القاتل الذي أحببناه: تأملاتٌ في مسلسل «ديكستر»

«الشر ليس شيئًا تفعله، بل هو ما أنت عليه». بهذه العبارة المُقلِقة يفتحُ مسلسل «ديكستر» (Dexter - 2006-2013) من إنتاج شبكة «شوتايم» (Showtime)، نافذةً على عوالم النفس البشريَّة حين تتحوَّل الأخلاق إلى متاهة، والشر إلى ميثاقٍ وجودي. يقدِّمُ المسلسل المُقتَبس من رواية الكاتب الأمريكي جيف ليندسي «ديكستر الغامض الحالم» (Darkly Dreaming Dexter)، والمُخرَج بتوقيع عدَّة مبدعين أبرزهم توني غولدوين، ستيف شيل ومايكل كويستا، شخصيةَ ديكستر مورغان (مايكل ك. هول) كتحفةٍ سرديَّةٍ معقَّدة: محلِّلُ دماء شرطة ميامي يخفي تحت قناع الانضباط المهني حياةً موازيةً كقاتلٍ متسلسلٍ يطارد القتلة أنفسهم. هنا لا يكتفي العمل بطرح السؤال الأخلاقي التقليدي عن الخير والشر، بل يحفر أعمق ليكشفَ كيف تُبنى الأخلاق على أنقاض الصدمات، وكيف تُخيط الذاتُ شرعنتَها من خيوط العقلنة المرضيَّة. 

تبدأ حكاية ديكستر مع «كود هاري»، الميثاق الذي وضعه له والده بالتبنِّي هاري مورغان (جيمس ريمار)، ضابط شرطةٍ سابق، لتحويل نزوة القتل لدى ديكستر إلى "رسالةٍ نبيلة": يقتل الأشرار الذين نجوا من العدالة. هذا التحويل التبريري ليس مجرَّد حيلةٍ سرديَّة، بل هو استعارةٌ عميقةٌ لآليَّة الدفاع النفسية المعروفة باسم «العقلنة» (Rationalization)، حيث تُغطَّى الدوافع اللاشعورية بغطاءٍ من المنطق الظاهري. لا يقتل ديكستر لأنَّه شرير، بل لأنَّه "ينظف العالم" على حدِّ قوله. بيد أنَّ السلسلة تدفع المُشاهد لتساؤلٍ مُقلق: هل يكفي غسل الدم بدمٍ آخرَ لصنع النقاء؟

بخبرةٍ لافتةٍ يعزف المسلسل على نغمة الازدواجيَّة: ديكستر المُحارب الاجتماعي/ديكستر المسخ، الموظَّف المثالي/المنحرف الماهر، الأخ الحنون/القاتل البارد. هذه الازدواجيَّة ليست تناقضًا، إنَّما هي استجابةٌ تكيُّفيَّةٌ لصدمة طفولته (مشاهدة مقتل أمه بوحشيَّة)، ممَّا يذكِّرنا بنظريَّة التفكُّك (Dissociation) في علم النفس، حيث ينفصلُ الجزء "المُظلم" من الشخصيَّة ليصبح كيانًا منفصلًا يُدار بمنطقِ الواجب.  

في كلِّ موسمٍ يقدم المسلسل مجموعةً من القتلة المتسلسلين الذين يعمل ديكستر على مطاردتهم، لكنَّ المفارقة أنَّ هؤلاء ليسوا مجرَّد "أعداء"، بل هم مرايا مشوَّهة تعكس أجزاءً من شخصيَّته. هنا يتجاوز المسلسل فكرة المواجهة بين الخير والشر إلى سؤالٍ وجودي: هل يستطيع الإنسان الفصل بين ما هو "مرضي" وما هو "أخلاقي"؟ ديكستر الذي يرفضُ قتل الأبرياء (بحسب كود هاري) يجد نفسه في مواسم لاحقةٍ يخونُ ميثاقه تدريجيًّا، خاصةً مع ظهور شخصيَّات مثل هانا مكاي (إيفون ستراهوفسكي)، التي تحوِّل جرائمها إلى تعبيرٍ عن "الحب"، أو آرثر ميتشل-القاتل ترينيتي (جون ليثغو)، الذي يظهر أنَّ حتى أكثر القتلة انضباطًا يمكن أن ينتهي بهم الأمر إلى تدمير أنفسهم.  

العلاقات الإنسانية: محاولات فاشلة لارتداء قناع "الطبيعي"  

على عكس التصوير النمطي للقاتل المتسلسل كشخصٍ وحيد، يحاول ديكستر يائسًا خلق روابط إنسانيَّة: زواجه من ريتا (جولي بينز)، أبوَّته  لهاريسون (جاك آلكوت)، وعلاقته المعقدة مع أخته ديبرا (جينيفر كاربنتر)، التي تكتشف حقيقته لاحقًا. هذه العلاقات ليست مجرَّد إضافةٍ دراميَّة، بل هي اختبارات  لقدرته على المحاكاة الاجتماعيَّة. في حوار مُفصلي تقول ديبرا له: «أنت لا تعرف ما هو الحب، لأنك لا تشعر به»، فيرد: «أتعلمين ما هو أسوأ؟ أن أتظاهر بأني أشعر به». هنا يلامس المسلسل إشكاليَّة الاعتلال السيكوباتي (Psychopathy)، حيث يتحوَّل الحبُّ إلى أداءٍ ميكانيكي، والأبوة إلى مشروع لاستنساخِ الذات (كما في علاقته لاحقًا مع هاريسون).  

السقوط الأخلاقي: حين يصبح الكود قيدًا  

في الموسم الرابع (الذي يُعتبر الأقوى نقديًّا)، يقدَّم ترينيتي كقاتلٍ متسلسلٍ "عائلي" ينجح في إخفاء جرائمه لعقودٍ تحت غطاء الحياة البرجوازيَّة المثاليَّة. وهكذا تتحوَّل مواجهة ديكستر معه إلى صراعٍ وجودي: هل سيصبح مثله لو استمر؟ الجواب يأتي مُرعبًا في المشهد الأخير، حيث يكتشف ديكستر أنَّ زوجته ريتا قُتلت بواسطة ترينيتي، بينما يجلس طفله الرضيع في بركةٍ من الدماء. هذا المشهد ليس مجرَّد صدمةٍ دراميَّة، بل هو استعارةٌ لسقوط الأوثان الأخلاقيَّة: الكود الذي كان يُبرِّر العنف يصبح سببًا في تدمير كلِّ ما يحاول حمايته.

في قلب شخصيَّة ديكستر يكمن صراعٌ وجوديٌّ بين الهويَّة المُتخيَّلة والذات الحقيقيَّة. يقول ديكستر في أحد الحوارات: «أنا لستُ إنسانًا... لكنني أتقن التمثيل جيدًا». هذه العبارة ليست مجرَّد اعتراف بالاختلاف، بل هي تعبيرٌ عن أزمةِ الهويَّة التي يعيشها، حيث يصبحُ التمثيل اليومي وسيلةً للاختباء من الذات. هنا يتقاطعُ المسلسل مع مفهوم الذات الزائفة (False Self) عند دونالد وينيكوت، التي تُبنى كدرعٍ واقٍ ضدَّ صدمات الطفولة، فكود هاري ليس مجرَّد قانونٍ للقتل، إنَّما هو إطارٌ مرجعيٌّ يعيد تعريفَ الشر كفضيلة، مُحوِّلًا الصدمة إلى رسالة.

لكن المسلسل يُظهر أن هذا الإطار هشٌّ للغاية. مع تقدُّم المواسم، تبدأ ثغرات الكود بالظهور، خاصَّةً عندما تتصادم قواعد هاري مع الرغبات الإنسانيَّة البدائيَّة لديكستر. في الموسم الخامس على سبيل المثال، حين يقتل ضابطًا بريئًا عن طريق الخطأ، نرى أول انهيارٍ حقيقيٍّ للنظام الأخلاقي المُزيَّف الذي بناه. المشهد ليس مجرَّد خطأ تكتيكي، بل هو كشفٌ لعدمِ كفاءة العقلنة في إدارة الدوافع.

يطرح المسلسل سؤالًا مقلقًا: هل يمكن تحويل الاضطراب النفسي إلى أداةٍ للعدالة؟ في علم النفس الإجرامي، تُعتبر الساديَّة والبارانويا من سمات القتلة المتسلسلين، لكنَّ ديكستر يُقدَّم كحالةٍ فريدةٍ حيث تُستخدم هذه السمات لخدمة النظام. هذا التناقض يذكِّرنا بفكرة الشر النفعي (Utilitarian Evil) في الفلسفة الأخلاقيَّة، حيث تُبرَّر الأفعال الوحشيَّة إذا حقَّقت منفعةً أكبر.

لكنَّ المسلسل يُفكِّك هذه الفكرة بذكاء، فمع كلِّ جريمةٍ يرتكبها ديكستر، تتراكم التداعيات غير المقصودة: موت ريتا، انهيار ديبرا نفسيًّا، وتحوُّل هاريسون إلى مرآةٍ مقلوبةٍ لأبيه. هنا يصبح العنف مصدرًا للفوضى لا أداة تحكُّم، ممَّا يعيدنا إلى مقولة هيغل: «العنف يلتهم نفسه بنفسه».

النسخة الجديدة «ديكستر: دمٌ جديد»: هل يمكن للقاتل أن يتطهَّر؟  

في الموسم التاسع المعنون بـ «ديكستر: دمٌ جديد» (Dexter: New Blood - 2021)، يعود ديكستر بعد سنواتٍ من الاختباء تحت هويَّةٍ جديدةٍ محاولًا إعادة اختراع ذاته (باسم جيم ليندسي) في بلدةٍ نائية. لكنَّ شبح الماضي يعود مع ظهور ابنه هاريسون، الذي يرث نزوات أبيه. هذه النسخة لا تُعيد إنتاج الصراع القديم، بل تتعمَّق في سؤال الوراثة النفسية: هل الشرُّ جينيٌّ أم مُكتسب؟

المفارقة أن ديكستر، الذي قتل المئات باسم "الكود"، يُقدَّم هنا كأبٍ يحاول إنقاذ ابنه من مصيره. لكنَّ محاولته هذه تنتهي بموته على يد هاريسون نفسه، في مشهدٍ يُختزل فيه دورة العنف الأبدية: القاتل الذي أنشأه الكود يُدمِّر بواسطة نتاجه المباشر (الابن). هنا يتحوَّل الكود من ميثاقٍ أخلاقيٍّ إلى لعنةٍ وجوديَّة، تُذكرنا بأسطورة أوديب الذي لا يستطيع الهروب من قدره.

في النهاية، يتركنا المسلسل مع فكرة أنَّ الشرَّ الحقيقيَّ ليس في الدماء المراقة، بل في القدرة على خداع الذات بأنَّ العنف يمكن أن يكون بطولة. وكما كتب دوستويفسكي في رواية «الإخوة كارامازوف»: «كل إنسان مسؤول عن كل شيء أمام الجميع». هذه المسؤوليَّة الكونيَّة التي يتحدث عنها دوستويفسكي تتصادم بشكلٍ مريرٍ مع عالم ديكستر، حيث يتحوَّل العنف إلى لغةٍ وحيدةٍ للحوار مع الذات والعالم، فخداع الذات الذي يمارسه ديكستر (أي إيمانه بأنَّ سكاكينه تُصلح ما أفسده القانون) ليس مجرَّد كذبة يُرويها على نفسه، بل هو انكسارٌ ميتافيزيقي لفكرة الأخلاق ذاتها.

ليست البطولة هنا إلَّا قناعًا يُخفي تحته سؤالًا وجوديًّا مُظلمًا: ماذا لو كان الشرُّ ضرورةً لاستمرار النظام؟ هذا السؤال يُذكِّرنا بجدليَّة هيغل حول العبد والسيد، حيث يُصبح العنف أداةً لخلق المعنى في عالمٍ فارغ. يبني ديكستر، مثل السيد الهيجلي، هويته على جثث الآخرين، معتقدًا أنه يُمارس نوعًا من "التطهير المقدس"، لكن الدماء التي يسفكها لا تُنظِّف العالم، بل تُلوِّث روحه هو.

المفارقة الكبرى تكمن في أن ديكستر، رغم كلِّ جرائمه، يبدو أكثر إنسانيةً من المجتمع الذي يحتضنه، فهو يدركُ على الأقل أنَّه وحش، في حين يتنكَّر بوهم النقاء. هنا يلتقي المسلسل مع فكرة جان بول سارتر في «الغثيان»: «الشر ليس في ما نفعله، بل في ما نرفض أن نعترف به»، فالمجتمع لا يُدين ديكستر لأنَّه قاتل، بل لأنَّه كشف النقاب عن القسوة الممنهجة التي تمارسها الأنظمة خلف ستار العدالة.

في المشهد الختامي لـ «ديكستر: دمٌ جديد»، حين يموت ديكستر بين ذراعي ابنه، لا نرى مجرَّد نهايةٍ لقاتل، بل انهيارًا لأسطورة، الأسطورة التي أخبرنا بها دوستويفسكي أيضًا: «إذا لم يكن الله موجودًا، فكل شيء مُباح». يكتشفُ ديكستر في نهاية المطاف، وهو الذي عاش وكأن الإله غائب، أنَّ العبثيَّة ليست ملاذًا، بل سجنًا بلا قضبان. إنَّ قتلَه على يد هاريسون هو اعترافٌ ضمنيٌّ بأنَّ العنف لا يلد إلا عنفًا، وأن الشرَّ، حتى لو لبس ثوب البطولة، يظلُّ جرحًا ينزفُ في جسدِ الإنسانيَّة.  

هكذا، يصبح «ديكستر» أكثر من مسلسل: إنه مرثيةٌ لعصرنا، العصر الذي نعيش فيه تناقضًا مُريعًا: نلعن الظلام بينما نُشعل أعواد ثقابنا فوق جثث الضحايا. وكما كتبت حنا أرندت عن "تفاهة الشر"، ربَّما لا يكمنُ أخطر أشكاله في الوحوش الاستثنائيَّة، بل في السهولة التي نُبرر بها وحشيتنا اليوميَّة باسم الحب، العدالة أو حتى الفن، فالشر الحقيقي في النهاية أكبر من أن يتمثَّل في السكين التي تذبح: إنَّه الصمت الذي يسبق الذبح... الصمت الذي نملأه بأكاذيبِنا.

ما بعد الأخلاق: هل يمكن تبرير ما يفعله ديكستر؟

لا يقدِّمُ المسلسل إجابات سهلة، وحتى في نهايته المثيرة للجدل (في الموسم الثامن ونسخة عام 2021)، يبقى ديكستر لغزًا أخلاقيًّا. في حوارٍ مع الدكتورة فيوجن (المعالجة النفسية التي تكتشف سره)، تسأله: «هل تعتقد أنَّك تستحقُّ أن تعيش؟»، فيجيب: «لا... لكنَّني أريد أن أعيش» هذه الإجابة تختزلُ تناقضَ المسلسل كلِّه: الإصرار على الحياة كحقٍّ وجوديٍّ حتى لو كان الثمن هو الخيانة الأبديَّة للإنسان.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى