«القيد»: غلافٌ تراثيٌّ لفيلمٍ تجاريٍّ محض

October 5, 2025

لا أعرف البادية جيدًا. بل لعلي لا أعرفها على الإطلاق، فأنا ابن المدينة والشوارع الواسعة، والبحر أحيانا. غير أنني أعرف الخلوة..

يُمكنني أن أقول من بعيدٍ -وأنا بعيد فعلًا- أنَّ الخلوةَ التي تُقلل من الاحتمالات العديدة هي ما يكثِّف التجربةَ الحسية والحدسية للإنسان. في الخلاء مع الريف والبحر والصحراء، وفي الغربة أيضًا، يجد الإنسان كل شيءٍ واضحًا. يتشكّل المعنى حيث تقِلُّ الاحتمالات، ويصبح للحب والشجاعة والحركة والضوء والظلام أشكالٌ منحوتة. في المدينة، ورغم كثرة الناس، قد لا تجد الوقت لتعرفهم حقًا. ورغم امتلاء الرفوف بكل أصناف الغذاء، فإنك لا تعرف كيف ينمو ولا صعوبة الحصول عليه. في المدينة يمكنك الحصول على كل شيء وتحصيلُ معرفةٍ كافيةٍ عن كل شيء تقريبًا، لكنك مع هذا تظل بعيدًا عن إدراك جوهر الأشياء وكشف حقيقتها.

في الخلوة وحدها، في تلك اللحظات الممتدة الطويلة الخالية من الاحتمالات العديدة، يعرفُ المرء الشجاعةَ والقوة والانتقام والعفو والثأر والدم. ومن هنا تحديدًا، يمكننا فهمُ فيلمٍ مثل «غير مغفور» (1992 - Unforgiven) لكلينت إيستوود على سبيل المثال، أو فيلمٍ مثل «ويند ريفر» (2017 - Wind River) لتيلور شيردان، من خلال لحظاتهما الطويلة الممتدة في الصحاري القاحلة، أو في التنقّل عبر الثلج الكثيف القاتل، أو تحت الشمس اللاهبة. إنها لحظاتٌ لا يُمكن للمرء فيها إلا أن يُراجع شريطَ حياته كاملًا، فيتيقّن فيها مما يستحق اليقين، ويُغفل ما لا يستحق إلا الغفلة. وفي الانتقام الطويل، الذي لا خيار آخر سواه، نجد (Unforgiven) و(Wind River) يُعبِّران عن ذلك ويعكسان هذه التجربة بجلاءٍ تام.

في أحد المشاهد، تقول جين: «كنت محظوظة»، فيرد كوري لامبرت، بطل «ويند ريفر»، على جين القادمة من المدينة: «الحظُ لا يعيش هنا. الحظ يعيش هناك في المدينة؛ حيث يمكن أن تصدمك حافلة أو لا. حيث يُحتمل أن يُسرق بنكك أو لا. يعيش الحظ في الهاتف اللعين حين عبور الشارع.. هذا هو الحظ، وهذا هو الفوز أو الخسارة. أما هنا، فإما أن تنجو وتبقى حيًا أو أن تستسلم. لا يُحدَّد مصيرك إلا بقوّتك وروحك المحضة. لا تأكل الذئابُ الغزلان سيئة الحظ، بل تأكل الغزلان الضعيفة. حاربتِ من أجل حياتك، جين، ولذا يحق لك أن تغادري بها..». 

في «ويند ريفر»، يمكننا أن نعيش الخلوةَ تمامًا كما تعيشها شخصيات الفيلم، نشعرُ بالصقيع، والليالي المظلمة الممتدة، وبالحياة التي لا تنتهي، كما نشعر بالعذاب والتأمل والفراغ المستمر، وبالألمِ المصاحب للاعتداء، وبالحرقةِ المرافقة للحصول على الثأر بعد انقضاء سنوات من الانتظار.

أما في «القيد - 2025»، فيُمكن بسهولةٍ القبضُ على قصة "الانتقام" التي تحاول بشدةٍ بالغةٍ أن تنطلقَ من الجذور ومن التراث، كما يحبُّ أن يقول كاتب الفيلم. نسمعُ اللغة واللهجة بكل ما تحويه من أصالة، ونقتفي الأثرَ مع الشخصيات كما يُقتفى الأثر عند تتبع خطواتٍ على الرمل، ونعيش، إلى جانب ذلك، اللحظات المتتالية للملاحقة الـ"كاوبويزية"1 أو الـ"وسترنية" تمامًا كما أراد صنّاع الفيلم. غير أننا لا نعيش الامتداد الممل والقاسي للبادية والصحراء، بل نركضُ كما لو كنا في المدينة، نركض كما لو كانت الوفرةُ من حولنا منسابةً، وكانت الاحتمالات متعددةً، وكما لو كان الارتحال لا يأخذُ سوى ساعات بسيطة على سروج النوق. 

تجربةُ «القيد» هي محاولةٌ مهمة لإنتاج فيلمٍ انطلاقًا من جذورنا الثقافية، في الوقت الذي يقدم فيه أجواءً من الإثارة بمعايير عالمية كما يحب صنّاعه أن يُقدِّموه. غير أنه يلامس السطح فقط، السطح "اللغوي" للحوارات وتكوين الشخصيات "التراثية"، دون أن يلامس الجذور على مستوى الصورة والإيقاع. فالإيقاع هنا لا ينسجمُ مع الارتحال الطويل، بل هو أشبه بفيلمِ أكشن مثيرٍ، تتسارع الأحداث فيه حتى لا يلبثَ المشاهد أن يلتقط أنفاسه. ولا تنسجم الصورة البديعة لصحاري الشمال، والتي هي أشبه بتسويقٍ لجمال نيوم إلى حد ما، مع قسوة الصحاري الضارية. ما من خلوةٍ، ولا بطءٍ ولا عذاب في حياةٍ بطيئة وشقيّة، تمامًا كما لا يلوح فيها أي يقينٍ صارخ.

في «القيد» نرى أملًا يُذبح في مهده، فالمراهق الذي يتبع "رمّاح"، مؤمنٌ بأن الفتى الذي يخرجُ للعالم طموحًا، باحثًا عن المجد والشرف والفروسية، وكل تلك القيم التي تتجاوز العادي والراهن، يُقتل سدًى. لا يقدّم «القيد» سوى الرواية المحافظة المتقاعسة عن كل تغيير، إذ من يخرج عن السائد إما مارقٌ مجرم مريض، كـ"رمّاح"، أو أنه شابٌ متهوّرٌ أهوج يُقتل سدى. فلا نرى صاحبَ فكرةٍ مارقةٍ ومختلفة في فهم المجتمع، ولا صاحبَ طموحٍ يريد أن يثب إليه، بقدر ما نرى كائنًا غريزيًا تحرّكه ضغائِنه الشخصية وعُقَده التافهة. كما أننا، وحين نجد ضالتنا في الفتى الذي يحاول مغادرةَ ديرته وصنعته ليجد المجد، نجد جدَّه يقول: «أن تموت معي ميتةً عادية مثلها مثل أن تموت طالبًا المجد والفروسية مع رماح، فالموت واحد»، وهو ما يتحقق في النهاية، كنبوءةٍ تافهة تدّعي الحكمة. 

يذكّرنا ذلك بجمعٍ متراكمٍ من الأفلام الأميركية المشيطِنة لكل ما هو خارجٌ عن النسق والمعتاد، مثل «النمر الأسود» (2018 - Black Panther) و«فارس الظلام» (2008 - The Dark Knight)، وهي أفلام ترسِّخ المعايير العالمية نفسها التي يريد أن ينطلق منها «القيد».

ما من معضلةٍ ذات قيمة في شخصية رمّاح، كما لا وجود لمعضلةٍ ذات قيمة في من يطلب ثأره من رمّاح فيُقتل مع من يثأر منه. كل ما يُقدّمه «القيد» هو دعوتنا جميعًا، بكل ما نملك من دوافع ظاهرة وباطنة، إلى عبور هذه الدنيا والمرور فيها بصفتنا متفرجين: نشاهد السينما، ممسكين بأيدي من نحب، لنقرأ التراث والجذور تارة، ولنستمتعَ تارةً أخرى، تمامًا كما لو نشاهد "ويسترن سعودي بنكهة تراثية" لكن لأجل متعة مصطنعة محضة…

الهوامش:

1. كاوبويزية صفة دالة على الكاوبوي (Cowboy) أو "رعاة البقر" كما جسدتهم أفلام الغرب الأمريكي (western movies).

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى