قرأتُ منذُ أيَّامٍ مقالةً تنتقدُ «فورمولا وان» (F1 - 2025) آخر أفلام المخرج جوزيف كوسينسكي الذي يُعرضُ حاليًا في دور العرض؛ وقد وصف كاتبُ المقالِ العملَ بأنَّه "خسر سباق القصَّة" ممَّا دفعني، ببعضٍ من الغيرة الكتابيَّة، إلى الحديث دفاعًا عن النوعيَّة، لا عن الفيلم نفسه.
لطالما راق لي هذا التناقض الذي نحياه، نحنُ من نظنُّ أننا نطلب "القصَّة" حين نشتكي من غيابها، بينما الحقيقة أنَّنا نطلب الدهشة، أو الانقلاب الدرامي المفاجئ على وجه الدقَّة، وكأنَّ الحكاية لا تُعَدُّ حكاية ما لم تحمل ما يُفاجئ المُشاهِد، أو تلتفّ حولَ عنقه في لحظة منعطفٍ دراميٍّ تعقبها تنهيدةً جماعيَّةً داخل القاعة.
ولكن ماذا عن سينما أندريه تاركوفسكي التي لا تسعى إلى ذروةٍ بل إلى تأمُّل، وتسير فيها الكاميرا كما تمشي الذاكرة في الحقول؟ ماذا عن سينما بيلا تار حيث يُستَبدَلُ السرد بالزمن، ويُمدُّ المشهد كأنَّه صلاة؟ ماذا عن سينما مايكل أنجلو أنطونيوني الذي بنى أفلامًا بلا بدايةٍ واضحةٍ ولا نهايةٍ مؤكدة، بل بوسطٍ معلَّق كضجرِ الحياة نفسها؟ بل حتى في السينما السرياليَّة عند لويس بونويل أو ديفيد لينش، تتشظى الحكاية لتصبح شذراتٍ من حلم، لا حبكة تقليدية تُحاك وتُحل.
كيف نحتفي بكلِّ هذا ثمَّ نعيب على فيلمٍ مدهشٍ بصريًا ومتينِ الإنتاج، بداعي أنَّ قصته بسيطة أو معادة؟ أليس هذا تناقضًا جماليًّا؟ أم أنَّ الخيال، حين يُنتَج في هيئة فيلمٍ تقنيٍّ عن سباقات، يُطالَب بما لا يُطالَب به حين يُنتَج في هيئة فنٍّ تأمُّليٍّ بطيء؟
الحقيقة أنَّ العلاقة بين القصَّة والدهشة ليست حتميَّة. هناك دهشةٌ تنبع من الصورة وحدها، من الإيقاع، من توازي الصوت مع السرعة، من خلخلة التوقُّع لا من انقلابه. ليست الحكاية مجرَّد عقدةٍ تتصاعد ثمَّ تُحل، بل شعورٌ يتكاثف. وكما قال الفيلسوف بول ريكور، فإنَّ القصَّة ليست سردًا زمنيًا وحسب، إنَّما هي تكوينٌ للمعنى عبر الزمن (meaning-in-time)، بمعنى أنَّ أيَّ تجربةٍ تُعاشُ شعوريًّا يمكن أن تكون "قصَّة"، وإن لم تلتزم بالبنية الأرسطيَّة.
لربما كان أصل الالتباس أن كثيرًا من المتفرِّجين والنقَّاد لا يميِّزون بين القصَّة بوصفها بنيةً سرديَّة، والدهشة بوصفها حالةً شعوريَّة. من الممكن تمامًا خلوُّ القصَّة من التحوُّل الكبير، لكنها تُدهشك بدقَّةِ الحرفة أو جماليَّات التكوين، أو حتى بمزج التناقضات. تمامًا كما في بعض اللوحات أو المقطوعات الموسيقيَّة، حيث لا حاجة إلى تصاعدٍ دراميٍّ كي تمسَّ روحك، بل إلى حضورٍ حسيٍّ مكثَّف.
وبالحديث عن هذا فإنَّ فيلم «فورمولا وان» ليس خاليًا من القصَّة، بل يقاوم الدهشة اللحظيَّة لصالحِ توتُّرٍ خفي، ومزاجٍ مضغوطٍ تحت معدن الآلة وسرعة الزمن. إنَّها حكاية رجلٍ يهربُ من ماضيه إلى عزلته، ثمَّ يُستدعى من تلك العزلة لا ليثبت بطولته، بل ليستكمل مواجهته. هذا ليس غيابًا للقصَّة، بل رفضٌ للبطولة السهلة.
رأى البعض أنَّ الفيلم ينهار أمام ضعف قصتَّه رغم تفوُّقه البصريِّ والتقني، ويقارن ذلك بنماذجَ واقعيَّة كـ «اندفاع» (Rush - 2013) و«فورد ضد فيراري» (Ford v Ferrari - 2019). لكن في الواقع، هذه المقارنة تخطئ في موضعَين.
أولًا، ليست كل أفلام الرياضة مطالبةً بالاستناد إلى قصَّةٍ حقيقيَّةٍ كي تكون جيِّدةً أو ذات قيمة. الخيالُ أداةٌ دراميَّةٌ أصيلةٌ في السينما، تسمحُ بإعادةِ صياغة المفاهيم الرياضيَّة والإنسانيَّة بطريقةٍ تخدم الإحساس لا الحدث التاريخي، ففيلم «روكي» (Rocky - 1976) مثلًا لم يُبنَ على قصَّةٍ حقيقيَّة، لكنَّه أصبح أيقونةً خالدةً لأنَّ رمزيَّته تتجاوز الوقائع.
ثانيًا، ليست بنية الفيلم بسطحيَّةٍ كما وصفها بعض النقاد، فاختيار سائقٍ ستينيٍّ للعودة إلى الحلبة، رغم كليشيهيته، ليس لإثباتِ أنَّ العمر مجرَّد رقم، بل لكشفِ علاقة الجسد بالذاكرة والندم والفرصة الثانية. كما أنَّ المشهد الحلمي ليس زرعًا مبتذلًا، بل كان أقربَ لجزءٍ من خطابٍ داخليٍّ يربطُ بين الفقد والانبعاث، وهو موضوعٌ متكرِّرٌ في أدب ما بعد الحداثة، من إرنست همنغواي إلى بول أوستر.
وبالحديث عن الواقعيَّة، فعلى بُعد أسبوعٍ واحدٍ فقط من عرض الفيلم، حدث ما دفعني لعدم الاقتناع بنقدِ واقعيَّته فيما يخصُّ إنجاز سوني هايز (براد بيت) في النهاية، فعلى أرض سيلفرستون وبعد 229 سباق للسائق نيكو هلكنبيرغ دون الوصول إلى منصةٍ في رحلةٍ مليئةٍ بسوء الحظ والسيارات السيِّئة، يأتي ولأوَّل مرَّةٍ في مسيرته بعيدًا من المركز التاسع عشر للمركز الثالث في مشهدٍ تاريخيٍّ ومصادفةٍ رائعةٍ بعد عرض العمل.
أمَّا عن استعراض براد بيت، فربَّما لا يبلغ دأب توم كروز لكنَّه لا يحتاج إلى ذلك، فشخصيَّة سوني هايز بحدِّ ذاتها مرسومةٌ على نحوٍ رمزي: سائقٌ هائم، منعزلٌ وأقرب إلى بطل ساموراي منه إلى منافسٍ كلاسيكي. هنا لا يأتي الأداء بغرض استدرار التعاطف، إنَّما لإيصال الشعور بالضياع والتحفُّز دون الحاجة لواقعةٍ تاريخيَّةٍ تسنده.
صحيحٌ أنَّ الفيلم يبدو أضعف خارج قاعة IMAX، ولكن ألا يدل ذلك على نجاحه كمُنجَزٍ بصري؟ السينما ليست عبارةً عن قصَّةٍ فحسب، بل أيضًا تجربة، وأحيانًا تكون الحكاية مجرَّد حاملٍ لصوت هدير، وضوءٍ مشع، واهتزاز جسدٍ في كرسي.
لذا في رأيي الشخصي، بدل أن نقول "القصة لا تُعوّض"، ربَّما يجب أن نقول: «ليست كلُّ قصَّةٍ بحاجةٍ إلى أن تكون جديدةً كي تخلقَ دهشةً جديدة».
ربَّما ما نحتاجه أحيانًا عندما نشاهد تلك النوعيَّة أن نبتعد قليلًا عن المقارنة والتوقُّع، وأن نميلَ قليلًا نحو قراءةِ قناعةِ الفيلم ذاته... ذلك أنَّ السباقات الفيزيائيَّة ليست مجرَّد سيَّاراتٍ تتجاوز بعضها، بل أرواحٌ معلَّقةٌ في سرعةٍ وطموح. إنَّ إعادة سوني إلى الحلبة ليست إثباتًا للمجد، بل للوجود ذاته، لغلبةِ الذاكرة على الجسد، ولمقاومة السقوط البنفسجي للهدوء، ونظام الثنائيَّات بينه وبين جوشوا (دامسون إدريس) لا يُفضي إلى تسويةٍ تامَّة بل إلى تأسيسِ تموضع: القديم لا يُذَل، والشاب لا يُعظَّم.
كم أحبُّ تلك المرات التي تجعلني أخرج من صالة العرض متذكِّرًا أنَّ السينما تجربةٌ لا مجرَّد نص!
المشهد الصوتي المكثف والموسيقى التصويرية، خاصة في نسخ IMAX وDolby Atmos، هي تلك الخيارات الموصى بها لمشاهدة الفيلم، بوصفها ضرورة لـ"الانغماس الكامل" كما رأى بعض النقَّاد.
في نهاية المطاف، لعلَّ ما أحاول قوله بشديدِ الإختصار هو ضرورة تقبُّل وتأمُّل فكرة أنَّ السينما ليست سباقًا بين الحبكة والفراغ، بل رحلةٌ متعدِّدة المسارات، قد تصل إلى القمَّة عبر الطريق الطويل، أو تلامس المعنى في اللحظة التي لا يحدث فيها شيءٌ على الإطلاق.