السيرة الفنيّة لجيرمين دولاك: رائدة الإبتكار السينمائي والأفلام السريالية

ربما كانت جيرمين دولاك سابقة لعصرها كمخرجة ذات ميول مثلية، وصاحبة إنتاج فني مذهل، لتتلقى عنه التقدير المناسب في أي مجال.
July 25, 2022

جيرمين دولاك كانت من رواد السينما الأوائل قبل الأفلام السريالية الأولى للمخرج لويس بونويل، والنصير المخلص جان فيجو، وفي حال لم تكن من هواة السينما الصامتة المتعطشين، فربما لم تسمع عنها من قبل. 

المخرجة الفرنسية - التي استهلت مشوارها بإخراج عدد من الأفلام الروائية، من بينها فيلم يعتبره الكثير أحد أوائل الأفلام النسوية وهو فيلم "ابتسامة السيدة بوديه"، The smiling Madame Beudet 1923، وكذلك كتاباتها الحماسية عن السينما الخالصة، وصياغتها للأفكار التي تربط ما بين السينما والرقص، مشددةً على الإيقاع كما فعلت بعدها في وقت لاحق المخرجة مايا ديرين - سابقةً عصرها كمخرجة مثلية الميول، وصاحبة إنتاج فني مذهل (تطور إنتاجها من تقديم الأفلام الطليعية الي الوثائقيات ذات التوجه الاجتماعي)، لتتلقى التقدير اللائق عن كل هذه الفئات الفنية. 

لقد حصلت دولاك في العام 2017 على التقدير الملائم عندما تم ضمها إلى معرض خيالات السريالية في ملتقى التصوير الفوتوغرافي في مدينة آرل الفرنسية. حيث حرصت القيّمة الفنية على المعرض كارولينا زيبينسكا -ليفاندوفسكا على ضم فيلمها "الصدفة البحرية والكاهن"، The Seashell & the Clergyman. ولم يكن غريباً، فهو فيلم ملفت للانتباه، عن قصة السعي الدؤوب لأحد الكهنة وراء احدى الشابات، وصراعه مع عدوه اللدود زوجها الجنرال. يعد الفيلم دراسة فرويدية سريالية. بداية من الشكل الانسيابي الرشيق للصدفة البحرية، والتي رآها البعض أنها ترمز لأحد الأعضاء الجسدية الأنثوية، أو ترمز إلى الرغبة بشكلها الأشمل. 

في حين ان الافلام الأولى لدولاك كانت إلى حد ما  ذات حبكة محددة، اعتمد فيلم الصدفة البحرية على السرد المتحرر.

يفتتح الفيلم أول مشاهده على الكاهن (اليكس آلين) وهو يصب سائل داكن من صدفة بحرية كبيرة الحجم في زجاجات، ثم يحطمهم على الفور بإلقائهم  فوق كومة كبيرة. ودولاك استاذة في غموض اخراج صورة المشهد، والفن المعماري الذي تقدمه سواء كان قبو موحل، أو مخبأ مظلم، او قصر لامع، مثل كابوس لينشيان من أجواء فيلم "طريق مولهولاند"، Mulholland Drive. وفي النهاية هي كل تلك الأشياء مجتمعة. وبعد المقدمة المستوحاة من الكيمياء، نرى الكاهن يهرول في الشارع ملاحقاً الزوجة (جينيكا أثاناسيو) بداخل احدى الكنائس، حيث يحاول خنق الجنرال (لوسيان باتاي)، ثم يطارد الزوجة لاحقاً في طريق الغابة.

 

تستغل دولاك الزوايا الدرامية للكاميرا، مستوحية ذلك من الأعمال الأولى للمصور الشكلي رودشينكو من بدايات القرن العشرين. وغالباً ما كانت الصور مشوشة، ومضغوطة في بعض الأحيان، ومهزوزة، وضبابية، ونابضة في أحيان أخرى.

الحركة الدائمة للأشكال، والنماذج، وكذلك أجساد الممثلين في الفيلم تعكس حالة المعاناة الداخلية للكاهن. ولا نستطيع أن نجزم في النهاية إذا ما كنا نلاحق الحدث أو كنا منغمسين داخل عقل الكاهن. تلاشي الانتقال بين اللقطات خلق مناظر انسيابية، في إحدى اللقطات الخلابة يرى الكاهن فيها الزوجة في أحد القوارب برفقة الجنرال، فيفتح يديه ليكشف في راحتيه الماء وسفينة غارقة. 

أنتونين أرتود الطفل المشاغب للسينما والمسرح مؤلف النص السينمائي لفيلم الصدفة البحرية اعتبر الفيلم فاشلاً. وكان لهذا التنديد عواقب وخيمة للغاية: حيث تعرضت دولاك للإهانة أثناء العرض الافتتاحي، ونشب شجار بين المتفرجين ( ولم يتم تأكيد حضور ارتود العرض، فقد ادعى لاحقاً إنه تم منعه من الحضور)، وتم الغاء العرض، مما ألقى بظلاله فيما بعد على الفيلم. وتقترح الكاتبة تامي ويليامز في كتابها الرائع جيرمين دولاك، سينما الحواس، أن اعتراض ارتود يعود جزئياً لأسباب مبتذلة، فهو لم يكن راضياً لعدم حصوله على دور الكاهن لأنه كان يؤدي دور الراهب في فيلم "آلام جان دارك"، The Passion of Joan of Arc، للمخرج كارل دراير، واستعانت المخرجة بدلا منه "بالوديع، الإنساني، المغاير لسمات البطولة الممثل اليكس آلين".  

وأشارت ويليامز أن اختيار دولاك لهذا الممثل يقارب أسلوب الفيلم من الحكايات الخيالية المرعبة، "لإن هيئة آلين التي تشبه المخالب المنقبضة تستدعي في الذاكرة هيئة ماكس شريك في فيلم "نوسفيراتو"، Nosferatu لمورناو.

وفي نفس الوقت كان لدى أرتود بعض الاعتراضات الفنية المهمة: 

لأن قبل أي شيء كانت دولاك من مؤيدي السينما الخالصة، وتشدد على القيمة التشكيلية الفريدة للفيلم، بينما أرتود كان يعتبر أن هذا النوع من السينما خالي من العواطف. 

وذكر الكاتب لي جايسون في مقاله "نبي السينما المفقود، نظرية الفيلم من أنتونين أرتود"  عن معارضة أرتود. وفي كتاب حواس السينما تشير ويليامز أن المخرجة ربما قامت بتأجيل تصوير الفيلم حتى لا يتسنى لأرتود المشاركة فيه، نتيجة قلقها المتزايد من مطلبه بالمشاركة التعاونية الكاملة، بما في ذلك عملية المونتاج.

 

ربما نعتقد على المستوى السردي أن الكاهن في الفيلم كان يسعى لإنقاذ الزوجة الشابة من براثن الجنرال، لكن كلا الرجلان كانا يمثلان وجهان لنفس النظام التراتبي القمعي الرمزي. وأول ما يوحي بذلك، في لقطة في بداية الفيلم للجنرال وهو يتلصص (علينا، او على زوجته) من خلال صدع في الباب، وهو مختبأ في الظلام، ثم يظهر بعد ذلك في نفس اللقطة مع الكاهن.

والأوسمة الضخمة التي تثقل الزي الرسمي للجنرال يقابلها أيدي الكاهن الرقيقة، باصابعه الطويله غريبة الشكل. كلاهما يمثل تهديداً يلقي بظلاله على الشخصية الأنثوية. وتؤسس المخرجة في الفيلم أنماطا من الثنائيات والتكرارات البصرية. من ناحية تظهر التناقضات الواضحة، على سبيل المثال، ما بين سجود الكاهن على الأرض، وجسد الجنرال المنتصب بشموخ، او الاطار المهيب لجسد الجنرال مقابل الجسد الهزيل للكاهن، ومن ناحية اخرى توجد بعض المتوازيات الشكلية، مثل التمثيل النمطي من كلا الرجلين، أو سيف الجنرال القضيبي الذي يخترق القوقعة في أكثر من لقطة، والأصابع الطويلة للكاهن. 

استمرت دولاك في تقديم أفلام تؤيد فكرة السينما الخالصة لأبعد من ذلك، و تحررت تماما من قيود السرد.

يعد فيلمها القصير المبهج "أرابيسك"، Arabesque، استحضاراً للخصائص المادية في العالم. في أحد المشاهد في الحديقة تصور تدفق المياه، ووشاح أبيض رقيق يعصف به الهواء، والأضواء المتلألئة على صفحة المياه. ويوجد مرة اخرى توتر رائع بين الخفة وصلابة الاشياء. وتضيف المخرجة باعتدال في هذا السيناريو ملامح شخصية أنثوية: حذاء بكعب عالي، واقدام متراقصة، ووجه تحت حجاب خفيف. ونرى الأسطح اللامعة الرقيقة تهدم مرة أخرى الفرق بين الشيء الحقيقي، وما يمثله، كما كان الحال في فيلم الصدفة البحرية. 

وتوظف دولاك بمهارة الإمكانيات الفنية للفيلم مثل تسريع الاطار، او تعدد الصور. 

وفي وقت كان التغيير يعصف بصناعة الأفلام، احتضنت دولاك تقنية صوت في فيديو موسيقي بدائي بعنوان " أولئك الذين يهتمون؟" ?Celles qui s’en font، (كان يطلق عليه وقتها اسم السجل المصور). ويمكن القول بعد كل المواضيع الجريئة التي تناولتها في افلام مثل "ابتسامة السيدة بوديه"، فإن الصورة في فيلم "أولئك الذين يهتمون؟" كانت جياشة بالعواطف. في الفيلم الأول تصور المخرجة حياة زوجة شابة متلهفة لحياة مثيرة فكرياً بينما تعيش داخل أسوار زواج باهت. 

أما في الفيديو الموسيقي الأخير على كلمات اغنيتين مشهورتين ( أنا وحدي تماما، والانجراف) بصوت المطربة الفرنسية الشهيرة فريهيل (ولدت بإسم مارغريت بولك) قامت بتصوير معظمه في أحياء الطبقة العاملة في باريس اوبرفيليه، من بطولة نفس الممثلة 

ليليان كونستانتيني، عن حكاية احدى فتيات الشوارع التي تنقاد إلى الانتحار بسبب المعاملة السيئة التي تتلقاها من صديقها.

وهناك ما يميز الأجواء الفقيرة الواضحة للحي، وفستان البطلة، وقوامها الهزيل الذي لم يصبح بعد علامة على الجمال - أصبح هذا القوام مثالاً للجمال فيما بعد في عصر اعلانات كيفين كلاين وصيحات الموضة مثل الهيروين الانيق. 

(ذكرت ويليامز في السيرة الذاتية للمخرجة عن أسلوب التمثيل التلقائي لكونستانيني، والجماليات الشبه وثائقية للفيلم).

 

في عام 1930 ستصبح دولاك المدير الفني المساعد في شركة غومونت فرانكو اوبير، من أكبر وأهم شركات الانتاج في فرنسا.

ورغم ذلك، وكما ذكرت ويليامز في سيرتها الذاتية إنه غالبا ما تم تهميش وتقليص هذا الدور بسبب عدم رغبة استديو الإنتاج في منحها السيطرة، في بيئة معادية للمرأة. 

وبمواجهة مثل هذه التحديات سعت دولاك الي تقديم المشورة للمخرجين الجدد تحت رعاية استديو غومونت، كما قدمت عدد من الأفلام غير الروائية القصيرة، ورغم ذلك ظلت العلاقة متوترة بينها وبين الشركة، حتى رفعت قضية في آخر الأمر، تزعم أنهم تجاهلوا مواهبها وقدراتها. 

أما اليوم فهي تعد إحدى الشخصيات البارزة لاعادة اكتشافها وتقديرها، كانت ذات مواهب متعددة، وغزيرة الإنتاج الفني، برصيد أكثر من ثلاثين فيلماً يحمل اسمها، وفي وقت يحتدم فيه النقاش حول التمييز الذي تتعرض له النساء في عالم السينما، تعد تذكيراً بأن مثل هذه التحيزات الممنهجة يمكن أن تتستر وراء العناوين البراقة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى