المؤسسة العامة للسينما وتأثيرها في السينما السورية

February 15, 2023

سوريّا، بلد البدايات ومنبت الفنّ

لطالما كانت سوريا بلدًا منفتحًا على كافةِ صنوفِ الفنّ، والمنبعَ العربيّ لها، وكسائر الفنون كان للسينما حظوةٌ منها، فمنذ مطلع القرن العشرين عرفت سوريا السينما، وكان هناك دارا عرض، الأولى في حلب والأخرى في دمشق، حيث بدأت بعض التجارب في أواخر عشرينيات القرن الماضي بفيلم المخرج أيوب بدري «المتهم البريء» 1928، وعُرض في سينما «الكوزموغراف» في دمشق، وأُنتجت بعض الأفلام الأخرى من بعده. 

ولكنّ البداية الحقيقية للسينما في سوريا، كانت مع أبي السينما السورية المهندس والمخرج «نزيه الشهبندر»، والذي أسس اللبنات الأولى لتلك السينما، فقد قام ببناءِ الأستوديوهات وصناعة المعدّات السينمائية من آلات تصوير وإضاءة وصوت، وهو أول من أنشأ واخترع آلات تسجيل الصوت للأفلام في الشرق الأوسط، فقد كانت تُصنع قبل ذلك في فرنسا بمبالغ باهظة، وتثمينًا لجهوده الوفيرة فقد قام كل من المخرجِين «محمد ملص» و«عمر أميرلاي» و«أسامة محمد» بعمل فيلم عن المخرج نزيه الشهبندر عام 1994 بعنوان «نور وظلال».

في عام 1951 عاد «صلاح دهني» من فرنسا، بعد أن درس في معهد الدراسات السينمائية العليا في باريس، وأسس مع مجموعة من المثقفين السوريين مثل: «حنّا مينا» و«سعيد حورانية» رابطة الكُتّاب العرب، -التي أصبحت فيما بعد (اتحاد الكُتّاب العرب)-، كما أطلق مهرجان دمشق السينمائيّ الدولي عام 1956، وهو أول مهرجان سينمائي دولي في العالم العربي، وأنتج العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تتناول السينما، كذلك قام بترجمة العديد من الروايات والمسرحيات الأجنبية، وكُتب نقدية عديدة في مجال السينما، وأنتج العديد من الأفلام الروائية والوثائقية، أهمها فيلمه الطويل «الأبطال يولدون مرتين».

المؤسسة العامة للسينما، رؤيةٌ فنية بين الانحسار والتجديد

في عام 1963 أسس صلاح دهني وأحمد عرفان وبعض السينمائيين السوريين «المؤسسة العامة للسينما»، والتي يُنسب لها الفضل في خلق السينما السورية كما عرفها الناس اليوم. كان للمؤسسة العامة للسينما رؤية فنية واضحة، وتُدار من قِبل مسؤولين لهم خبرات سينمائية أو مسرحية كبيرة، بحيث تؤهلهم لقيادة سينما بلدهم، وتأسيس جيل سينمائي متعلّم يتمتع بالخبرة والتجربة والرؤية الفنية، قامت المؤسسة ببناء استديوهات ومعامل تحميض، وتجهيز كافة المعدات التقنية.

وبدأت أولى إنتاجاتها مع فيلم «سائق الشاحنة» عام 1967 للمخرج اليوغسلافي «بوشكو فوتشينيتش»، وبطولة عدد من الممثلين السوريين كان أبرزهم: «صبري عياد» و«خالد تاجا» و«هالة شوكت»، وقد كان للفيلم أثره الكبير لتغيير مفهوم السينما في سوريا في ذلك الوقت، على المستويين التقنيّ والفنيّ، واُعتبر النواة الأولى التي تخلّقت منها السينما السورية، وعلى الرغم من كونه بإخراجٍ أجنبيّ؛ إلا إنه عن قصة سورية أصيلة، تخاطب كافة الشعب السوري، وبأسلوبٍ جديد لم تعهده السينما السورية من قبل، ونستطيع أن نقول إنَّ تأثير فيلم «سائق الشاحنة» في السينما السورية كان كتأثير فيلم «العزيمة» في السينما المصرية. 

وفي السبعينيات أنتجت المؤسسة عددًا كبيرًا من الأفلام، كما استقطبت العديد من المخرجين العرب، فمن لبنان كان برهان علوية بفيلمه «كفر قاسم» عام 1974، ومن العراق قيس الزبيدي بفيلمه «اليازرلي» 1974، والذي فيما بعد أصبح أحد أهم المونتيرين والسينمائيين في سوريا، ومن مصر توفيق صالح بفيلمه «المخدوعون» 1972. كما برز بعض المخرجين السوريين الشبّان الذين درسوا في الخارج، كالمخرج الكبير «نبيل المالح» بأفلامٍ عديدة كثلاثية: «رجال تحت الشمس»، و«الفهد»، و«بقايا صور»، وكذلك المخرج مروان حداد بأفلامه مثل: «الاتجاه المعاكس»، و«حبيبي يا حب التوت»، والمخرج محمد شاهين في أفلامه: «وجهٌ آخر للحبّ»، و«المغامرة»،  والمخرج بشير صافية بفيلم «العار» و«الأحمر والأبيض والأسود». وقد غلب على تلك الأفلام تناولها للقضية الفلسطينية كجزء من الحالة العامة في ذلك الوقت، خاصةً بعد هزيمة 67 وبعد نصر 73، ولوحظ التطور الكبير لدى الكادر السوري في صناعة السينما، وبدأت تتشكل ملامح السينما السورية. 

ومع أنّ المؤسسة العامة للسينما أسهمت وأسست لسينما قوية ورائدة في المنطقة؛ إلا إنها تعتبر جهة حكومية، حيث ميزانية الأفلام ليست كميزانية القطاع الخاص. وكان معظم تلك الأفلام بإنتاج مشترك مع جهات إنتاجية أخرى، كما كان هامش الحرية السياسية -بالتحديد- منخفضًا للغاية، حيث قامت السلطة السياسية بمنع العديد من الأفلام، مثل «نجوم النهار» 1988، والذي كان من إنتاج المؤسسة نفسها، وكذلك فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية»، وأيضًا فيلم «طوفان في بلاد البعث» لعمر أميرالاي. 

ومثلما كان للقطاعِ العام إنتاجات كبرى في مجال السينما؛ كان للقطاع الخاص أيضًا ظهور بارز من أواخر السبعينيات الى التسعينيات، قبل أن يتوجه القطاع الخاص للإنتاج التلفزيوني في التسعينيات، وصنع العديد من نجوم الشباك كدريد لحام، ونهاد قلعي، وإغراء، ورغدة. ولاقت تلك الأفلام قبولًا ورواجًا جماهيريًا كبيرًا، وبعض تلك الأفلام لاقت استحسانًا لدى النقاد، كفيلم «الحدود» الذي احتل المركز الـ(75) ضمن قائمة أهم مئة فيلم في السينما العربية، حسب استفتاء لنقاد سينمائيين ومثقفين قام به مهرجان دبي الدولي عام 2013. 

استمرت المؤسسة بإنتاج بعض الأفلام المهمة بعد الألفية لمحمد ملص، وعبد اللطيف عبد الحميد، وأسامة محمد، وبعض المخرجين الشباب في تلك الفترة، مثل المخرجة واحة الراهب، والمخرج نضال الدبس، والعديد من المخرجين الآخرين. وكان من أهم أفلام تلك الفترة: فيلم «قمران وزيتونة» 2001، وفيلم «الطحين الأسود» 2001، كذلك فيلم عام 2007 «رؤى حالمة»، وفيلم «صندوق الدنيا» لعام 2002، وفيلم «علاقات عامة» 2005، وكذلك فيلم «ما يطلبه المستمعون» 2003، وفيلم «خارج التغطية» لعام 2007، وأيضًا فيلم عام 2005 «تحت السقف». 

ولكن مع ثورة الإنتاج التلفزيونيّ بدأت إنتاجات المؤسسة في الانحسار، وبعد ثورة 2011 فقدت المؤسسة أهميتها الإنتاجية، وأصبحت الانتاجات قليلة، وتفتقر إلى الجودة الفنيّة، كما أنها تُدار بفكر وأجندات سياسية، كما أسست فيما بعد الثورة دبلوم علوم وفنون السينما، ومجلة سينمائية إلكترونية، ومهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة، أما على الجانبِ الآخر فقد كانت الأفلام الثورية تلقى النجاح الكبير، وتنافس في أكبر مهرجانات العالم، كأفلام طلال دركي، وفيلم المخرجة وعد الخطيب «إلى سما» 2019 الذي كان قد نال ترشيحًا لأفضل فيلم وثائقي في موسم الأوسكار، وفيلم «الخوذ البيضاء» 2016، والفيلم الوثائقيّ «آخر الرجال في حلب» 2017، و«ماء الفضة» 2014، والعديد من الأفلام السورية الثورية الأخرى. 

نجوم في سماء السينما السورية

بعد نجاح تجارب المخرجين السوريين الذين درسوا في الخارج، ابتعثت المؤسسة العامة للسينما العديد من الطلاب لدراسة السينما في الخارج، وتحديدًا في الاتحاد السوفييتي، والذين شكلوا فيما بعد أهم مخرجي السينما السورية، كالمخرج محمد ملص، وسمير ذكرى، وريمون بطرس، وعبد اللطيف عبد الحميد، والعديد من المخرجين والسينمائيين السوريين الذين عادوا من الخارج.

وبإنتاج من المؤسسة قدموا الكثير من الأفلام الروائية والوثائقية في فترة الثمانينيات والتسعينيات والتي تعدّ ذروة السينما السورية والعصر الذهبيّ لها. وكان لأفلام تلك الفترة حضور كبير في كافة المهرجانات الدولية من حول العالم، كما اهتمت تلك الأفلام بتسليط الضوء على قضايا مجتمعية، وتقديم أعمال تُلامس الواقع، وتحكي قصصًا مختلفة من كافة أنحاء سوريا؛ فقاموا بإخراجِ أفلامٍ تحكي عن مُدنهم، وقُراهم. فكانت أعمال ريمون بطرس عن حماة، ومحمد ملص عن القنيطرة، ورياض شيا عن السويداء، وعبد اللطيف عبد الحميد عن الجبال والأرياف، وغيرهم من المخرجين.

ومن أهم تلك الأفلام: فيلم محمد ملص «أحلام المدينة» 1984، وفيلم المخرج سمير ذكرى «وقائع العامِ المُقبل» 1986، وفيلم المخرج عبد اللطيف عبد الحميد «ليالي ابن آوى» 1988، وفيلم أسامة محمد «نجوم النهار» 1988، وفيلم «رسائل شفهية» 1991، كذلك فيلم ريمون بطرس «الطحالب» 1990، وفيلم «الكومبارس» 1993 لنبيل المالح، وفيلم «الليل» 1992، وفيلم غسان شميط «شيءٌ ما يحترق» 1993، و«الترحال» 1997، و«اللجاة» 1993، و«نسيم الروح» 1998، وأيضًا «تراب الغرباء» 1997، وغيرها من الأفلام التسجيلية والروائية والقصيرة. 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى