منذ خروج وحوش شركة يونفيرسال العملاقة في الثلاثينيات «دراكولا» (1931)، «فرانكنشتاين» (1931)، «المومياء» (1932)، «عروس فرانكنشتاين» (1935) وغيرها من الأفلام التي استعارت على نحو حر من التعبيرية الألمانية والسريالية الفرنسية والرعب القوطي البريطاني ومسرح الـ«غران غِنيول» بباريس، ووحوش جيل جديد من الكُتاب الذين خلقوا وحوشًا جديدة أو أحيوا وحوشًا قديمة في أمريكا وأوروبا، يقود مسار أفلام الرعب على مدار عقود إلى استكشاف قلق ومخاوف كل جيل، إذ تُجسّد أفلام الرعب المخاوف الداخلية والصدمات التاريخية لكل بلد. تنكشف لحظات الرعب منذ الحرب الأهلية في إسبانيا وإلقاء القنبلة في هيروشيما مرورًا بالحربين العالميتين مع فترة الكساد الكبير وحتى سنوات الاحتقان المجتمعي في ستينيات أمريكا. وبصورة خاصة، يمكن ربط تزايد إنتاج أفلام الرعب في أمريكا مع كل أزمة وكارثة، ولكن هذا الجهد يحتاج دراسة مطولة لوقت آخر. ومهما يكن، أصبحت الوحوش التي خرجت من روايات القرن التاسع عشر إلى شاشة السينما مدخلًا جيدًا لدراسة مخاوف كل عصر، ولكن ما هي مخاوف عصرنا؟
يستكشف جيم جارموش في فيلم «الموتى لا يموتون» (2019) مشكلات الكوكب، العنصرية، التغيرات المناخية، الرأسمالية والاستهلاك، وجميع موضوعات الفناء و«نهاية الزمان». يواجه اثنان من شرطة سنترفل -كليف روبرتسون (بيل موراي) وهو الرئيس، وروني بيترسون (آدم درايفر)- الناسك المحلي هيرميت بوب (توم ويتس) بسبب تهمة تافهة. بعد ذلك، يدرك الضباط، وهم يقودون السيارة بعيدًا عن الغابة، أن الوقت 8:20 مساءً لكن الشمس لا تزال في السماء، ثم ينقطع راديو الشرطة، ويليه خدمة الهاتف الخلوي الخاص بهم. تتداول الأنباء خبر انحراف الأرض عن محورها بسبب «التكسير القطبي» مما أدى إلى خروج الحياة بشكل عام عن السيطرة. ساعات الليل والنهار لا يمكن التنبؤ بها. الحيوانات تُصاب بالجنون. تنتشر الفطريات في وقت مبكر جدًا (وهي أيضًا علامة نذير شؤم في فيلم «فقط العشّاق بقوا أحياء» (2013)). وسرعان ما ينهض الموتى من قبورهم ويتحركون، كما يفعل الزومبي، ويأكلون الأحياء.
سنترفيل هي مدينة جذابة ذات مطعم واحد تتعرض للرعب من جحافل الموتى الأحياء. اسم المدينة، مثل معظم أجزاء الفيلم، اسم ذاتي. في تحية يوجهها جارموش إلى رائد أفلام الرعب جورج روميرو، عبر إحدى الشخصيات، زوي (سيلينا غوميز) التي تخبر هانك (داني جلوفر) الذي يمتلك متجرًا للأجهزة: «هل تعرف روميرو؟ خلفيتك بالأفلام مبهرة»، لكن في الحقيقة هو أيضًا يستلهم من روميرو في فيلمه الثاني عن الزومبي «فجر الموتى» (1978) عندما تختبئ الشخصيات الرئيسة في مركز تجاري، حيث يتجول الزومبي في مركز تسوق مهجور في محاكاة ساخرة وإشارة مبكرة للنزعة الاستهلاكية. أسلوب الرعب المشحون سياسيًا الذي يجسده روميرو والذي يتبناه جيم جارموش في فيلمه «الموتى لا يموتون» يستهدف عصر ترامب.
الرموز المناهضة لترامب كثيفة على أرض الواقع، ولا توجد إشارة أكثر وضوحًا مثل المزارع العنصري فرانك (ستيف بوسيمي) الذي يرتدي قبعة بيسبول حمراء تحمل شعار «حافظ على أمريكا بيضاء مرة أخرى». والأكثر دقة من القبعة هو تأطير جارموش للمحادثات في مدينة سنترفيل بين المُزارع فرانك وصديقه هانك تومسون (داني غلوفر)، وهي صداقة مختلطة الأعراق تم الحفاظ عليها ببراعة على الرغم من قبعة الرأس غير المذكورة التي تنادي بتفوق العرق الأبيض. السبب الدقيق لتفشي الزومبي، بطريقة روميرو الجيدة، لم يتم تحديدها مطلقًا، ولكن من الواضح ضمنيًا أن الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة ترامب تساهم في الصراع الثقافي والدمار البيئي.
يعامل جارموش الموتى الأحياء كبديل للآلات الاستهلاكية المدمنة على التكنولوجيا والموضة وماديات الحياة، والذين يريدون فقط إضافة المزيد من الجثث إلى حياتهم. وفيما يستجيب المسؤولان الريفيان الرئيسان كليف وروني لظهور الموتى الأحياء بسخط تام، فإن زميلتهما ميندي (كلوي سيفيني) هي التي تصاب بالجنون بسبب الرعب المحيط بها واللامبالاة العامة في المدينة.
تنذر أغنية الفيلم «الموتى لا يموتون» لمغني الروك الأمريكي ستورغين سيمبسون منذ البداية بالكارثة، حيث تحكي كلمات الأغنية الريفية القديمة «الموتى لا يموتون» وسط جيوش «الزومبي» الذين يتركون قبورهم لالتهام كل ما يقع بين أيديهم . يعلن كليف أثناء تشغيل الأغنية على قرص مضغوط في سيارة الدورية الخاصة بهم أن الأغنية مألوفة لديه. يرد الآخر بأن ذلك طبيعي لأنها أغنية الفيلم. خروج جارموش بفيلمه عن سياقه كانت له إشارة أخرى، بأن «كل ذلك سينتهي بأسوأ الأشكال» التي ظل روني يرددها، فيسأله الآخر كيف عرف، فقال إنه قرأ السيناريو كاملًا، مشيرًا إلى جيم جارموش الذي لم يتح لكليف قراءة مشاهده، فلا يعرف ما سينتهي عليه الفيلم. يصبح كليف غاضبًا لأنه يصر على أنه عمل مع جيم لفترة أطول من الآخر. وفي وقت لاحق، تتجول جثة سيمبسون التي أعيد إحياؤها وهي تسحب جيتارًا مكسورًا.
من المهم الإشارة أن ما يتسم به الفيلم من تشويش -والذي يتخبط في بعض الأحيان، ويترنح، بل وينهار مثل الزومبي- هو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى وجهة نظر جارموش. تشير شخصية روني وهي تردد مرارًا وتكرارًا: «كل ذلك سينتهي بأسوأ الأشكال» إلى غضب ويأس واضح عند جارموش من الحياة المعاصرة، حيث يقاوم أبطاله حسًا فكاهيًا قهريًا، وبرغم أن صراع شرطة سنترفيل مع اندلاع ظاهرة الزومبي هو القصة الأساسية في الفيلم، فإن اللعب المتبادل بين روني وكليف أحد أبرز أحداث الفيلم، حيث يقدم قدرًا كبيرًا من حوار جارموش المميز غير المتوازن والمفكك والمحمل بالترميزات عن نهاية الكوكب.
في النهاية، لا أحد ينجو غير أولئك الذين رفضوا المجتمع بشكل تام. محبو موسيقى الجاز من خارج المدينة ذوو الوعي الثقافي أيضًا تم ذبحهم بلا رحمة. لا أحد غير الناسك بوب، الذي يتخذ عزلته كموقف أخلاقي، بعيدًا عن نظام الملكية والاستهلاك الذي يحمل بذور تدميره، حيث يراقب الفناء من بعيد، عبر منظاره الملطّخ، للنجاة من المجتمع الذي يعتبره فاسدًا بشكل ميؤوس منه. ويُختتم الفيلم بصوت الناسك بوب في التعليق الصوتي: «يا له من عالم مختل».