الصرخة التي أيقظت الوحش في فيلم «رجال»

October 6, 2025

من بين جملة الانتقادات التي وجهت إلى فيلم «رجال» (2022 - Men) للمخرج أليكس غارلاند: تبسيط مفهوم الذكورة، وضعف البناء الدرامي لرحلة البطلة، والاعتماد المفرط على الرمزية الدينية، والفلكلورية، والجنسية، ناهيك عن نهايته المثيرة للجدل. لكن، ماذا لو اتخذنا من هذه الانتقادات مقصدًا نحو قراءة أخرى للفيلم، الذي يدور حول التجربة المروّعة التي تتعرض لها هاربر (جيسي باكلي) عند استئجارها أحد المنازل الريفية من أجل التعافي بعد فقدان زوجها.

يُعدّ فيلم «رجال» بلا شك من أكثر الأفلام تعقيدًا في مسيرة جارلاند الإخراجية والكتابية، لكنه تعقيدٌ يسعى إلى إلقاء الضوء على تجربةِ وعيٍّ جمعيٍّ من خلال تجربة فردية لوعي بطلته.

إذا ما تتبعنا أعمال المخرج ذات البطولة النسائية، سنجد أن كل فيلم منها يستعرض بشكل ما تأثير عالم الرجال، أو الأنظمة الأبوية على النساء، مثلما نرى في فيلم «إكس-ماكينا» (2014 - Ex-Machina)، عندما تنقلب الروبوتات المؤنثة على صانعها بعد تطويرها للوعي والأساليب المراوغة، لتنال حريتها في النهاية، وفيلم «العدم» (2018 - Annihilation)، إذ تخرج فيه مجموعةٌ من النساء في مغامرةٍ علميةٍ لاستكشاف منطقةٍ مجهولة، حيث يكون الدافعُ الظاهريُّ لقائدتهم هو معرفة ما حدث مع زوجها أثناء اكتشافه لتلك المنطقة، بينما الحافز المستتر هو إزاحة عبء العلاقة بينهما، فكانت رحلتها بمثابة مُطهرٍ أرضي عليها أن تخوضه.

لا يبتعد فيلم «رجال» كثيرًا عن هذا المسار، إذ تتعرضُ هاربر فيه للعنف المنزلي، والابتزاز العاطفي من قبل زوجها الذي يؤنِّبها، ويهدِّدها بإنهاء حياته إذا ما أصرَّت على الانفصال عنه، وهو ما يحدث فعلًا، فيسبِّبُ لها صدمةً نفسية كبيرة، يستعرضها الفيلم بشكلٍ شخصي، ويفتحُ من خلالها جرحًا مشتركًا بين جميع النساء. ومن خلال الرموز المتعددة في الفيلم  ينكأُ جارلاند جرحَ الوعيِّ الجماعي لدى الإناث، متخذًا من أعراض "اضطراب ما بعد الصدمة" مدخلًا  لأسلوبيَّة سرد الفيلم. فيرسُم ملامحَ شخصية هاربر من خلال صدمتها النفسية التي تتكشف بمضي الأحداث، في تداخل بين الواقع والهذيان، وذلك نتيجةً للسرد المُقيد بها، في محلِّ راوٍ غير موثوق.

والبداية مع الصوت، إذ يدرك المخرج جيدًا دلالته في التاريخ الأنثوي، وقد اعتمد عليه بكثرةٍ في الحكي بدلًا من الكلمات لتتبع أزمة الصوت الأنثوي عبر التاريخ، وعلاقته بـ هاربر. ولكي نستوعب هذه الدلالات علينا التطرق أولا إلى أصول أزمة الصوت الأنثوي تاريخيًا، إذ سنجد أن الأصوات الأنثوية كانت مقموعة بقوة في الحضارات القديمة. ففي اليونان القديمة وروما لم يُسمح للمرأة بالنطق علنًا، وخضعَت المرأة قانونيا لنظام "سلطة الأب"، فـ«كان الرجال يفرضون على النساء أن يصمتن في الأماكن العامة».
في الثقافة اليهودية القديمة، حرّم التلمود سماعَ صوت المرأة بين الرجال، ومع صعود المسيحية في العصور الوسطى، استُند إلى بعض نصوص الرسل لتبرير صمت المرأة دينيًا. وبناءً عليه، فقد ارتبطت قواعد الصمت بمعاقل السلطة الأبوية والسياسية، حيث جُعلت ألسنة النساء مهدِّدة للنظام الاجتماعي إن لم تُكبَح، ورغم تقدم حقوق المرأة في العصر الحديث، لا تزال هناك قيودٌ، في بعض البلدان، تحول دون انتشار صوتها علنًا، معتبرين أن صوتها محرّضٌ على الفتنة.


يستهل الفيلم أحداثه مع صوت المطر المنبعث خارج شقة البطلة التي تقف داخلها، يعلو الذهول وجهها المجروح، تجفل مع بداية صوت الموسيقى المصاحبة للمشهد، فتتقدم لإغلاق النافذة، لترى رجلًا يسقط أمام عينيها.

تفجع هاربر من هول ما تراه، بينما تتغنى المطربة ليزلي دانكن بأغنية «حب» Love song  على المسار الصوتي للمشهد. يبدو الصوت كما لو أنه قادم من مصدر خارجي أي non-diegetic، فليس هناك من مصدر واضح يذيع الأغنية داخل المكان، لكن عند الانتقال إلى المقطع التالي، وهي في طريقها للمنزل الريفي، نجدها تستمع إلى نفس الأغنية في السيارة. لذلك نستنتج أن لحظة الإجفال التي حركتها في اللقطة الافتتاحية، ما هي إلا ردة فعل لصوت تمكن من  اختراق حاجب ذكرياتها أثناء قيادة السيارة، لهذا استخدمه المخرج كجسر صوتي soundbridge بين المشهدين.

تتوالى دلالات الصوت مع مضي الأحداث، بعدما تستقر في المنزل، وتخرج في جولة إلى الغابة المحيطة، تغمرها الطبيعة بأصواتها وتبتلعها داخل خضرتها الطاغية. تصاحبها الأصوات الكورالية على شريط الصوت في هذا المشهد، فتخلق حالة أثيرية تصبغ التجربة الروحانية التي تعيشها أثناء تجولها في احضان الطبيعة.

يحرص المخرج على دمج الأصوات البشرية- الغناء الكورالي والأصوات اللحنية - داخل النسيج الصوتي للفيلم بدلاً من الأغاني التي يستعين بها في معظم أعماله.
وبالنظر إلى واحد من أهم مشاهد الفيلم، وهو مشهد النفق المظلم الذي تجده البطلة أمامها وسط الغابة، بعد تغلبها على خوفها من ظلمة المكان، نراها تتوغل أكثر  بداخله، وتصدر أصواتًا لها طابع لحني مكون من عدة طبقات، يعيدها إليها الصدى، فتطلق العنان للمزيد من الأصوات التي تتسبب في إيقاظ كيان آخر بنهاية النفق، يتمثل شاخصًا أمامها، لا تنم عنه أي حركة، ثم يبدأ فجأة في ملاحقتها، وتعلو صرخة مدوية متكررة على شريط الصوت.

تتجلى أهمية هذا المشهد لعدة أسباب: بوصفه نقطة التحول الأولى في مسار الأحداث، حيث تبدأ معاناة هاربر بسبب خوفها الشديد. ويُستخدم الصوت فيه كمحفز لبداية ظهور أعراض الصدمة لديها، إيذانا بظهور الخوف في شكله البدائي المتسبب فيه الآخر.

وكأنه بذلك يوقظ الخوف المتأصل في الوعي الجمعي النسائي تجاه الاقتحام الذكوري، لأن ردود أفعال هاربر التالية لهذا المشهد تمثل توالي أعراض اضطراب ما بعد الصدمة من خوف وهلع شديد، ومبالغة في التصرفات، وعودة الذكريات في شكل لقطات استرجاع للماضي التي يعود إليها المخرج بين الحين والآخر لتفسير ما مرت به.

ومن الصوت ننتقل إلى الصراخ، وهو مرتبط تاريخيًا بالنساء في مستويات متعددة، فهو من ناحية بيولوجية يُعدّ فعلًا بدائيًا مرتبطًا بالنجاة، سواء للتحذير أو للاستغاثة أو للتعبير عن الألم. لكنه مع مرور الزمن اكتسب مضامين ثقافية وجندرية، إذ صار يُنظر إلى صراخ المرأة بوصفه علامة على "الضعف" أو "الهستيريا"، في حين يُنظر إلى صراخ الرجل باعتباره فعل قوة أو إعلان حرب.

 تتكرر الصرخات في الفيلم، ما بين صرخات مكتومة عند صدمتها من سقوط زوجها، وأخرى نسمعها لأول مرة عندما تراودها ذكرى المشاجرة الأخيرة بينهما، والتي أفضت إلى ضربها، وطرده من المنزل. تجد هذه الذكرى متنفسًا لها في صوت صرخة مدوية ترج أرجاء كنيسة البلدة مستدعية انتباه الكاهن، في مشهد بصري يربط بين هذه الصرخة، وصوتها داخل النفق الذي أيقظ الكائن الأخر.

يذكرنا الصراخ والصوت بأسطورة إيكو، والعقاب الذي أوقعته عليها الآلهة، فمُنعت من الكلام، وأصبحت تردد صدى ما يقال إليها، نرى هذا بوضوح من خلال استعانة المخرج ببعض الرموز الوثنية التي ترمز للتجدد مثل تمثال (شيلا نا جيغ)، النقش الحجري القديم الذي يصور على إحدى جانبيه امرأة عارية تظهر أعضائها التناسلية بشكل فج، يقابله من الطرف المقابل الوجه الصارخ للرجل الأخضر، تتقاطع صرخة هاربر مع صرخة الوجه الحجري المنبعثة من الطرف المقابل لنقش شيلا نا جيغ، وكأن عليها المرور بتلك الآلام من الصراخ إلى المخاض حتى تتحرر من صدمتها بالألم والمعاناة.

يمتد الاستدلال بشخصية هاربر كنموذج لقراءة الوعي الجمعي الأنثوي الجريح، المتأثر بالعنف المنزلي والابتزاز العاطفي المتستر تحت مزاعم الحب، عبر الاستهلال الرمزي البسيط للأحداث عند وصولها إلى المنزل الريفي، الذي يمكننا تشبيهه بـ “الجنة المزيفة” التي ظنت أنه ملاذ آمن للاستشفاء، نجدها تعيد بداخله ارتكاب الخطيئة الأولى بقطف وتناول إحدى التفاحات دون استئذان. هذا الفعل المجازي يستدعي إلى ذهن المتفرج عبء الخطيئة الأولي الذي أُلصق بالمرأة في الديانات التوراتية منذ لحظة الخلق.

تتلقى هاربر على الفور توبيخًا ساخرًا من مالك المنزل، يوظفه كنوع من المزاح الظاهري لكنه يخفي خلفه وعيًا جمعيًا أبويًا راسخًا. يتجلى هذا الوعي أيضًا في سؤاله المباشر عن زوجها، باعتبارها مرتبطة بكنيته، بينما تصر هي على استخدام اسمها الشخصي، في محاولة لاستعادة هويتها الفردية المسلوبة التي تحاول الدفاع عنها والتأكيد عليها طوال الأحداث.

ورغم أن الفيلم يلتزم بتجربة البطلة النفسية، إلا أنه لا ينفصل عن تصوير المرأة من منظور الآخر الذكوري. فعلى سبيل المثال، عندما يسألها مالك المنزل عن قدرتها على العزف على البيانو، ترد بالنفي، ثم نراها لاحقًا تعزف عليه باحترافية، بينما تراقبها الكاميرا من خارج الغرفة، ثم من خارج المنزل. ليعكس بذلك رؤية الآخر الذي لا يدرك سوى السطح، بينما يظل الداخل أكثر عمقًا وتعقيدًا، وهو ما يصر المخرج على كشفه.

وعند ربط انتقاد تبسيط الذكورة في هيئة رجل واحد متجسد في عدة نماذج ذكورية تتعدى على البطلة وعلاقته بالوعي الجمعي الأنثوي، نجد أنهم ليسوا سوى تجسيد للوجوه المتكررة للنظام الأبوي على مر التاريخ: الكاهن (السلطة الدينية الأبوية )، الشرطي (القانون المتواطئ أحيانًا ضد النساء)، الطفل (التربية الذكورية المستقبلية)، والرجل البدائي (الخوف والتهديد في صورته البدائية). جميع هذه النماذج، وإن أداها ممثل واحد، ليست بحاجة إلى تعميق فردي لأنها ترمز إلى امتداد الإهانة عبر الأجيال وتكشف عن قمع جمعي غير  مقتصر على تجربة خاصة، فعبر عنه المخرج من دلالة مشهد الولادات المتكررة لإحداث صدمة لدى المشاهد.

يرتبط غياب النماذج الرجالية الإيجابية والنسائية الداعمة بقرار البطلة بخوض رحلة التعافي بمفردها. وهو واحد من ضمن الانتقادات التي وجهت أيضا للفيلم، لأن بغياب هذه النماذج يفقد السرد توازنه، ويتسم بالمباشرة في طرح وتهميش المشكلة النسوية التي يعالجها.

لكن نظرًا لتقيد السرد بمنظور معاناة البطلة التي تتحكم فيها صدمتها النفسية، لم تعد هناك مساحة لتقديم ما يعارض ارتيابها وخوفها من الآخر، فيصبح إصرارها على قضاء تلك الفترة بمفردها، والتحدث مع صديقتها عبر الهاتف فقط، شكلا آخر من أشكال الانغلاق على الذات.
وهو انغلاق يحيل إليه المخرج من خلال استغلال دلالات الفضاء المكاني لتأكيد الفصل الجندري: حيث يخصص الفضاء الداخلي للبطلة، والخارجي للرجال، في ثنائية تتكرر بصريًا عبر محاولات الاقتحام والانتهاك المستمر. فالرجل العاري يحاول اقتحام المنزل، ومالك العقار يدخل احيانًا بلا استئذان، والغراب والطفل والكاهن جميعهم يقتحمون الفضاء الخاص بها.
لذلك تحرص على غلق الأبواب بإصرار مرارا وتكرارا في موتيفة بصرية متكررة، كوسيلة للحماية ولتجنّب المواجهة، كما في مشهد إغلاقها للنافذة قبل سقوط زوجها، أو إغلاق الأبواب أثناء شجارها معه لوقف محاولاته في فرض تفسيراته، أو حتى الاستماع إليه.

يكتمل البناء الرمزي الرابط بين التجربة الفردية والعامة عبر أغنية "Love Song" لليزلي دانكن، التي يستهل بها جارلاند الأحداث وينتهي الفيلم بها أيضًا، مستخدمًا نسختين منها: الأولى في البداية بصوت دانكن بمفردها، وفي النهاية بالنسخة المشتركة مع إلتون جون. تحمل الأغنية هي الأخرى مفاتيح لقراءة الفيلم؛ إذ تؤكد كلماتها أن أبسط الحقائق قد تكون أصدقها، مثل أن يكون الحب هو المفتاح، الحقيقة هي الشعلة، والحرية هي الدرس الذي ينبغي تعلمه. من خلال دلالات هذه الكلمات، لا يقتصر خطاب المخرج على النساء فحسب، بل يوجه رسالته لكلا الجنسين: أن العلاقات لا يمكن أن تستقيم إلا حين يتحرر الطرفان من قيود الأعراف الأبوية التي تُنتج وتورث العنف والابتزاز العاطفي. وفي هذا السياق يصبح رفض هاربر الاستماع والإنصات لمبررات زوجها، الذي يؤذيها تحت مسمى نذور الزواج، ليس موقفا شخصيا، لكنه بالأحرى تمردٌ وإعلانٌ رمزيٌ عن ضرورة التحرر من دوائر العنف التي يفرضها المجتمع الذكوري.

ويبدو أن الفيلم، بذلك، لا يكتفي باستعراض أعراض الصدمة النفسية، بل يحفر في جذورها الاجتماعية والدينية من خلال الرمزيات الكثيفة التي يغلف بها أحداثه. فما تمر به "هاربر" من صدمة فردية، تستعيد من خلالها رمزية الخطيئة الأولى المُلصقة بالمرأة منذ بدء الخليقة. وكأنها تعيد تمثيل لحظة العصيان الأولى التي تبرر، في الوعي الجمعي الأبوي، عقابها الدائم. من هذه النقطة، يصبح كل ما تتعرض له هاربر – من اقتحام للفضاء الشخصي، وتلصص، وكتم صوتها وصراخها وتحويله إلى دليل على ذنبها – امتدادًا لهذا العقاب التاريخي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى