أوراق سينمائية

الموسيقى في أفلام بوليوود: كيف جُسدت التحولات الاجتماعية في الهند عرض لورقة من مؤتمر النقد

يتلازم في السينما الهندية التمثيل والغناء الراقص منذ بداياتها الأولى. ففي الأربعينات، أنتجت هذه السينما 931 فيلما روائيا، اشتملت على أغاني بمتوسط 10 أغنيات للفيلم الواحد. وكانت العائلات ترتاد قاعاتها للاستمتاع بالعرض الموسيقي الرّاقص بقدر ما تستمتع بالمغامرة حتى غدا الاستعراض هوية لهذه السينما وعنصرا مميزا لها عن بقية سينماءات العالم.
ولا يخلو التصوّر السائد لهذه السينما من مصادرات نجمع عليها دون أن نضعها موضع تفكير أو تساؤل. فقد رسخ في الأذهان أنّ الموسيقى في هذه السينما كتلة واحدة منسجمة وتنويعات على الأصل نفسه يعاد إنتاجها في الأزمنة المختلفة. ورسخ أيضا أنها محض مسكّن للفقراء يستدرجهم إلى قاعاتها لينتزع من قوتهم اليومي ثمنَ التذكرة ثم يغرقهم في فقرهم بسعادة. غير أنّ ورقة الناقدة الهندية «رويتا دوتا -Rwita Dutta» التي قدّمتها في الدورة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي في الرياض بعنوان «كيف مثلت أفلام بوليوود الموسيقية الديناميكيات المتغيّرة للمجتمع الهندي» شكّلت أطروحة مختلفة تماما، نحاول أن نعرض أهم خطوطها.

1- الموسيقى في سينما بوليوود  فجر الاستقلال والتغني بالفخر الوطني

تخلصت شبه الجزيرة الهندية من الاحتلال البريطاني في 1947 ولكنّها خرجت منقسمة إلى أغلبية هندوسية تسيطر على الهند وأغلبية مسلمة وتسيطر على باكستان، ثم أعلن العمل بالدستور الهندي الذي يقر نظام الاتحاد الفدرالي سنة 1950. في هذه المرحلة حاولت موسيقى الأفلام لملمة جراح الوطن الممزّق والتغني بحدث الاستقلال وبالوحدة والتكاتف. فقد كان المطرب-والممثل الاستعراضي «راشل» يحيي الأغاني القديمة والذّائعة ويدرجها في أفلامه. فيمنح الناس ما به يعبّرون عن فخرهم الوطني ضمن أجواء مشبعة بالشغف والمرح. وبسبب نجاحه الجماهيري المنقطع النظير أضحى التميز في الرقص والغناء أهم المعايير في الحكم على نجاح الممثل.
بعد عشر سنوات من هذا الإنتاج الموسيقي- الفيلمي حدث تغير مهم على المستوى السوسيولوجي. فأصبحت قاعات العرض وجهة العائلة. وكان لهذا التحوّل وقعه على بناء الفيلم ونمط الموسيقى فيه. فقد أضحى ملزما بأخذ تطلعات هذه الأسر بعين الاعتبار. وضمن هذا المساق بزغ نجم المطرب «راكيش». فغير موضوع الأغنية الراقصة من استدعاء التراث الغنائي والاحتفاء ببطولات الماضي إلى خلق أجواء رومانسية عاطفية تتماشى أكثر مع مزاج العشاق والأزواج.

2- السبعينات والثمانينات: قضايا الواقع الهندي تقتحم موسيقى الأفلام

في أواخر الستينات وبداية السبعينات جدّت أحداث فارقة في تاريخ الهند. فقد دفعها نزاعها مع باكستان حول إقليم كشمير في حربها الثانية (1965) ثم الثالثة (1971) إلى إعلان تجربتها النووية الأولى (1974). وهذا ما أجج سباق التسلح بين الجارتين. ولم تكن القنبلة النووية بلا ثمن. فلضخامة الإنفاق العسكري أصبحت البلاد تعيش مشاكل البطالة وتحديات اللجوء غير الشرعي وأضحت التحركات الاحتجاجية تهزّ الاستقرار الاجتماعي. وسيمثل المطرب رومينيا الصّوت المعبّر عن هواجس الهنود في هذه الفترة. فقد أحدث تغييرا في تشكيل المشهد الموسيقي في الفيلم. فحدّ من الدفق الرومانسي دون أن يقطع معه نهائيا. ونزّل نبرته ضمن قضايا الواقع ليعبّر عمّا يسود البلاد من قلق ومن عنف وإجرام. فأصبحت الموسيقى تعبّر عن الصراع في المجتمع وعن تحوّلاته المختلفة على نحو أوضح.
ومما تغيّر في قصص أغاني الأفلام في هذه الفترة صورة المرأة. فتاريخيا قد كانت جرأتها سببا لإدانتها أخلاقيا ولاعتبار سيرتها سيئة. فكانت تستدعى نمطيا من خلال ملابس غير محتشمة. ولكن ضمن هذا الأفق الجديد حاولت السينما تفهّم مشاكلها. فجعلتها ضحية للمجتمع أكثر مما هي متمرّدة على قيمه أو معتدية عليه.
وفي هذه الفترة أخذت عبارات بالعربية وبالأردو، اللغة الرسمية في الباكستان، تتسلل إلى كلمات الأغاني. فترد في شكل تراتيل أو أدعية. وبدا التأثر بالعالم العربي الإسلامي جليّا، بفعل تأثير العمالة العائدة من الخليج أو بتأثير الاحتكاك المستمر بباكستان أو رغبة في استقطاب الجمهور المسلم بعد أن كانت تدرج قضاياه في خانة الهامش.

3- اقتصاد السوق والنّظام العالمي الجديد

ظلت أغاني الأفلام تصاغ على هذه الوتيرة متناغمة مع الواقعين الاجتماعي والسياسي السائدين حتى نهاية الثمانينات. ولكن في مطلع التسعينات تم اغتيال رئيس الوزراء راجيف غاندي، إثر انفجار نفّذه متطرف سريلانكي لمّا كان يقوم بحملته الانتخابية. فخلفه ناراسيما راو من 1991 إلى 1996. وكان هذا الحدث السياسي فارقا. فقد تبنى رئيس الوزراء المنتخب برنامجا اقتصاديا إصلاحيا ذا خلفيات ليبراليةـ واستجابت الهند إلى دعوة الولايات المتحدة الأمريكية لنظامها العالمي الجديد الذي يفرض اقتصاد السوق. ومن نتائجه أن تحرير التوريد وتراجع الدولة عن تسقف أسعار البضائع. فاتسعت الهوة بين طبقات المجتمع. وكان لذلك أثره في موسيقى الأفلام وكلماتها وفي تصميم رقصاتها. فتسللت إليها مفردات مُحيلة على الماركات العالمية. وتم تصوير مشاهدها ضمن خلفيات بصرية تعرض المحلات التجارية الجديدة. وجسّدت حالات الاضطراب صوتيا. فجعلت من انكسار الأشياء أو غليان القدور استعارات أيقونية صوتية تعبّر عن الانزعاج أو السأم. وتغيّرت الكوريغرافيا بدورها من جهة اختيار الراقصين وعددهم أو من جهة تصميم حركاتهم وتصميم ملابسهم أو من جهة طريقة الإخراج. فأضحت المشاهد واسعة تعرض البهاء الجسدي بجرأة. واقتحمت الروح الغربية أغاني الأفلام رغم سمة الانتقاد الغالبة عليها.
على مستوى المحتوى تذكر الباحثة ما طرأ على صورة البطل من تحوّل. فأصبح ينحدر من الطبقات الفقيرة غالبا. وترتّب على ذلك تغير معطيات الأفلام كاملة من أفضية للتصوير وسلوكات للأفراد واهتماماتهم. فلم يعد هذا البطل يختزل في الشخصيات الفاضلة فحسب. فقد وجدت الشخصيات الشريرة الطريق بدورها إلى صدارة الشاشة. وكان «شاروخان» (شاروخ مير تاج محمد خان) من أهم نجوم الشباك في هذه الفترة عبر أغان يجسد فيها دور الرّجل الشرير، وحققت أفلامه التي تجمع بين الحركة والدراما وتمزج بين الرومانسية والكوميديا نجاحا كبيرا في الهند وخارجها على حدّ سواء. واكتسب من خلالها شهرة عالمية.
ولم تسلم صورة العائلة من التحوّلات في هذه الأفلام. فقد تراجعت إلى الخلفية بسبب نزعة الشخصيات الفردية ورغبتها في تحقيق الاستقلالية وحلمها المستمر بترك البلاد والهجرة إلى الخليج أو أوروبا. ولم يتغير محتوى الأغاني إلا بإدراك السينما الهندية مرحلة العالمية مطلع القرن الواحد والعشرين. فقد فرضت على أغاني الأفلام رهانات جديدة. فأصبحت أكثر انتباها إلى صورة الهندي على شاشتها. فأعادت الاعتبار إلى دور العائلة وعادت نبرة الفخر الوطني مجسّدة في مشاهد الاحتفال باليوم الوطني وما يؤلف حوله من الأغاني والرقصات. ومثّل «شاهيد كابور» رمز هذه المرحلة.

4- خلاصات ونتائج

اتخذت الباحثة «رويتا دوتا» أغاني الأفلام مدخلا للتعريف بالسينما الهندية والتأريخ لها وعرض تحولاتها من حقبة زمنية إلى أخرى. وجعلتها عنصرا فارقا للتصنيف والتبويب أولا ومرقاة للتحليل والتأويل ثانيا. واستنادا إلى مقاربتها السوسيو - ثقافية، يمكننا أن نخلص إلى أنّ موسيقى الأفلام الهندية أبعد ما تكون عن البعد الاستهلاكي الساذج. فلم يكن الرقص والغناء زخرفا أو حلية تقتحم الفيلم بطريقة مجانية استعراضية بقدر ما مثّلا عنصرين تواصليين ومكونين أساسيين في الفيلم يجسّدان تحولات المجتمع الهندي ويعبّران عن تطلّع أفراده. ولأهميتهما عكست هذه السينما الآية. فكانت تصوّر الأغاني أولا، فتكتب الأغاني وتُضبط الموسيقى وتُصمم الرقصات، وكان تصوير بعضها يستغرق شهرا بحاله، بحيث أصبحت حكاية الفيلم هي التي تخدم الموسيقى والأغاني وتمثّل تعلّة لعرضها. وكان على هذه الموسيقى الراقصة أن تردّ الجميل إلى الأفلام. فكثيرا ما تفضي، في حال تميّزها، إلى نجاح الأفلام وإن كانت الضعيفة. فتشيعها بين الجماهير وتخلق الشغف بها على علاّتها. ولذلك كان المنتجون يعمدون إلى تسريب الأغاني قبل عرض الأفلام لضمان الإقبال الجماهيري لاحقا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

د. أحمد القاسمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا