في العام 1946، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حدث اتفاق «بلوم-بيرن» بين فرنسا وأمريكا، والذي تضمن إسقاط الديون الحربية لفرنسا، وهذا ما أدى في النهاية إلى دخول مئات من الأفلام الأمريكية إلى السوق الفرنسي بعد سنوات من الانقطاع بسبب قيود الاحتلال النازي لفرنسا، ونتج عن ذلك انفتاح كبير في المشهد الثقافي السينمائي الفرنسي والعالمي عمومًا، والأمريكي خصوصًا، وظهرت عديد من المجلات السينمائية المهمة ونوادي السينما التي ارتادها الآلاف من عشاق السينما والمخرجين والكُتاب والمثقفين، وأوجب هذا الانفتاح مناخًا مناسبًا للنقاشات والنقد والدراسات السينمائية، وهو ما ساهم في تطوير ما عُرف بالموجة الفرنسية الجديدة، وظهر مصطلح «الموجة الجديدة» لأول مرة في عام 1957 في مقال نُشر في صحيفة L’Express بعنوان «تقرير عن شباب اليوم»، وقد كتبت هذا المقال الصحفية فرانسوا جيرو، ونشرت كتابًا في العام التالي بعنوان «الموجة الجديدة: صورة لشباب اليوم»، على الرغم من أنه لم يكن له أي علاقة مباشرة بالسينما، ومع ذلك، تم استعارة هذا المصطلح من قبل الصحفيين للإشارة إلى المخرجين الشبان الذين أحدثوا ضجة كبيرة في مهرجان «كان» السينمائي عام 1959، والذي شهد بداية الموجة الفرنسية الجديدة، وسرعان ما انتشرت العبارة عالميًا لتصف هذا التيار السينمائي الجديد والمبتكر.
جذور الموجة الفرنسية الجديدة
لربما كان التنظير النقدي السينمائي محركًا رئيسًا للموجة الفرنسية، فكان لمقالات المخرجين مثل تروفو أو رومير أو آستروك، والنقاد مثل آندريه بازان، دورٌ أساسي في تشكيل هوية الموجة الفرنسية الجديدة وإرساء أسس فلسفتها وروحها وشكلها الفني، حيث كانت الحركة النقدية السينمائية في أوجها بعد نهاية الحرب وظهرت مساحات ومجلات مهمة لتروي عطش محبي السينما وحاجتهم إلى التعبير والنقد والنقاشات، فظهرت مجلات مثل Le Revue du Cinema التي نشر فيها رومير مقالته Cinema, the Art of Space والتي كانت من المقالات المهمة في تشكيل أفكار الموجة الفرنسية وأسلوبها الصوري، أو مجلة L’Ecran Francais التي نشر فيها المخرج والناقد ألكساندر آستروك المقالة المهمة «الكاميرا كقلم» والتي كانت الحجر الأساس في تشكيل «نظرية المؤلف» حيث تكلم آستروك فيها عن قدرة السينما على أن تكون شأنها شأن الأدب، وإمكانية المخرج أن يستخدم الكاميرا بالطريقة التي يستخدم المؤلف بها قلمه، أن تكون الكاميرا وسيلة لنقل فلسفة المخرج والتعبير عن أفكاره سواء بالأسلوب الصوري أو المحتوى السردي.
كان هناك عديد من النقاد في تلك الفترة ممن شاركوا في رؤية آستروك -آندريه بازان مثلًا- بأن الفيلم يجب أن يعكس الرؤية الشخصية للمخرج، ولاحقًا كان تروفو أول من أطلق عبارة «سياسة المؤلفين» في مقالته الشهيرة «اتجاه معين للسينما الفرنسية» حيث تحدث فيها عن امتلاك أفضل المخرجين لأسلوب مميز خاص بهم، بالإضافة إلى موضوعات متسقة تتخلل أفلامهم. وإن الرؤية الإبداعية الفردية هذه هي التي تجعل المخرج هو المؤلف الحقيقي للفيلم وهو صميم ما يسمى بنظرية المؤلف. قد لا يمكن لبعض الناس تقدير ثورية نظرية المؤلف في تلك الفترة وأهميتها في تقدير المخرج وتكريس دوره في العملية الإبداعية للسينما حيث كان يُنظر إلى كاتب السيناريو، أو المنتج، أو الاستوديو الإنتاجي على أنه المبدع الرئيس خلف الأفلام السينمائية، ولكن النقاد الفرنسيين وعلى رأسهم نقاد مجلة «دفاتر السينما» كانوا أول من أثار تلك الفكرة، وأشاروا إلى دور المخرج الإبداعي، وطبقوا نظرياتهم تلك في تحليل أفلام مخرجين هوليووديين كبار مثل ألفريد هيتشكوك أو هوارد هوكس أو أورسون ويلز حيث أظهروا القيمة الفنية في أفلامهم التي جعلت العالم ينظر إليهم بوصفهم فنانين لهم وزنهم، لا مجرد حرفيين من الدرجة الأولى كما كان يُنظر إليهم في السابق، حيث فتح نقاد الموجة الفرنسية الجديدة ومُنظّريها جوانب جديدة للنظر إلى الأفلام والسينما.
من وجهة نظر سوسيولوجية، يُعتبر أن المناخ والسلوك التمردي للشباب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كان يدفع إلى اتخاذ توجه جديد في السينما. يقول أنتوان دو بك، وهو أحد الكتَّاب في مجلة «دفاتر السينما»، في إحدى محاضراته عن الموجة الفرنسية الجديدة: «لقد كانت الموجة الفرنسية الجديدة حركة شابة حيث تمكنت الموجة الجديدة من تصوير روح الشباب أو روح العصر والتاريخ الخاص بهم، لأنهم كانوا ضد التاريخ». يعزي دو بك سلوك رواد الموجة الفرنسية الجديدة الثوري إلى طبيعة الحياة بعد الحرب العالمية الثانية وبعد هيروشيما والقنبلة النووية، وأن حقيقة وجود إمكانية لحرب نووية في المستقبل دفعت الشباب في تلك الفترة إلى اتخاذ سلوك أكثر أناركية والنظر إلى المستقبل بصورة تشاؤمية. يقول المخرج آلان رينيه، أحد أهم مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة: «لقد علمتني هيروشيما أن العالم لم يكن جادًا ولا مستدامًا. لقد بلغت العشرين من عمري في نهاية الحضارة». ولكون الثورات الكلاسيكية أصبحت أصعب في عالم ما بعد القنبلة النووية، كانت الموجة الفرنسية الجديدة وسيلة لثورة فكرية وفنية.
أما سياسيًا، فيمكن اعتبار الموجة الفرنسية الجديدة ذات ميول يسارية ماركسية حتى وإن لم يعلن بعضهم ذلك بوضوح -رومير مثلًا- أو من أعلنوا موقفهم السياسي هذا علنًا وبوضوح في أفلامهم، مثل مجموعة «الضفة اليسارية» التي ضمت آنياس فاردا وآلان رينيه وكريس ماركر وآلان روب غرييه، وكانوا يميلون إلى التجريب الفني في السينما واتخاذ موقف سياسي اشتراكي واضح. قد يختلف مخرجو الموجة ومنظروها فيما بينهم، وتتباين مواقفهم السياسية بعض الشيء، وأين يمكن وضعهم في ألوان الطيف السياسي، فقبل أن يتحول غودار إلى ذلك الشخص الثوري ذي الميول الماوية الماركسية، كان يشكل عليه من قبل جماعة «الضفة اليسارية» على كونه، مع تروفو وشابرول، ذا ميول يمينية، لكن بغض النظر عن تلك التفاصيل الصغيرة، يمكن القول وبلا شك إن وجود الموجة الفرنسية الجديدة كفكرة هو فعل يساري بالضرورة.
على المستوى التقني، تمرد مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة على كثير من القواعد التقنية في لغة السينما والأسس السردية التي وضعها عديد من الفنانين خلال الخمسين سنة الأولى من عمر السينما، حيث اعتقد مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة أنه من أجل التعبير عن حياتهم وزمنهم بشكل أكثر عصرية، لا بشكل سينمائي خيالي تقليدي يشكل حاجزًا بين المشاهدين وما يحاول المخرج إيصاله من فلسفته وأفكاره، عليهم ابتكار قواعد وأساليب سينمائية سردية جديدة، فعلى العكس مما كانت تحاول السينما جاهدة إخفاءه عن المشاهدين، حيث كانت تسعى إلى إخفاء الحقيقة عما يُعرض على الشاشة، كان مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة يتخذون خطوات لتذكير المُشاهد باستمرار بأن ما يشاهده هو مجرد سلسلة من الصور المتحركة، وقاموا بذلك باستخدام الأدوات ذاتها التي استُخدمت للتعبير السينمائي قبلهم، لكنهم وظّفوها بطريقة جديدة ومختلفة ومتحررة عن كل ما وُضع لها من قواعد سابقة. كانوا يستخدمون، على سبيل المثال، القطع السريع (jump cuts) في مَشاهد كان يُفضل فيها سابقًا الاستمرارية في المونتاج (continuity editing)، وكانوا يقومون بالتلاعب والتجريب في التأطير، ويستخدمون حركات الكاميرا التي لم يكن من الشائع الاعتماد عليها في السينما السابقة.
هذا النهج أيضًا كان ملحوظًا في إيطاليا مع مخرجي الموجة الواقعية الذين اضطروا إلى ابتكار تقنيات جديدة بسبب ضعف الموارد الاقتصادية، وحدث الشيء نفسه في الموجة الفرنسية الجديدة، حيث لم يمتلك مخرجوها في تلك الفترة موارد مالية كافية لإنتاج أفلامهم بالطرق القديمة نفسها.
على سبيل المثال، ربما يُعد فيلم غودار «منقطع الأنفاس» (1960) هو المثال الأشهر على استخدام تقنية القطع السريع، والتي استُخدمت بعد أن قيل للمخرج إن عليه تقليل مدة الفيلم. كان مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة يُولون اهتمامًا أكبر للتقنيات السينمائية والصورية من المحتوى القصصي للأفلام، مؤمنين بأن للصورة قدرة تعبيرية مماثلة للغة المكتوبة. كان هذا التوجه متفقًا عليه من قِبل معظم رواد الموجة في ذلك الوقت، ومثلًا، كان هنري لانجلوا، مؤسس «السينماتك» (المكتبة السينمائية الفرنسية)، يعرض أحيانًا أفلامًا أجنبية من دون ترجمة أو أفلامًا صامتة من دون مرافقة موسيقية، على أمل أن يسلط هذا النهج الضوء على التقنيات الكامنة خلف ما يشاهده الجمهور على الشاشة، وهو جوهر أفكار الموجة الفرنسية الجديدة.