عارف دأب على الإحاطة بأساليب المخرجين الذين يلفتون ذائقته، فيقدمهم للقارئ ككلٍّ متمازج ومتنوع لا يشبع المرء من النهل منه.

في المقابل يرى بذائقته العارفة الجماليات الكامنة في الأفلام بما فيها تلك الأقل جودة، يستنطق ويتلمس ما فيها من عناصر الإبداع، ويلفت النظر إلى ما اعتراها من قصور، دون أن يسهب أو يجرح؛ إذ أن قناعته، كما أتصور، مبنية على كون الجمهور والتاريخ هما من يقول الكلمة الأخيرة، ولذلك هو يضع جُلّ اهتمامه على ذائقة الجمهور ويتوجه إليها وينميها ويصقلها عبر الثقافة الجمالية الفكرية والبصرية.

نعم هو ابن وأبو السينما المستقلة في البحرين، منذ تعاونه مع السينمائيين بسام الذوادي وحسين الرفاعي ومحمد راشد بوعلي وفريد رمضان وغيرهم، هو بمثابة الأب الروحي للحراك السينمائي في البحرين، كما أعتقد، وهناك أسماء كثيرة لمخرجين في البحرين بدأوا مستقلين واستمروا كذلك.

لذلك، فكل ما ذكرته باختصار عنه، كان سبب اختياري لمعلمنا أمين صالح ليُشرِّف الكتاب بمقدمته.

الباب الأوّل من الكتاب قدّم عرضاً نقدياً تاريخياً للسينما المستقلة بين الشرق والغرب، بدأ بالموجة الفرنسية حتى الوصول إلى السينما البديلة في العالم العربي، في هذا السياق ومن خلال قراءتك التاريخية، ما الدوافع التي تحرك صنّاع السينما نحو السينما المستقلة؟

ما يُحرك صناع السينما نحو تحقيق أفلامهم بأنفسهم وبمعاونة أصدقائهم: هو التعبير عن رؤاهم السينمائية الفنية، بحسب إمكاناتهم المادية والتقنية المتمثلة في انخفاض التكلفة في كل مراحل إنتاج الفيلم ومتطلباته. إلى جانب الميزانية المحدودة والرغبة الملحّة لدى المخرج المستقل في تنفيذ فيلمه كما يحلو له وبطريقته؛ فلا معين له، وهنا تتقاطع سينما المؤلف مع السينما المستقلة.

أيضا، الرغبة في الاستقلال عن كيانات الإنتاج التي تفرض شروطها على المخرجين، حيث يكون المخرج مجرد مديرٍ تنفيذي للعمل، مساحةُ الاجتهاد لديه ضيقة ومحكومة برؤى وتقديرات المنتج. هذه الرغبة تتحقق عندما يكون المخرج قادرا على إنتاج فيلمه بنفسه (ثري)، لكن يحدث أن ينعكس الوضع بعد عدة تجارب للمخرج المستقل الذي يُثبت من خلالها جدارته ويحقق التفاف واهتمام جماهيري ونقدي واسع فتصبح شركات الإنتاج هي المذعنة لرؤاه، وأسلوبه، واختياراته، وقراراته.

المخرج المستقل المطلوب

كثير من المخرجين احتفظوا باستقلاليتهم، وعندما ضمنوا التمويل لتحقيق أفلامهم، صاروا يعملون عليها بحرية أكبر. وبالتالي أصبحت الشركة التي تتعامل معهم تُطلق لهم العنان في كل ما يختارون ويقررون، وحققوا نوعا من القبول والاعتراف. وفي رأيي، أن الاستقلال المُجوَّد في البدايات يؤدي في النهاية إلى السينما الفنية التجارية الجماهيرية، ويحدث هذا مع كثير من المخرجين حول العالم، على سبيل المثال المخرج مارتن سكورسيزي.

الاستقلال هو الذي يُشكّل ويرسم طرق الإنتاج، لأنه يعتمد دائما على ميزانيات منخفضة، وبالتالي يستعين المخرج بأصدقائه أو بمتطوعين للعمل رفقته، فهو لا يستطيع الاستعانة بممثلين من الصفوف الأولى، لذا نجده يحقق فيلمه مع ممثلين غير معروفين أو من الصنف الذي يَعتبِر العمل مع المخرج المستقل دعماً له وإيماناً بأفكاره وعالمه السينمائي.

السينما السعودية منذ نشأتها وهي تسير في إطار العمل السينمائي المستقل، بدأ هذا في التغيّر اليوم مع رغبة الكثيرين في الاستثمار بهذا المجال، الباب الثاني من الكتاب يقدم تاريخ السينما المستقلة في السعودية، ويمكن القول بأنه يعرض تاريخ السينما السعودية ككل، هل حان الوقت لتجاوز السينما المستقلة في السعودية؟

هي ليست نقيصة حتى نتجاوزها، وطالما أن هناك رغبة عند الشباب الناشئ ستستمر السينما المستقلة، ولعلنا نشاهد في كل سنة أفلاماً في مهرجان أفلام السعودية لشبابٍ مستقلين يقدمون أنفسهم للجمهور بحماس ومحبة، فيُحققون الاعتراف والتقدير الذي يفتح لهم أبواب التوظيف وفرص الانخراط في الشركات التي ستُرحب بهم للاستعانة بخبراتهم.

خلال تاريخ السينما السعودية في العشرين سنة الماضية، نشأت مجموعات من المخرجين المستقلين. فحققوا أفلاماً بإمكاناتهم المحدودة، عكست رؤاهم، واثبتوا من خلالها جدارتهم، مثل مجموعة «تلاشي» السينمائية، ومجموعة «القطيف فريندز»، وفي نفس الوقت في العشر سنوات الأخيرة ظهرت مؤسسات فردية مستقلة، مثل مؤسسة «سينما الحوش» للمخرج محمود صباغ، وشركة «Eggdancer Production» لدانية نصيف ودانية الحمراني.

السينما المستقلة تتيح لصناعها الابتكار في الأساليب الإخراجية وتتيح التجريب، بل والخروج عن كل ما هو اعتيادي، والغرابة، وتجاوز المألوف، وعندما يتقبلها الجمهور تكون قد نجحت في إضافة لغة سينمائية جديدة.

لكني أرى أن الاستقلال في السعودية بدأ يأخذ شكلاً جماعياً أو منظماً، مثلما يحدث مع مجموعة «تلفاز11» ومجموعة «استديو11» و«صدف» و«الجديرة» إلى جانب «أفلام الشميسي» وغيرها من المؤسسات وشركات القطاع الخاص، التي أخذت تنتج بجهودها المستقلة، ولكن بميزانيات متوسطة وفوق متوسطة.

ما أود قوله إننا لن نستطيع ولا ينبغي أن نتجاوز السينما المستقلة، لأنها منبع ورافد مهم في توليد الفنانين والأعمال السينمائية المواكبة للعصر والحراك السينمائي في المملكة.

قدّم الكتاب فصلاً مهماً عن سينما المرأة المستقلة، وعرض صورة مفصلة لصناعة السينما النسائية في السعودية.. من خلال هذه القراءة المفصلة، كيف تقيّم التجربة النسائية في صناعة السينما السعودية، وكيف يمكن تنميتها في المستقبل؟

سينما المرأة السعودية المستقلة أو السينما النسائية في السعودية، هي في تنامي مستمر، بل إن بدايات الموجة الشبابية في مطلع الألفية انطلقت بأفلام المخرجة هيفاء المنصور وتبعها بقية المخرجين الشباب. حيث تكرّست في بدايات العقد الثاني من الألفية حول القضايا التي تشغل المرأة مثل قيادة السيارة والعمل وقضية الاختلاط بالرجال في العمل، ولم تتطرق إلى قضايا أكثر أهمية مثل ولاية الرجال على النساء والحقوق المدنية وزواج القاصرات وتكافؤ النسب.. إلى غير ذلك. لذا أرى أن مستوى الوعي في أفلام المرأة لم يكن بمستوياته الراهنة. لكن الآن، ومنذ عدة سنوات، تستمر أفلام النساء السعوديات في تحقيق مكاسب جديرة بالتقدير إلى حد ما. لكني غير راض عن ما تقدمه المرأة السعودية كل الرضا؛ هناك نقص في الوعي والإحاطة بالقضايا الملحة والجديرة باشتغال المرأة السعودية، في مقابل سعي وراء الشهرة الزائفة على حساب المضمون والقيمة.

أين السينمائية السعودية عن الأبواب المشرعة؟

بخصوص السؤال عن كيفية تنمية التجارب النسائية في المملكة، فإني أرى أن جميع الأبواب مفتوحة الآن على مصراعيها: انطلاقاً من الشركات الخاصة وقطاعات الإنتاج في الفضائيات، والمنظمات الرسمية، وهيئة الأفلام، وبعض الجامعات، وانتهاءً بالمهرجانات (البحر الأحمر والأفلام السعودية)، وصندوق التنمية الثقافي، كلها ترحب وتدعم الحراك النسائي السينمائي في المملكة، في حين أن الشباب صناع الأفلام المستقلين دائماً ما يُشركون الشابات في أعمالهم؛ سواء إدارياً بصفتهن مُنتِجات تنفيذيات أو مدققات نصوص، أو فنيّات مكياج ومصممات ملابس، وأحيانا بصفتهن ممثلات أو مخرجات أيضا.

أعتقد جازماً أن الوضع والظروف والإمكانات جميعها تساند المرأة السعودية في المضي قدماً نحو الدخول في دائرة الفن السابع بشكل أكثر جرأة، فلا معوقات تقف أمام هذا التقدم.

شهدنا خلال العام الماضي نشاطاً متزايداً في عملية تأليف الكتب السينمائية في المملكة، غير أن هذا النشاط يواجه تحدّيات منها الاستدامة، وكذلك عملية اختيار الموضوعات، فمن خلال تجربتك الطويلة في تأليف ونشر الكتب السينمائية، ما رؤيتك لتنمية هذا القطاع وتطويره لإثراء الثقافة السينمائية؟

نعم بالتأكيد؛ هذه ديناميكية ممتازة ومُقدرة وإيجابية، إذا لا يكون التأسيس للثقافة السينمائية وتحصيل المعرفة بالسينما إلا عبر التأليف والقراءة. تأليف وإصدار الكتب سُنّة حسنة بدأها مهرجان أفلام السعودية منذ انطلاقته في 2008م، واستمر لغاية الآن، حيث نشهد تزايد عدد العناوين كل سنة بواسطة «جمعية السينما»، وبحسب ما يَتردّد أن هناك جهات رسمية ستُطلق مشروعاً لإصدار الكتب في مجال التثقيف السينمائي.

أما مسألة اختيار العناوين والموضوعات التي تحقق الاستدامة المعرفية فهذا أمر يتطلب وجود لجان في الكيانات والجهات التي تنتج الكتب، تستهدف دراسة أنواع الكتب والموضوعات التي تتطلبها المرحلة لتدوم فائدتها للأجيال القادمة.

استدامة معرفية

الكتب التأسيسية في الثقافة السينمائية أمرٌ في غاية الأهمية، إذ لا يمكن أن يكون لدينا وسط سينمائي ومجتمعي مستنير بغير الكتب التي تؤسس لمعرفة أصيلة تنطلق من تاريخية السينما، وتتناول المدارس والاتجاهات التي تفاعلت عبر العقود الماضية وأنتجت تيارات سينمائية برؤى ومفاهيم، سواء كانت قد تطورت أو اندثرت. وهذا توجه مطلوب لعملية الاستدامة المعرفية.

الكتب التي تتناول مسحاً قرائياً نقدياً تحليلياً كل سنة لما تم إنتاجه، تعكس توجهاً مُهمًّا إلى درجة كبيرة، لأنه يمثل العين الفاحصة لما شاهده الجمهور عبر شاشات دُور العرض العامة، حيث يُشكّل ذلك توعية مستدامة للتثقف الآني والتوثيق الأرشيفي الثقافي للأجيال القادمة.

أيضاً، الكتب التعليمية للمبتدئين في شتى مسارات إنتاج الفيلم، بدءً من كتابة السيناريو وصياغة الحوار، مروراً باختيار طاقم العمل والتصوير وإعداد موقع التصوير والمكياج الدرامي.. إلى آخره، وانتهاءً بأعمال ما بعد الإنتاج وضبط الصوت والألوان. مثل هذه الكتب مهمة ومطلوبة في هذه المرحلة من الحراك السينمائي السعودي.

نعم الأمر يتطلب دراسة وتوجيهاً متقناً من خبراء مهنيين، فلا يُترك الأمر لكل من هب ودب ممن أراد تأليف كتاب بحسب ذائقته ومفاهيمه. نعم كل الكتابات مطلوبة، ولكل كاتب أن يكتب عما شاء، لكني أقصد بالتحديد التثقيف المستدام المصنوع بوعي وإشراف مؤسسي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى