سكان قريةٍ فقراء يعتاشون على زراعة الأرز تتسلط عليهم عصابةٌ من قطاع الطرق، فيبحثون عن خلاصٍ من هذا الظلم ولا يجدون سوى نصيحة أكبرهم سناً بأن يستعينوا بمجموعةٍ من الساموراي لتخليصهم، يذهب ثلاثةٌ من سكان القرية للبحث وطلب المساعدة، فيجدون مقاتلاً يرغب بالمساعدة ويبدأ بجمع مقاتلين جوالين لا يخدمون أحداً، يجتمع لديه ستة مقاتلين يجمعهم الواجب الأخلاقي أو الرغبة بالبطولة، يقاتلون قطاع الطرق، فيُقتل بعضهم وينتصرون في النهاية وتتحرر القرية، ثم لا ينتهي كل شيء، قد تبدو القصة سخيفةٌ وأنا أرويها بأكثر نسخها ربما رداءةً، لكن هذه القصة الرئيسة ولا يمكن إضافة أحداث رئيسةٍ أخرى عليها، سوى الأيام والأسماء والأماكن وخطط القتال وأعداد القتلى وهذا من باب الاستفاضة بالسرد، وكلها لا تهم هنا ما يهم هو كيفية تصوير كوراساوا للقاتل والقتيل، أو كيف يجرّد كوراساوا قطاع الطرق من إنسانيتهم ويجعل من القتل فعلاً إنسانياً خالصاً، وكيف يحوّل الجبناء إلى مشاركين فيما يبدو حفلة قتل.
حين تابعت الفيلم للمرة الأولى قبل سنوات قمت بالبحث عنه، فسمعت هذه الكلمات: "الموت والعنف -في هذا الفيلم- كلاهما كريهٌ وقذر ووحشي وصادم، وحين يموت الناس فإنهم يموتون في الوحل" ديفيد دريسر. "نحن نشعر بكل موتٍ، حتى موت الرجال السيئين (أفراد العصابة) فنحن نعلم ماذا يعني الموت، هذا الفيلم من أوائل أفلام الساموراي التي تساعد على فهم الموت، فهذا الموت ليس مصطنعاً" دونالد ريتشي.
يبدو الموت حقيقياً في هذا الفيلم لأننا لا نرى وجوه القتلى، لأنهم لا يموتون أمام الكاميرا، فهم يموتون في ساحة المعركة تحت المطر وفي الوحل، ويُقتلون غيلةً أحياناً، وبشكلٍ بدائيٍ وهمجيٍ أحياناً أخرى، هناك صورة من يقوم بالقتل وهو الساموراي أو حفنة الفلاحين، دون صورة القتيل إلا في حالة الرعب الذي يسيطر عليه، أو سقوط القتيل دون رؤية القاتل إن كان من الساموراي، إن كاميرا أكيرا منحازةٌ جداً، فالقتلة مجردون من هوياتهم ومن وجوههم تماماً فهم يدخلون في خانة الغريب، يُعرفون بصنيعهم فقط ولا شيء آخر سواه، نعرف أنهم لصوصُ أرزاقٍ ونساءٍ وقتلةٌ في بعض الأحيان، لكن لا شيء آخر مطلقاً، وبالتالي هم مجردون من القيمة الإنسانية، كما أننا لا نرى القتلة إلا في مشاهد قليلة لا يوجد من بينها ما يقدّم لنا قصةً غير طبيعة عملهم، فهم يبقون في الخانة الأولى التي صنعها لهم أكيرا، فهو لا يزيحهم عن خانة الغريب والمجهول مطلقاً، إننا نراهم: في المشهد الأول حين يبيّتون نية سرقة القرية، وفي وكرهم ثم في هجومهم على القرية ومشاهد المعركة، حتى أن الأخير لا يعبر عن طبيعتهم قدر ما يعبر عن الرعب الذي يشعرون فيه في حفلة القتل التي يمارسها الفلاحون ضدهم، حيث نفرٌ من الفلاحين يهجمون بشكلٍ بدائيٍ ويقتلون فرداً منهم.
في المقابل هناك الفلاح الذي نعرفه ونعرف قصته كاملة بما فيها من تاريخ وحاضر ورزق ومخاوف، فالقرية مكشوفة نعيش قصتها، وبعض جوانبها يلامسنا بشكلٍ مباشرٍ، وبعضها الآخر نستنكره؛ فأكيرا يبرع في تصوير السذاجة التي يبدو عليها الفلاح كما يبرع في تصوير الخبث والخديعة التي يمارسها، إنه شكل الحياة العادية التي يحياها الناس وتنشأ فيها قصصهم، كذلك هو الأمر بالنسبة لمقاتلي الساموراي، فقصة كل واحدٍ منهم نعلم على الأقل جانباً منها، هناك حالة الإخبار ولو من بعيد حول تاريخ كل فردٍ منهم، حيث يتكشّف هذا التاريخ أحياناً من خلال المقاتل ذاته، أو من خلال الحدث كما هو حال (كيكوشيو: توشيرو مفيون) على سبيل المثال، نحن لا نتعاطف مع الآخرين بدون معرفة قصصهم، وكأن أكيرا يقول أن الإنسان هو القصة التي تصل إلينا، القصة التي لا داعي للتحقق منها، هنا ينشأ التعاطف بين الناس وتغدو وجوههم مألوفةً لنا، وهنا يتم تخليد الأفراد في يوميات وذاكرة الإنسان، فكلما تبدّت لنا القصة أكثر كلما توطدت علاقتنا بهم.
يمثل طمس الهوية الذي يمارسه أكيرا بحق العصابة عزلاً عن المجتمع باعتبارها غير قابلةٍ للاندماج معه، فالعصابة ليسوا لصوصاً فقط بل غرباء ومنبوذون وفي ذات الوقت غير قادرين على الاندماج؛ لأنهم يفتقرون لقصةٍ مكتملةٍ وقابلةٍ للتداول بين المجتمع، إنهم جسد اجتماعي معزول يعرّفون أنفسهم بطبيعة صنيعهم ويتم تعريفهم به، فهم مجرد خطر خارجي على المجتمع الذي تمثله القرية، ينزع أكيرا إنسانية أفراد العصابة من خلال هذا العزل الذي يمارسه، وبذا فهو يلغي أي تعاطفٍ معهم ويعطي للقتل بشكل البشع والعنيف مبرره، فيغدو واجباً وغير مستهجن، وفي مقابل العصابة هناك نموذج القرية وحدها ثم القرية مع الساموراي حيث ينتج تاريخٌ اجتماعيٌ مشتركٌ، وينشأ مجتمع بكل صراعاته وثقافته، والذي ينشأ بين الفلاح والساموراي حيث يصير الأخير مصدر قلق وخوف الأول على ثقافته، ففي هذا المجتمع يبدو أحياناً خطر الساموراي أكبر من خطر العصابة، لأنه قابلٌ للاندماج؛ لذا هناك إمكانية التأثير الذي قد يتسبب به مثل خوف أحد الفلاحين من سرقة شرفه، فهذا عملٌ يقوم به الساموراي أيضاً.
بالعكس من هذا الموقف عند أكيرا فإن نسخة ستيرغز (الرائعون السبعة 1960) وسمير سيف (شمس الزناتي 1991) تعطي للعصابة بعداً إنسانياً أكثر من عصابة أكيرا، وذلك من خلال الأسماء والعلاقة التي تنشأ بين عصابة كاليفيرا (1960) والمارشال برعي (1991) والقرى، فهناك التداخل بين العصابة والقرية رغم أنه قائمٌ على استغلال الطرف الأضعف، فقانون القوة هو المسيطر الآن في علاقة اجتماعية بين فريقين، مع فارقٍ بين عصابة أكيرا وعصابة لاحقيه بأن الأولى تسرق من بين ما تسرق النساء، أما عند أحفاده فإن الأمر يتعلق بالعيش فقط، كما ويقدم ستيرغز سؤالاً أخلاقياً في عمله هذا قائمٌ في الأساس على نقد المجتمع الذي يرفض حق هنديٍ ميتٍ بالدفن، أي أن تعريف الغريب لا يتعلق عنده بالفعل كما هو حال أكيرا بل بالهوية، فالجانب الأخلاقي الذي يقدمه ستيرغز قائمٌ في الأساس ليس على قتال العصابة، إنما على نقد وأحياناً عداء المجتمع كاملاً، حيث يكون الصراع مفتوحاً داخل المكان الأول الذي يوجد فيه آدامز، فهو المكان الذي تولد فيه كل الأسئلة الأخلاقية التي يحاول ستيرغز طرحها، فهناك نحن والآخر، وهناك الحياة على هامش المدينة أو الحضارة، حيث تشكل الصراعات التي يقدمها ستيرغز الفصل بين ما هو أخلاقي وغير أخلاقي، حيث يغدو خروج المقاتلين للدفاع عن القرية أشبه بالخروج من عالمٍ منهارٍ قيمياً، غير أنه يتغير حالما يصلون القرية إذ يتحول الصراع من تعريفٍ للإنسان في المدينة إلى استغلاله في القرية من قبل عصابة كاليفيرا، ورغم أن كاليفيرا يرى سكان القرية مجال سخريته الوحيد؛ لأنهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم فقط، لكنه في ذات الوقت لا يخلو من منظورٍ أخلاقيٍ في علاقته مع القرية ويتضح هذا في وفائه لوعده لآدامز حتى يبقي بعض الاحترام له عند السكان، أما في نسخة سمير سيف فإن هذا الجانب معدومٌ مطلقاً، حيث لا يتعدى الأمر الحفاظ على أرواح شمس الزناتي وجماعته، تشكّل عودةُ آدامز وعصبته وشمس الزناتي إلى القرية لقتال كاليفيرا والمارشال التجردَ الأخلاقي الأسمى، ذلك بأن الدافع الوحيد بعد النجاة من الموت هو نجاة الآخر، باعتبارها نجاةً لنفس المقاتل من حالة القلق الدائم وتأنيب الضمير.
تشكّل إعادة التسلّح لجماعة آدامز والزناتي مصدراً آخر للصراع الذاتي، فجماعة آدامز يعيد كاليفيرا سلاحها، بينما يسطو الزناتي على سيارة تابعة للجيش، حيث تعتمد الأولى على حقٍ مطلقٍ لسكان القرية مقابل صنيع كاليفيرا، بينما عند عند سمير سيف هناك الخروج على العالم كله من أجل هذا الحق، في حين يجرد أكيرا العصابة من أي ترابط إنساني مع سكان القرية حتى من مجرد الكلام، فإن الأخيرين يعطيان هذا الحق ويؤنسنان عصابتهما، ويعطيانها حدوداً واضحةً للمدى الذي قد تتصرف فيه العصابة.
يتغير سياق القصة في نسخة فوكوا 2016 حيث يتداخل الشخصي بالأخلاقي، ويتحول التعاطي القائم على المنفعة بين العصابة وسكان القرية إلى نموذج أكثر تطرفاً، قائم في الأساس على الاستعباد والاستغلال اللامتناهي من قبل عصابة بارثولوميو بو، ويتضح ذلك في بداية الفيلم حيث تقوم العصابة بقتل كل من يحاول الوقوف أمامها، حتى أن الكنيسة التي يجتمع فيهاسكان القرية تُحرق، فلا حرمة هنا لأي شيءٍ سوى المال. هذا الأمر يأخذ شكلاً متطرفاً من التعامل بين عصابة بو وسكان القرية ثم رجال شيزم، حيث يصير التدمير والإفناء رد الفعل الوحيد على أي محاولة لتغيير شكل العلاقة، لكن موقف شيزم الأخلاقي ينطلق من تاريخ شخصي مشترك بينه وبين بو، كذلك الأمر بالنسبة لبعض المقاتلين فهناك قصص قائمة على المنفعة الذاتية لكن غير المادية، فلا يمكن الجزم بطبيعة الدافع عند البعض ومن بينهم شيزم الذي يرغب بالانتقام لمقتل عائلته على يدي بو في زمنٍ سابق.
يعمل شيزم كضابط لحفظ السلم الأهلي لكنه يرفض مساعدة سكان القرية حتى يعلم اسم عدوهم وعدوه القديم، حينها تختفي الأسباب المنطقية التي رفض المساعدة على أساسها فيتغذّى جانب الثأر فيه على حكمه المنطقي، لذا فلا بد من استغلال كل إمكانيةٍ لتحقيق هدفه، وهذا ما يتضح من خلال تجنيده لفارادي وفاسكو بالدرجة الأولى عدا عن الآخرين، ففي حالتيهما يقوم باستغلال وضعهما القانوني للاستفادة منهما، لكن الأمر يتغير بعد التعاطي الأولي مع سكان القرية، حيث يبرز الجانب الأخلاقي وتتم مساءلة دوافع شيزم ذاته من خلال صديقه القديم غودنايت، والذي يذكّره بأن الانتقام لن يعيد له أهله، وحده غودنايت يدرك فظاعة القتل بأثرٍ من الحرب الأهلية وما ارتكبه خلالها من فظائع، ولعله هو الشخصيةالوحيدة التي تحمل دافعاً أخلاقياً صرفاً بالعكس من شخصية هاري في نسخة 1960 الساعية خلف المال أو عبده قرانص في شمس الزناتي، حيث المال فقط هو الدافع، فالهرب قبل بدء المعركة ثم العودة إليها كان دافعها القتال من أجل الآخرين وعدم احتمال تأنيب الضمير.
إن ما يقدمه أكيرا من موقفٍ أخلاقي في التعامل مع العصابة من إقصاءٍ ونفيٍ تامين، ثم في تداوله لفكرة الموت والقتل وتصوير حالة الرعب يتناقص تدريجياً في أعمال أحفاده، وأنا أسميهم هنا بأحفاده نظير التباعد الأخلاقي في طبيعة القصة عند كلٍ منهم؛ ذلك لأن أكيرا يقوم على أساس تعريف أخلاقي للإنسان، ومرد هذا الأمر طبيعة الحياة التي عاشها خاصةً ما قبل الحرب الثانية، فهو يسرد في مقتطفات مذكراته (عرق الضفدع – منشورات المتوسط) كل الحوادث التي ساهمت في تأسيس أفكاره وأعماله بدءاً من تاريخ المكان الذي وُلد فيه أبوه ثم الحوادث التي أسهمت بتشكيل إحساسه بالخوف وإدراكه للانحطاط الإنساني وفقدانه لأفراد عائلته، حيث تتحول هذه المذكرات إلى مساءلة أخلاقية للعالم الذي عاشه، لذا فمنذ المشهد الذي يجتمع فيه المقاتلين قبل توجههم للقرية والبؤس يكسو وجوههم لمنظر الفلاحين بعد سرقة الأرز، يؤكد أكيرا دوافعهم جميعاً، كما أنه من خلال هذا الدافع يقوم بتجريد العصابة حتى من الهوية، ويضيف إلى هذا كله تصوير الموت بشكله المرعب والحقيقي، فالموت الذي يحدث بعيداً عن الكاميرا ويصعب معه تصوير وجه الممثل الذي يموت، فالقتيل هناك في ساحة المعركة يسقط ويموت دون أن نستطيع رؤية ملامحه، إنه بعيدٌ عنّا في مكانٍ شبه مظلمٍ لا نستطيع تبيّنه، إنه يصوّر الموت باعتباره شكلاً من أشكال الوحدة، وما يخلفه في نفس المشاهد هو الحزن على كل مقاتلٍ يسقط، لنعيش حسرة المشهد الأخير حيث تُغرس أربعة سيوف على تلٍ من القبور.