علاقتي مع الأفلام الإسبانيَّة
لست قريبةً جدًّا من مجال الأفلام، ولست ممَّن يتابعها باستمرار، لكن عندما عُرض عليَّ تقديم لقاءٍ في النادي الإسباني بأكاديميَّة إجلال برئاسة الدكتور صالح الزهراني، تذكَّرت أنَّني في فترةٍ سابقةٍ حرصتُ على مشاهدة العديد من الأفلام الإسبانيَّة، وأتذكر أنَّها أعجبتني، فقد كانت نافذةً مختلفة. لم أعلم في البداية ما سبب الإعجاب بها، ربَّما ظننت أنَّه تغييرٌ عن الأفلام الأمريكيَّة والثيمات المتكرِّرة فيها، والتي قد يعيها المشاهد وقد لا يعيها. إلَّا أنَّني، وبعد مشاهدة العشرات منها، عرفتُ سرَّ إعجابي بالأفلام الإسبانيَّة: إنَّها في غالبها مختلفةٌ عن الأفلام الأمريكيَّة في بعدِها عن تكريس الأشخاص وتمجيدهم، وفي عدم تركيزها على العلاقات العاطفيَّة وعلاقات المنفعة، وكذلك في بعدها عن الفردانيَّة التي تتسم بها صناعة الأفلام في بلاد العم سام، وتبتعد في الغالبِ عن الثيمات المعروفة في هذه الأفلام: "الحلم الأمريكي"، "البطل الأمريكي"، ومركزيَّة أمريكا في العالم. كانت مشاهدة الأفلام الإسبانية كسرًا لهذه المركزية. شاهدت العديد من الأفلام الإسبانيَّة، الكوميدية والعاطفية والاجتماعيَّة وغيرها، وكانت في غالبها تنبضُ بعلاقاتٍ أكثر إنسانيَّة وتقدِّرُ فكرة العلاقات الاجتماعيَّة عمومًا، والعلاقات الأسريَّة خصوصًا، وترى الفرد بوصفه جزءًا من مجتمعٍ وبنية، بالإضافة إلى قربها أكثر من الواقع، وقربها من الثقافة العربيَّة في بعض الجوانب.
لمحة عن فيلم «متاهة بان»
فيلم «متاهة بان» (Pan's Labyrinth - 2006) هو فيلم دراما وخيال وحرب من إخراج غييرمو ديل تورو ورغم أنَّه ليس التصنيف المفضل لدي في الأفلام، لكنَّني وافقت على تقديم لقاءٍ عن الفيلم من باب تغيير ما اعتدت عليه، فالخروج من النمطيَّة ودوائر الاعتياد شيءٌ أحرص عليه وأحاوله بين فترةٍ وأخرى.
حصل الفيلم على عدَّة جوائزَ وترشَّح لعددٍ كبيرٍ منها، وأُدرج في قائمة الأفلام العظيمة وعددٍ من القوائم الأخرى، رغم أنَّ ذلك كله ليس ممَّا يغريني عادةً في مشاهدة الأفلام أو الحكم على مستواها. إلا أنَّ ما شجعني أكثر هو قراءتي في أحدِ المواقع أنَّ الفيلم حصل على 22 دقيقة من التصفيق في مهرجان كان السينمائي، ممَّا زاد من فضولي لمشاهدة الفيلم، وما زاد من فضولي أيضًا هو معرفتي أنَّه عُرِض على منتج الفيلم (غييرمو ديل تورو وهو كاتبه ومخرجه بالمناسبة) ضعف الميزانيَّة المرصودة للفيلم على أن ينتَج الفيلم باللغة الإنكليزية في هوليوود، لكنَّه رفض هذا العرض رغبةً منه في تقديم الفيلم برؤيته هو، وألا تُفرَض عليه رؤيةٌ مختلفة. من هنا علمتُ أنَّ الفيلم يحملُ رؤيةً مختلفةً وليس مجرَّد صناعة سينما بهدف المال أو الشهرة.
نسمع عن الكثير من الأفلام التي اقتُبِسَت من روايات، لكن لا نعرف الكثير من الأفلام التي تحوَّلت إلى روايات، وقد كان هذا الفيلم واحدًا منها، وهي معلومةٌ طريفةٌ أخرى زادت فضولي للفيلم، ربَّما لم يكفِ الفيلم لعرضِ ما يريد صانع الفيلم أن يعرضه، وربَّما لم تكف الشاشة لذلك، فأراد أن يُطلق الخيال أكثر ويجعلها في كتاب.
قصَّة الفيلم والعالمَين المتوازيين
يدور الفيلم في عالمين: عالمٌ خيالي تعيشه البطلة أوفيليا (إيفانا باكيرو)، وعالمٌ حقيقيٌّ تجري أحداثه في الواقع. عام 1944، أي بعد مضيِّ خمس سنواتٍ على انتهاء الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة، تُرسَل أوفيليا، ابنة الـ 12 عامًا والمولعةُ بالقصص الخياليَّة، رفقة والدتها الحامل كارمن (أريادنا جيل) للعيش مع زوج أمها الجديد الكابتن فيدال (سيرجي لوبيز)، وهو ضابطٌ قاسٍ في الجيش الإسباني. تدخلُ أوفيليا في تحدِّياتٍ وتتَّخذُ قراراتٍ مصيريَّةٍ تقاوم من خلالها الواقع القاسي، وترفضُ الانصياع للعالم الذي يفرضه فيدال زوج والدتها. كانت مهمَّة الضابط هي القضاء على آخر أعضاء المقاومة الجمهوريَّة الذين ما زالوا مختبئين في جبال المنطقة.
في إحدى الليالي، تلتقي أوفيليا بجنيَّةٍ تأخذها إلى مخلوق غريب هو "الفون" (دوغ جونز) في قلب المتاهة. يُخبرها أنَّها أميرة، لكن عليها أن تُثبت ملكيَّتها بالنجاة من ثلاث مهامٍ مُرعبة. إذا فشلت، فلن تُثبت أنها الأميرة الحقيقيَّة ولن ترى والدها الحقيقي الملك مرةً أخرى. تتوازى الأحداث بين العالمين الحقيقي والخيالي في الفيلم: يتنقلُ الفيلم بين عالم الحرب الأهليَّة في إسبانيا وبين عالم متاهة بان الغريب، ومع تقدُّم أحداث القصة تتشابك الأحداث. رغم أن الفيلم باللغة الإسبانيَّة (لمن يظنُّ أنَّ اللغة قد تكون عائقًا أمام الفهم) إلا أنَّه فيلمٌ بصريٌّ ولا يعتمدً كثيرًا على الحوار.
المتاهة: رمز الحياة
اختار المخرج «متاهة بان» عنوانًا للفيلم، ما يوهم أنَّ المتاهة ستشكِّلُ عنصرًا محوريًّا في الفيلم، إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك، فوجود المتاهة ليس محوريَّا، لكن جاء العنوان كذلك للاستعانة برمزيَّة المتاهة وللدلالةِ على أنَّ الحياة متاهة، دروبٌ كثيرةٌ ونهاياتٌ مجهولة، وصراعاتٌ بين الصواب والخطأ. كما أنَّ في المتاهة طرقًا متعدِّدة لا نعرف أيَّها الصواب وأيَّها الخطأ، ولا نعرف نهاياتِ هذه الطرق، فقد يكون نهاية الصواب خطأ، وقد يكون نهاية الخطأ صواب، كما قيل "الطريق إلى الجحيم معبَّد بالنوايا الحسنة".
أبرز ما يلاحَظ في الفيلم هو العالمان المختلفان للقصَّة وسيرهما على نحوٍ متوازٍ؛ فهناك العالم الحقيقي الذي تدور فيه أحداث الحرب الأهلية، والعالم الخيالي الذي تخوض فيه أوفيليا مغامراتها. الجميل في الموضوع أنَّ كلَّ عالمٍ يشكل قصَّةً متكاملة لوحده، ويمكن أن يفرَد لهُ فيلم كامل بمعزل عن الآخر. لكنَّهما مع ذلك مندمجان بسلاسةٍ في فيلمٍ واحد، لا يظهران فيه منفصلَين عن بعضهما البعض.
يعكس العالم الخيالي الرغبة في الهروب من العالم الواقعي، ومن الواقع الصعب الذي تعيشه البطلة: موت والدها، وحزن أمها وتعبها، وقسوة زوج الأم. لم يكن هذا الهروب جبنًا، بل هو درعٌ يصون إنسانيَّتها، وقدرة على مقاومة الظروف من خلال الخيال والإبداع، واكتشاف طرقٍ خاصَّةٍ للتعامل معه، ويجعل العالم الخيالي ملاذًا نفسيًّا. هذان العالمان هما ما يجب أن يكونا لدى كلِّ شخص: عالمٌ حقيقيٌّ يعيش فيه، وعالمٌ خياليٌّ يستمدُّ منه قوته ويكون مهربًا له من قسوة الواقع. يقول ديل تورو: «هذه هي نسختي من هذا العالم»، كأنَّ الفيلم هو تمثيلٌ مصغَّرٌ للحياة، فحين يغلقُ الواقع أبوابه، يفتح الخيال نوافذَ لا حصر لها.
ثنائيَّات الفيلم ودلالاتها الرمزيَّة
تكثر الثنائيَّات في الفيلم: ثنائيَّة الواقع والخيال، ثنائيَّة الكبار والصغار، ثنائيَّة النضال والاستبداد، ثنائيَّة المقاومة والاستسلام… وأبرزُ هذه الثنائيَّات كانت ثنائيَّة الطاعة والعصيان، وتمثَّلت أبرز ما تمثلت في طاعة الكابتن وعصيان أوفيليا. في حوارٍ بين الكابتن والطبيب الخاص له، يأمره الأوَّلُ بشيءٍ ما ويأمره بطاعته، غير أنَّ الطبيب يقول له: «لكن يا كابتن، أن تطيع - هكذا فقط - من أجل الطاعة دون أي تساؤل، فهذا شيءٌ يفعله أشخاصٌ مثلك فقط». الكابتن شخصٌ مطيعٌ بشكلٍ أعمى، يطيع دون تفكير، وهو ما يجعله قاسيًا ومستبدًّا، وعلى النقيض من ذلك فإنَّ أبطال هذا الفيلم (المتمردون المختبئون في الغابات) هم العصاة. كذلك أوفيليا بطلة الفيلم كانت تعصي الأوامر التي تأتيها من المخلوق الغريب "الفون"، كما يظهر عصيانها في مقابل طاعة الكابتن زوج أمها، فقد كان عدم اتِّباع القواعد هو أفضل إجابة، وبذلك يتَّضح أنَّها كانت على النقيضِ من شخصيَّة الكابتن التي تتَّسم بالطاعة العمياء.
في هذه المتاهة يصبحُ العصيان شجاعة، وتتحوَّل الطاعة العمياء إلى قيدٍ قاتل. وتختارُ أوفيليا أن تعصي، أن تحارب، وأن تصنع مصيرها بنفسها حتى لو كان الثمن دمها، وهنا تحدث مفارقةٌ قد تصيب المشاهد بالصدمة، فما نعرفه، ربما في اللاوعي حتى، أنَّ الطاعة أمرٌ جيِّدٌ نحاولُ أن نلتزمه ونحث عليه، لكن الفيلم يصوِّر لنا الطاعة على أنَّها ليست حسنةً على الدوام، فلا شكَّ أنَّ الطاعة المبنيَّة على الانقياد سيئة، أمَّا إذا كانت الطاعة نابعة عن اختيارٍ وقرارٍ فهي جيِّدة. العصيان أحيانًا هو اختيار يمكن أن نعود عنه للطاعة، أن تعصي وتعود للطاعة باختيارك أفضل من أن تكون مطيعًا دومًا دون أن تسأل لماذا.
يدورُ الفيلم حول الاختياراتِ الجيِّدة والسيِّئة، والطاعة والعصيان، وبأنَّ المرء يملك الخيار دومًا، الاختيار متاحٌ دائمًا، مهما ساءت الأوضاع، حتى لو كان ذلك الاختيار يعني أن يضحِّي المرء بحياته ويختار الموت (وهو الخيار الذي اتَّخذته أوفيليا في نهاية الفيلم). إذن العصيان شجاعةٌ أحيانًا، وعصيان أوفيليا لأوامر الفون شجاعة، عصيان المتمردين هو شجاعة، وطاعة الكابتن هي ضعفٌ وجبن. وهنا أتذكَّرُ مقولة فرويد: «كل من يتمرد على السلطة الأبوية ويهزمها فهو بطل»، لا لأنَّ التمرُّد جيِّدٌ بالمطلق، ولا لأنَّ العصيان جيِّدٌ بالمطلق، بل لأنَّ التمرُّد شجاعة، وحتى وإن لحقته الطاعة، فهي طاعة اختيار، وليست طاعةً عمياء.
يقول ديل تورو: «أتذكر دائمًا ذلك الاقتباس الجميل لكيركيجارد الذي يقول إنَّ حكم الطاغية ينتهي بموته، لكنَّ حكم الشهيد يبدأ بموته. أعتقد أن هذا هو جوهر الفيلم: إنَّه يتعلَّق بالعيش إلى الأبد من خلال اختيار كيفيَّة موتك».
لماذا «متاهة بان»؟
«متاهة بان» ليس مجرَّد فيلمٍ عن الحرب أو قصَّةٍ خياليَّة، بل هو رحلةٌ في متاهات الحياة الحقيقيَّة التي لا نعرف نهاياتها ولا طرقها الصحيحة والخاطئة دائمًا. يعلِّمنا الفيلم أنَّ الواقع يمكن أن يكون قاسيًا، لكن داخلَ كلِّ شخصٍ هناك عالمٌ من الخيال يمنحه القوة لمواجهة هذا الواقع. إنَّ العصيان والإبداع والاختيار هو ما يمنح الحياة معناها، حتى وإن كان الثمن غاليًا.