مثَّلت السريالية في النصف الأول من القرن الماضي مذهبًا حديثًا في الفن. ظهرت السريالية في فرنسا أولًا ثم انتشرت لتكتسح الثقافات المختلفة، وتُنسب إلى مُنظِّرها «أندريه بروتون»، الشاعر والكاتب الفرنسي الذي كان متأثرًا في بداياته بأسلوب «ستيفان مالارميه»، مع ميلٍ لديه إلى الشعر الرمزي، وكان على اتصال بـ«بول فاليري» و«غيوم أبولينير». وعند اكتشافه لقصائد «آرثر رامبو» تأكد لديه الاقتناع بأن الأدب الواقعي له حدود فنية لا يمكن تخطيها. عادةً ما يرصد باحثو الجماليات في هذا التيار الفنّي الجديد صدى للدّادئية التي مثّلت ردّة فعلٍ رافضةٍ للحرب العالمية الأولى وعبّرت عن مواقفها عبر الاستخفاف بالمبادئ التقليدية والميل إلى العبث وروح العدمية1. ولكن - فضلًا عن ذلك - يمكن تنزيل ظهور السريالية ضمن سياق معرفي وحضاري أعمّ، وهو عملٌ الإنسان المعاصر على التخلّص من مختلَف الأساليب التقليديّة التي كانت تكبّله، في تعامله مع السلطة والمجتمع والإبداع في آن واحد، فقد مثّل الثلث الأول من القرن العشرين زمنَ عملِ الشعوب على التحرّر من الاستعمار أو عمل الطبقات المستضعَفة على التحرّر من هيمنة الطبقات القويّة وأرباب العمل، وعمِلَ الفرد على التحرّر من سلطة العائلة ومركزيّة دور الأب وعملت المرأة على التحرّر من الهيمنة الذكوريّة. ضمن هذا الأفق يُفسَّر ظهور عديدٍ من التيارات الفنية التي تحاول أن تقطع مع الأساليب القديمة في الكتابة والإنشاء.
تطلّبت القطيعة مع هذه الأساليب القديمة في الكتابة والإنشاء تقويضَ التيار الواقعي الذي كان يهيمن على المشهد الفني عندئذ وتظهر وطأته في الرواية والرسم، خاصة من جهة الاعتناء بالتفاصيل والدقائق والإمعان في الوصف وعرض جزئيات العنصر الموصوف، وأخذَ فلاسفة الجماليات يعيدون فيه النظر ويؤكّدون أنه يكتفي برصد المظهر الخارجي للوجود ويعجز عن النفاذ إلى حقيقة الأشياء2، لذلك عملت كلّ من الرمزية والدادئية والتعبيرية والانطباعية على القطيعة مع محاكاة العالم الخارجي أو الالتزام بقوانينه3. ومن هذا المنطلق نفسه كانت السريالية - وترجمتُها الحرفية هي «ما فوق الواقع» أو «ما بعده» - ترى أنّه على الفنان البحث عن علاقات جديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع حتى يبقى بعيدًا عن كل سيطرة خارجية يمكن أن يمارسها العقل ليُخرج تلك الرغبات المكبوتة في النفس البشرية ويحرر الغرائز الإنسانية. وعليه لا بد أن يستسلم إلى خواطره وأن يفيد من تداعياتها ومن كسرها لمنطق السبب والنتيجة، وأن يعمل على الغوص في عوالم اللاّشعور والأحلام سواء في اليقظة أو في المنام للتّعبير عن مكنون العقل الباطن. يعرّفها «بروتون» بكونها «آلية نفسية بحت يقترح المرء من خلالها التعبير عن الأداء الحقيقي للفكر، شفويًا كان أو كتابيًا أو بأي طريقة أخرى ويمليها الفكر، في غياب أي رقابة يمارسها العقل، بعيدًا عن أي اهتمام جمالي أو أخلاقي. تقوم السريالية على الإيمان بالواقع المتفوق لأشكال معينة من الارتباطات المهملة حتى، في القدرة المطلقة للأحلام، في لعبة الفكر اللامبالية. إنها ميَّالةٌ إلى تدمير الآليات النفسية الأخرى بشكل دائم لتقوم مقامها في حل مشكلات الحياة الرئيسة»4.
تدعو السريالية إلى القطيعة مع الماضي إذن وهذا بديهي، ففي خلفياتها مؤثراتٌ واردة من الفكر الماركسي الذي يتبنّى الثورة واستخدام العنف منهجًا لتغيير المجتمعات، وأخرى منحدرةٌ من الدادئية التي وُلدت في زيورخ، ذلك التيار الفوضوي الذي يكفر بالقيم السائدة، أو واردة من الرؤية الجديدة للوجود وللممارسة الفنية التي قامت عليها الحركة التكعيبية. ولهذه الرواسب جميعًا كانت تحتاج إلى جمهور متفاعل يوظّف باستمرار خبراته الجمالية السابقة لتأويل دلالتها، وتُركّز على الجانب السياسي وتنادي بالثورة لتغيير أسلوب حياة الناس القائم وقناعاتهم وتصوراتهم للفنّ من جهة خصائص الإنشاء ومعايير التقبّل، وهو ما لم يكن يتحقّق بسلاسة دائمًا.
يختزل المنظّر «أنتونان آرتو» هذه الرؤية في بيان 27 يناير 1925 الذي حرّره نيابةً عن روّادها ليوضّح تصوّراتها هذه التي واجهت صدًا نقديًا. يقول:
«نظرًا للتّأويل الخاطئ لمبادرتنا، المنتشر ببلاهة بين الجمهور، يهمنا أن نعلن تبعًا لكل النقد الغبي، الأدبي والدرامي والفلسفي والتفسيري، فضلًا عن اللّاهوتي المعاصر:
- لا علاقة لنا بالأدب ولكننا نستطيع باقتدار - إن اقتضى الأمر - أن نوظّفه مثل عامّة الناس.
- ليست السريالية وسيلة تعبير جديدة أو أكثر يسرًا، وليست ميتافيزيقا للشعر أيضًا. إنها وسيلة للتحرر الكامل للروح ولكل ما يشبهها.
- لقد قرّ عزمنا على القيام بثورة.
- لن نُلحق كلمة السريالية بكلمة الثورة إلاّ لإظهار الطابع غير المكترث والمنفصل واليائس تمامًا كذلك، لهذه الثورة.
- لا ندّعي تغيير أخلاق الناس في شيء، ولكننا نعتقد أننا سنُظهر لهم هشاشة أفكارهم، وعلى أي أسس متغيرة، وأي دهاليز أقاموا بيوتهم المرتجفة.
- نوجّه للمجتمع هذا التحذير الرسمي: أن ينتبه إلى انحرافاته، فلن نفوّت له أي عثرة من عثرات فكره.
- سوف يجدنا المجتمع عند كل منعطف من منعطفات فكره.
- نحن متخصصون في الثورة، و[لكن] لا توجد وسائل عمل يمكننا استخدامها عند الضرورة.
- نقول بشكل خاص للعالم الغربي: السريالية موجودة.
– ولكن ما هي هذه المذهبية الجديدة التي تلتصق بنا الآن؟
– السريالية ليست شكلًا شعريًا. إنها صرخة الروح التي تعود إلى ذاتها، وتصر على تحطيم أغلالها بيأس، وإذا لزم الأمر بواسطة المطارق المادية».
من مكتب البحوث السريالي
شارع دو غرونيل.
ظهرت السريالية أول أمرها في الأدب، ولكن سريعًا ما حاول الفنّانون التشكيليون أن يستعيروا منها أسلوبها التلقائي الصرف الذي يبعث ذلك البُعد الغامض والسحري في تفاصيل الأثر ووجدوه قابلًا للتطبيق في الرسومات، وحاولوا أن يعتمدوا الألوان والأشكال للوقوع على اللاشعور ونقله إلى اللوحة، ولهذا تبدو لوحاتهم غامضة ومعقدة. بلغت أوجها بين عامي 1924-1929، ثم خلال الحرب الأهلية الإسبانية، بداية من 1936، وما أحدثته من تشوهات في الطبيعة، وكان من أهم أقطابها الفنان الإسباني «سلفادور دالي» الذي نقلها بدوره من الرسم إلى السينما، وكان آخر معرض لها في باريس عام 1947. ومع تراجعها الكبير -بداية من هذا التاريخ، إثر الفشل الذريع لمعرضها- هاجر عدد كبير من فنانيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتظهر هناك مدارس عديدة اعتُبرت امتدادًا لها. ويردّ مؤرخو الجماليات نهايتها إلى عناد أصحابها، فقد رفضوا الانصياع إلى الذائقة العامة الوليدة بعد الحرب العالمية الثانية وظلّوا يطرحون موضوعات مصطنعة لا تتلاءم مع نفسية شعوب خارجة من الحرب. وثارت ضدها الفلسفات المحافظة في الغرب الأوروبي والشيوعية التقدمية في غربها، واستندت في نقدها إلى دعوتها المستمرّة للتحلّل من القيم الأخلاقية وتحرير الغرائز والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، وهكذا حّلت الكتابة ذات العمق الفلسفي الوجودي محلّها.
إبّان ظهور السريالية في الأدب ثم في الرسم، لم تكن اتجاهات كثيرة تنظر بعين الرضا إلى السينما لِمَا كانت تعتبره انحرافًا جعلها تبتعد عن هويتها الأساسية، فقد باتت تتجاهل كونها لغة وظيفتها التعبير، ووجهت كلّ طاقتها لاصطناع المغامرات وإنتاج أفلام روائية تجارية. وكان «أندريه بروتون» - الشاعر والكاتب الفرنسي والمنظّر للسّريالية - بدوره متحفظًا على هذه السينما وناقدًا لها. ومن هذه الاتجاهات السينما الصافية والسينما الطلائعية دعا كل من «رينيه كلير» و«جان إبستاين» و«والتر روتمان»، إلى استغلال طاقات الصورة الإبداعية وعبقريتها لخلق إيقاع يُحوّل الفيلم إلى سيمفونية بصرية، وإلى تحريرها باعتبارها وسيلة للتّعبير حتى تضحى أداة مثالية لفنّ جديد أكثر مرونةً من سائر الفنون وأكثر قدرةً على التعبير عن حالات الروح الباطنة5. وفي ألمانيا، قام «هانس ريختر» على سبيل المثال بإخراج أفلام موسيقية وأنتج أفلامًا وثائقية ذات خلفيات دادئية وتجريدية منها «التضخم» (Inflation - 1928) و«رينسيمفوني» (Rennsymphonie - 1928). كان من الطبيعي أن يستهوي هذا التيار السينمائيين وأن يجلبهم إليه، ولكنّ العمل الذي سيصنّف سرياليًا دون احترازات نقدية هو الفيلم القصير «كلب أندلسي» 6(Un chien andalou - 1929) لـ«لويس بونويل»، وربما لظهور «سلفادور دالي» فيه وكتابته لسيناريوه دور في هذا الإجماع.
وجد الشعراء السرياليون في السينما - بما لها من قدرة على اصطناع صور متحركة يتلاعب فيها المخرج بتركيبتها لتجسيد الحلم في مكونات مَشاهد من الحياة الحقيقية - ترجمةً أمينة لتصوّرهم للشّعر7، فكان «جول سوبرفيل» يرى أنّه «يمكن للسيّنما أن تجعل العالم يرتدّ عبر العصور السحيقة إلى بداياته. ولم لا تضعه على هامش الزمن بجانب الإله حيث الخلق النضِر؟»8. وكتب عدد كبير منهم نصوصًا لتُجسَّد عبر الشاشة9، لعلّ الشاعر الفرنسي «جان كوكتو» الذي أخرج فيلم «دم شاعر» (Le Sang d'un poète - 1930) أن يكون أبرزهم، ومداره فكرته الرئيسة على فنانٍ تشكيلي يعيش معاناة الخلق الفني، وعبرها ينفذ إلى لاوعيه وإلى أحلامه وهلوساته وجنونه الفني. وعامّة، وجدت السينما الذاتية طريقها إلى الشاشة الفضية أول أمرها عبر إسهام السرياليين. ولَئن خبا هذا التيار الفني فإن شيئًا منه لا يزال قائمًا إلى اليوم، هو التعبير عن اللاوعي بشكل مباشر وهتك الحدود بين الواقعي والخيالي وبين الهلوسة والإدراك وكلّ تلك العناصر التي أسهمت في تدمير الواقعية السينمائية ضمن الموجة الجديدة10.