«الناظر»: حين تتحوّل الكوميديا إلى وثيقة اجتماعية

June 25, 2025

في كثيرٍ من الأحيان يتعذَّرُ أن تجد على شاشة التلفاز فيلمًا يُناسبك من بين أفلامٍ قديمةٍ يُعاد عرضها، فتجد فيها تلك الاستكانة النفسيَّة التي تجعلك تقفُ أمام التلفاز مشدوهًا ومستغرقًا في طقس الفرجَة بكامل كيانك. هذه الحالة تحدث معي دومًا عندما أشاهد الفيلم العربي المصري «الناظر» (2000). لم يحدث أبدًا أن تعلَّق قلبي بفيلمٍ كما تعلَّق بهذا العملِ الاستثنائي، الذي كلَّما أعدتُ مشاهدته، كلَّما اكتشفتُ فيه العديدَ من الخبايا التي لم تظهر لي أبدًا في المشاهدة السابقة. إنَّ سلَّة الاكتشافات والمفاجآت في هذا الفيلم كبيرةٌ وممتعة، حيث إنَّ التحولات الدراميَّة التي غفلتُ عنها، والتفاصيل الذكيَّة في السرد، ليست مجرَّد أشياءَ عابرة، بل هي قناعاتٌ راسخةٌ تنبضُ في هذا الفيلم البديع.

«الناظر» ليس مجرَّد فيلمٍ من الذاكرة، بل هو ممارسةٌ مزاجيَّةٌ أكافئ بها نفسي عندما تحتاج إلى المكافأة، ألجأ إليه كلَّما اجتاحتني تناقضات الواقع، وكلما شعرتُ بأنَّ الحياة بأسرها عبثٌ ساخر. لذا كان هذا الفيلم دومًا وأبدًا تلك اليد التي تربِّت على كتفي، والملجأ الذي ألوذ به من مرارة الدنيا وصعابها. إنَّه كتفُ السينما الذي أتكئ عليه حين تحاول الدنيا أن تميل بي، والضحكة الصافية النقية في زمنٍ غاشمٍ ملبَّد بالخذلان والأسى. وكما أنَّه ليس مجرَّد فيلمٍ أو عملٍ كوميديٍّ يستدعي الضحك فقط، بل هو حالةٌ من الافتتان الكوميدي النبيل، محاضرةٌ تربويَّةٌ بطريقةٍ هزليَّةٍ ساخرة تجمعُ بين الذكاء والكتابة والتجسيد. هذه التركيبة الفريدة لا تتحقَّق إلا عندما تجتمعُ عناصر فنيَّة نادرة: مخرجٌ يملكُ بصيرةَ الفن ورهافة الفكرِ كشريف عرفة، وممثِّلٌ ممتعٌ وخفيفُ الطلّة، عالي الكاريزما وضحكه نابع من شريان القلب كالراحل علاء ولي الدين، ممثِّلٌ يتمتع بقدرٍ من البهاء الروحي يجعله يُعايش الأدوار بصدقٍ وانغماسٍ كبيرَين دون أيِّ تصنُّع، وكأنَّ الشاشة تضيء بوجوده وتخبو من بعده.

«الناظر» هو إدراكٌ سينمائيٌّ نادرٌ لأهميَّة الكوميديا في الحياة، ولحظةٌ واعيةٌ مضيئةٌ في تاريخ السينما العربيَّة والمصريَّة، يضع الكوميديا في مقامها الأرفع والأجدر، حيث يجرِّدُها من الابتذال والسطحيَّة ويعيدها إلى خصوصيَّتها، إلى بريقها الإنساني وجوهرها الأنقى، فترتقي الكوميديا إلى تلك المساحة التي يكونُ فيها الضحك هو السبيلُ الأوحد لفهم الضرر والألم، لفكِّ شيفرات الطفولة، للتصالح مع الهشاشة الآدميَّة ومع شروخ الحياة ومفارقاتها. ليس «الناظر» فيلمًا خُلق للنسيان، بل تجربةٌ معاشةٌ ومنسوجةٌ بطريقةٍ تنبضُ بالحياة؛ تُحكى وتُعاد مشاهدتها مرارًا وتكرارًا، لأنَّ كلَّ مشاهدةٍ تحملُ قراءةً مغايرةً وفهمًا آخر للعمل، وكلُّ قراءةٍ تفتح سياجًا مختلفًا من العمق، كأنَّ الفيلم يشيخُ في الذاكرة ولا يهرم، يرافقنا ونحن ننضجُ ونكبر، يخترق وعينا، يتسلَّل إلى مكنوناتنا، ويجلس مطمئنًا كما يجلس صديق العمر بجانبك في لحظات الفرح والترح.

لم تكن تحفة «الناظر» مجرَّد بدايةٍ للألفيَّة الثالثة، بل كانت إعلانًا غير مباشر بأنَّ الضحك أيضًا يمكن أن يكون ثورة، وأنَّ السينما، حتى حين تُضحِكك، يمكنُها أن تمسَّك من الداخل، أن تعيد ترتيبك، وأن تقولَ ما لا يقال، بخفَّةٍ وعمقٍ وجمال.

«الناظر»: حين تخلِّد الكوميديا نفسها كفنٍّ راقٍ ووجدانٍ لا يُنسى

بكلِّ ما تحمله الكوميديا من خفَّة، وبكلِّ ما توحي به من ضحكٍ سريع وتسليةٍ عابرة، تظلُّ السينما الكوميديَّة، حين تُصنع بذكاءٍ وروحٍ فنيَّةٍ حقيقيَّة، قادرةً على تخليدِ نفسها في الوجدان، وكذلك تسجيل حضورِها كفنٍّ خالدٍ لا يقل أهمية عن أعظم التراجيديات. هذا ما أشار إليه الكاتب دينغز Dengs في مقاله «فن الكوميديا: ما الذي يجعل الفيلم مضحكًا حقًا؟» (The Art of Comedy: What Makes a Movie Truly Funny?)، حيث قدَّم مقاربةً دقيقة للعناصر التي تجعل من الفيلم الكوميدي عملًا تُعاد مشاهَدَته جيلًا بعد جيل: من بنية الشخصيات، إلى التوقيت، إلى المفاجأة، إلى الكيمياء بين الممثِّلين.

من هنا يمكنُ فهمُ السرِّ وراء خلود فيلم «الناظر» الذي كتبه أحمد عبد الله وصاغه بحسٍّ ساخرٍ ودراميٍّ في آن، لتتكاملَ رؤيته مع المخرج شريف عرفة في عملٍ يُعتبر من أصفى وأذكى ما أنجبته الكوميديا المصريَّة والعربيَّة. في «الناظر» لا تُترك التفاصيل للصدفة، ولا تُبنى المشاهدُ لمجرَّد الإضحاك السطحي، بل هناك عنايةٌ عميقةٌ بصناعة المواقف، وبناء الشخصيَّات ورسم الخطِّ السردي بحنكةٍ توازن بين العبثِ والوعي، بين الطرافة والرسالة، وهو ما يجعلُ الفيلم يُضحككَ من القلب، ثمَّ يوقظ فيك شيئًا من التأمُّل الصامت.

من بين المفاتيح الأساسيَّة لخلود هذا العمل، يبرز الأداء الطاغي لعلاء ولي الدين في شخصيَّة "صلاح الدين"، هذه الشخصيَّة التي جمعت بين السذاجة المحبَّبة والحكمة غير المتوقَّعة، بين الطفولة العالقة في ملامحه وروحه، وبين نضجٍ يطلُّ فجأةً حين يتطلَّب الموقف ذلك. لم يكن صلاح مجرَّد بطلٍ ساخر، بل كان تجسيدًا لعلاقةٍ مركَّبةٍ مع الأبوة، مع السلطة، مع الذات ومع الفقد، مغلَّفةً بكوميديا شديدة الإنسانيَّة.

أما شخصيَّة "عاطف"، التي أداها أحمد حلمي، فلم تكن مجرَّد حضورٍ لصديقٍ ثانوي، بل كانت الامتدادَ العاطفي للفيلم، ذلك الرفيق الصادق الذي لا يتخلَّى، والذي تُبنى حوله الكثير من لحظاتِ التعاطف والضحك معًا. لقد مثل عاطف تلك الصداقة النادرة التي تحتمل الجنون والفشل والارتباك، وتبقى واقفة، نزيهة، ووفيّة.

أمَّا ظهور محمَّد سعد بشخصيَّة "اللمبي" فكان بمثابةِ الولادة الأولى لظاهرةٍ ستغزو السينما المصريَّة لسنواتٍ لاحقة. في هذا الظهور الأول، لم يكن اللمبي مجرَّد مشهدٍ طريف، بل كان اختزالًا لعبقريَّةٍ في رسمِ شخصيَّةٍ كاريكاتوريَّةٍ خارجةٍ عن السياق، لكنَّها تسكن الذاكرة بسهولة، وتدفعك للضحك حتى في أكثر اللحظات عبثيَّة.

هكذا يخلَّدُ فيلمٌ كوميدي، لا بالضحك المجرد، بل بتركيبةٍ دقيقةٍ تجمعُ بين بناء الشخصيَّة، وبراعة السرد، وسحر اللحظة، والذكاء البصري، والكيمياء بين ممثِّلين يملكون القدرة على أن يكونوا حقيقيِّين وسط الجنون. إنَّ الكوميديا حين تُحتَرم كفنٍّ تصبحُ مرآةً مشرقةً للحياة، تدخلُ في نسيج الذاكرة الجمعيَّة، وتتحوَّل، كما فعل «الناظر»، إلى ملاذٍ وجدانيٍّ نعود إليه كلما أثقلتنا الحياة.

ضحكٌ مُرٌّ في زمن الجد: قراءة سوسيوكوميدية في إفيهات فيلم الناظر

في فيلم «الناظر»، تتجلَّى عبقريَّة أحمد عبد الله وشريف عرفة في قدرتهم على استخدام الإفيهات الكوميديَّة كأداةٍ سوسيوثقافيَّة تعكسُ الواقع المصريَّ بكلِّ مآسيه ومفارقاته، ولكن دون أن تفقدَ خفَّتها أو وظيفتها الترفيهيَّة. ليست الإفيهات مجرَّد نكاتٍ عابرة، بل هي مرآةٌ ساخرةٌ تُظهر عمق التحدِّيات المجتمعيَّة، من تدهور التعليم إلى هشاشة العلاقات الأسريَّة، ومن عبثيَّة البيروقراطيَّة إلى هشاشة الوعي الجمعي.

في محور التعليم، يظهر الإفيه كصرخةٍ ساخرةٍ في وجه الانهيار المؤسسي، مثلما قال عاطف: «أنا من رأي الوزارة تدخل نظام الاحتراف في المدارس عشان نقدر نشتري طلبة من بره». هذه الجملة القصيرة تختصر شعورًا وطنيًا عامًا بالإحباط من المنظومة التعليميَّة، وتفضح فشلها من خلال استعارة نموذج «الاحتراف الرياضي» كحلٍّ ساخرٍ لمشكلةٍ عميقة الجذور. هنا لا يصبح التعليم مكانًا لصناعة الإنسان، بل سوقًا عشوائيَّةً تفتقد لأدنى معايير الجديَّة.

تظهرُ الحياة الاجتماعيَّة أيضًا في الإفيهات وكأنَّها لوحاتٌ كاريكاتوريَّة، تجسِّدُ الصراع الطبقي وتردي العلاقات الإنسانية. حين تقول أم صلاح بعد أن دعا عليها زوجها بالفناء: «مش هياخدني، موت بغيظك، أنا حلوة وطعمة وبيضة وقشطة». هذه الجملة الكوميديَّة تعكس واقع المرأة المصرية التي تُختزل أحيانًا في مظهرها الخارجي كمصدرٍ لقوَّتها وتحدِّيها، في مجتمعٍ يربطُ القيمة الشخصيَّة بالشكل لا الجوهر. لكنها أيضًا تحملُ سخريةً من فشل العلاقات الزوجيَّة التقليديَّة القائمة على القهر لا التفاهم.

في مشهدٍ آخر، حين تدخل ميس انشراح في شجارٍ مع سيد وصلاح، وتقول: «أنا عايزة اتجوز واحد على مزاجي، واحد مطقطق كده». هنا تتجلَّى أزمة الزواج التقليدي، والرغبة في كسر قوالب النمطية والبحث عن شريكٍ متحرِّرٍ من قيود المجتمع المحافظ، لكنَّها تُقال في إطارٍ تهكميٍّ يمزج بين الكبت والرغبة في التمرُّد.

أمَّا الإفيهات التي تتعلق بالموت فهي تجسيدٌ لثقافةٍ مصريَّةٍ مدهشة: كيف يمكن التعايش مع الحزن من خلال الضحك. مثل قول جواهر: «طب خليه يحترم نفسه وهو بيموت» أو «ممكن نقف خمسين دقيقة حداد على بابا»، فتلك العبارات ليست فقط خفَّة دم، بل هي تمثيلٌ ساخرٌ لقداسة المناسبات الرسميَّة، وتحويل المآسي إلى طقوسٍ عبثيَّةٍ تحاكي الواقع الإداري والاجتماعي في المؤسَّسات المصريَّة.

يتجاوز الإفيه «هو كلُّه ضرب، مافيش شتيمة ولا إيه؟»، والذي قاله صلاح لعاطف في واحدٍ من أشهر وأطرف مشاهد فيلم الناظر، كونه مجرَّد دعابة، ليصبح تعليقًا ساخرًا عميقًا على ثقافة العنف و"الاحتجاج الجسدي" التي تسود أحيانًا في المجتمع، وخاصة في البيئات التي تعاني من الفقر أو ضعفِ التواصل.

على المستوى السوسيوثقافي، يعكس هذا الإفيه تحوُّل الشجار، أو الخلاف، إلى عنفٍ مباشرٍ دونَ مقدِّماتٍ أو حواراتٍ أو حتى سباب. ففي المجتمعات التي تفتقرُ إلى أدوات التعبير البنَّاء أو تضعفُ فيها اللغة كوسيلة تفريغ، يصبح الجسد هو الأداة الأولى للردِّ والانفعال. يأتي الإفيه ليفضح هذه الظاهرة بأسلوبٍ تهكُّمي، حين يتساءل صلاح بدهشة: ألم يعد هناك حتى وقت أو مساحة لـ "الشتيمة" كمرحلةٍ أولى؟ ينطوي هذا على نغمةٍ نقديَّةٍ خفيَّةٍ للسلوك الجمعي الذي بات يختزلُ الانفعالات في العنفِ فقط.

أمَّا فنيًا، فيعتمد الإفيه على الانقلاب الدرامي: المتوقَّع في العراك هو أن تبدأ الأمور بتصعيدٍ لفظي، ثمَّ تتطوَّر إلى عراكٍ جسدي. ولكن في هذا المشهد يحدث العكس، إذ يبدأ العراك بشكلٍ عنيفٍ مباشرة، ممَّا يخلق مفارقةً مضحكةً تُوظَّف لصالح الكوميديا. الجملة في حد ذاتها تُقال بأسلوب بريءٍ شبه طفوليٍّ من صلاح، ممَّا يزيد من حدَّة المفارقة الكوميديَّة، ويخلقُ تلك الضحكة الناتجة من التناقض بين جدَّية العراك وسذاجة الملاحظة.

يجسِّدُ هذا الإفيه، كغيره من لحظات «الناظر»، قدرةَ الكوميديا المصريَّة على تسليط الضوء على مشاكل حقيقيَّة بطريقةٍ خفيفة، لا تُشعر المتلقي بالثقل، لكنَّها تترك أثرًا لا يُنسى.

يقول صلاح لأحد التلاميذ: «اسمك سعد زغلول... مافيش فايدة»، ويعدُ هذا التعليق مثالًا ساخرًا وذكيًا على التلاعب بالأيقونات التاريخيَّة في المخيِّلة الشعبيَّة المصريَّة، وعلى استخدام الكوميديا لتفريغ الإحباط العام من حال المؤسسات، لا سيَّما في قطاع التعليم.

يستحضر الإفيه شخصيَّة سعد زغلول، الزعيم الوطني المصري المعروف وصاحب العبارة الشهيرة «مافيش فايدة»، التي قالها في لحظةِ يأسٍ سياسيٍّ أمام تعنُّت الاستعمار البريطاني. يستخدمُ علاء ولي الدين هذه العبارة في موقفٍ تعليميٍّ ساخرٍ عندما يجد تلميذًا لا يُرجى منه نفع، ليقول له «اسمك سعد زغلول... مافيش فايدة»، وكأنَّ التاريخ يعيدُ نفسه في صورةٍ كاريكاتوريَّة.

هذا الاستدعاء يُشير إلى تشابه بين الإحباطات القديمة والجديدة: فكما كان سعد زغلول يائسًا من قدرة السياسيِّين على التغيير، فإن الناظر يائسٌ من إمكانيَّة إصلاح التلميذ، ومن ورائه النظام التعليمي كلَّه. هنا تصبح المدرسة انعكاسًا لمؤسَّسات الدولة، ويصبح التلميذ رمزًا لجيل لا يجدُ من يفتح أمامه الأفق، والناظر نفسه يستحيل إلى مُجرَّد حلقةٍ في سلسلةٍ طويلةٍ من العجز المُزمن. يُبنى الإفيه على سخرية المفارقة التاريخيَّة، أي إسقاط رمزٍ وطنيٍّ كبيرٍ على مشهدٍ ساخرٍ من الحياة اليوميَّة. يضحكُ الجمهور لأنَّ الفارق بين الزعيم والتلميذ واضحٌ جدًا، لكنَّ الضحك يُخفي داخله مرارة، لأنَّ هذه المفارقة تشير إلى تدهور قيمة الرموز، وإلى إحساسٍ جمعي بأنَّنا "ما زلنا عالقين" في دائرة اليأس نفسها.

في نهاية المطاف، يختصرُ هذا الإفيه الصغير قصَّة مجتمعٍ كامل: مجتمع يعرف تاريخه، ويقدِّس رموزه، لكنَّه في الوقت نفسه لا يملك إلا السخرية من تكرار الإخفاقات، حتى لو كانت على لسان زعيمٍ بحجم سعد زغلول.

لا تعمل هذه الإفيهات وغيرها في الفيلم كأدواتٍ للضحك فحسب، بل هي لغةُ احتجاجٍ وتوثيقٍ اجتماعيٍّ تُخاطبُ الوعي الجمعي بلغةٍ يفهمها الجميع. إنَّها كوميديا بمذاق الدراما، نقدٌ اجتماعيٌّ مغلف بالمرح، لكنَّه موجعٌ في عمقه. بهذا المعنى، لا يعدُّ فيلم «الناظر» مجرَّد عملٍ ترفيهي، بل وثيقةٌ كوميديَّةٌ تعبِّر عن جيلٍ بأكمله.

في مقاله «الضحك مهم: كيف تخبرنا الكوميديا ​​عن هويتنا» (Laughing Matters: How Comedy Tells Us Who We Are)، يُقدَّم ماثيو ماكماهان الضحك بوصفه أداةً سوسيولوجيَّةً تكشف عن القيم الكامنة في المجتمع أكثر من كونه مجرَّدَ ردَّةِ فعلٍ ترفيهيَّة. يرى ماكماهان أنَّ الكوميديا ليست فقط وسيلةً للترفيه، بل وسيلةً لفهم كيفيَّة تفكير المجتمع، وكيفيَّة انعكاس لاوعيه الجمعي من خلال لحظة الضحك. هذه الرؤية تنطبقُ بعمقٍ على فيلم «الناظر»، حيث تتحوَّل "الإفيهات" الشهيرة إلى مستودعٍ للمعنى الاجتماعيِّ والسياسيِّ والثقافي، فعندما نضحك على جملة مثل «اعمل نفسك ميت» أو «أنا من رأي الوزارة تدخل نظام الاحتراف في المدارس»، فإننا لا نضحك من فراغ، بل نمارسُ لحظة اعترافٍ جماعيٍّ بما نعرفه جميعًا، لكنَّنا لا نملك الشجاعة للاعتراف به إلا من خلال الكوميديا. يؤكد ماكماهان أنَّ الضحك يكشف عن "الطبيعي الاستثنائي" في كلِّ مجتمع، وتلك بالضبط هي وظيفةُ فيلم «الناظر» في الذاكرة المصريَّة: أن يضحكنا ليكشف لنا من نكون.

هشام سليم في الناظر: ضمير العقل في زمن العبث

في زحام العبث الذي يغمر أروقة مدرسة الناظر، كان هشام سليم، رحمه الله، يقف بشموخٍ في دور "الأستاذ حسين" كضوءٍ خافتٍ في نفقٍ طويلٍ من الفوضى، كنغمةٍ صافيةٍ وسط ضجيج الهزل. لم يكن مجرَّد مدرِّسٍ للعلوم، بل كان تمثيلًا حيًّا لضمير العقل الجمعي، ذاك الذي يرفض أن يُغمَر في مستنقع الجهل، ويصرُّ على أن يظل للعلم حرمته وللحقيقة احترامها. كان صوته هادئًا لكنَّه واثق، وحضوره متزنًا في مقابل انفلات الآخرين، وكأنَّه يقول، دون إفصاح، إنَّ النجاة الوحيدة من هذا الخراب تمرُّ عبر باب المعرفة.

حاول الأستاذ حسين أن يُنقذ الناظر، لا كفردٍ فقط بل كرمز، من براثن التسيُّب واللامعنى، وأن يجذبَه بخيوطٍ منطقيَّةٍ شفافة نحو نور الانضباط والعقل. لهذا كان شخصيَّةً مثاليَّةً نبيلةً تشبه الأحلام المؤجَّلة لمجتمعٍ يتوق إلى النهوض. لم يكتفِ هشام سليم بأداء الدور فقط، بل جسَّده، بلطفه وهدوئه وعمق نظرته، حتى بدا وكأنَّ روحه ذاتها كانت تنطقُ باسم العلم.

في نهاية المطاف، لا يمكننا النظرُ إلى الكوميديا كترفٍ عابر أو نكتةٍ تُطلق ثم تُنسى، بل كأداةٍ ثقافيَّةٍ شديدة الفاعليَّة في صياغة الوعي الجمعي ومساءلة الواقع، من خلال سلاح الضحك، ذاك الذي يبدو خفيفًا لكنَّه يحمل أثقل الحقائق. في فيلم «الناظر»، تتجلَّى هذه القوة في أوضح صورها، حيثُ تتحوَّل الإفيهات إلى مرايا يوميَّة تكشف هشاشة المؤسسات، وعبث السلطة وسخرية القدر، وأيضًا قدرة الإنسان المصري على التكيُّف والضحك وسط الخراب.

يكمن جمال هذا الفيلم في قدرته على تحويل الهزل إلى جد، وتفاهة الموقف إلى بيانٍ اجتماعي، وهذا ما تجسَّد ببراعةٍ في أداء الراحل حسن حسني في دور سيد؛ الذي جسَّد شخصيَّة "الهايف" بأكثر الأساليب جديَّة، فكان حضوره في الفيلم جمالًا خالصًا، يلمعُ في قلب الكوميديا كضوءٍ صغيرٍ لكنَّه لا يُنسى. رحلَ حسن حسني، لكنَّ ضحكته – التي كانت تقولُ كلَّ شيءٍ دون أن تقول شيئًا – ستظلُّ جزءًا من ذاكرتنا الجمعيَّة، كما الكوميديا نفسها: خفيفةٌ في ظاهرها، عميقةٌ في جوهرها، وخالدةٌ في روح الثقافة.

الهوامش:

Billig, M. (2005). Laughter and ridicule: Towards a social critique of humour. Sage

Dengs, A. (2020). The art of comedy: What makes a movie truly funny? Film Quarterly, 73(4), 56–63

King, G. (2002). Film comedy. Wallflower Press

Kuipers, G. (2006). Good humor, bad taste: A sociology of the joke. Mouton de Gruyter

Martin, A. (2001). What is film theory? An introduction to contemporary debates. McGraw-Hill Education

McMahan, M. (2019). Laughing matters: How comedy tells us who we are. Humor Studies, 14(3), 211–228

Mintz, L. E. (1985). Standup comedy as social and cultural mediation. American Quarterly, 37(1), 71–80

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى