«المُطور»: السعي للحياة في الظلام

October 3, 2024

يتابع فيلم المطور للمخرج فيليب جاريل، وهو فيلم تجريبي فرنسي صدر عام (1968)، رحلته عبر استكشاف مخيف وحالم لحالة الإنسان، على خلفية مذهلة من الصور بالأبيض والأسود.

قصة عائلة -رجل وامرأة وابنتهما الصغيرة- يسافرون عبر مشهد مقفر. يلاحقهم عدو غير مرئي، في رحلة تبدو وكأنها مليئة بالمخاطر وعدم اليقين.

يشير عنوان الفيلم "المطور" إلى عملية تطوير الصور في غرفة مظلمة. وهي استعارة مناسبة لموضوعات الفيلم، حيث يمكن اعتبار رحلة الشخصيات رحلة مجازية إلى الغرفة المظلمة للنفس البشرية. بينما تنتقل الأسرة عبر الأرض القاحلة، يضطرون إلى مواجهة مخاوفهم ورغباتهم العميقة، فيتحوّل الفيلم إلى تأمل في طبيعة الحياة والموت والوجود نفسه، وربما يربط البعض بينه وبين فيلم المخرج الروسي «اندريه تاركوفسكي»، "المتعقب"، نظراً لما تشاركته رحلتا جاريل وتاركوفسكي من أفكار فلسفية متشابهة تسبح في فُلك استكشاف النفس البشرية عن طريق رحلة نحو الذات. لقد ساهمت صورةُ الفيلم المميزة مع التصوير السينمائي الأسود والأبيض الصارخ الذي يلتقط الخراب والفراغ في المناظر الطبيعية، واستخدامُ الصمت والبساطة في خلق إحساس بعدم الارتياح والتوتر، كما تضيف الصورة في الفيلم -التي تشبه الحلم- إلى أجوائه المؤلمة، حساسيةً شديدة الوضوح.

أظهر الفيلم اختلافاً في هيكله، إذ تعمد عدم إظهار أي تواصل جسدي بين الوالدين، كما تعمد إخفاء أي مظهر للترابط الأسري أو المودة بين العائلة، حتى الإشارة إلى ميلاد الصبي لم تكن إلا بإيماءة من والديه من أعلى خزانة ملابس في الغرفة. بقي الفيلم على تلك الحالة من عدم التقارب ليجعل الشخصيات والأجساد مُحكمة بطريقة ما، كأنها تحت رحمة كيان غير مرئي للذات والآخر. انعدمت كل المحاولات للفت الإنتباه، ولا شيء سوى صمت يصم الآذان، في دلالة على أن الشخصيات قد نسيت وجودها الجسدي وقبلوا ذلك لأنفسهم وللآخر. هم ما يزالون عائلة، لكن بلا أي تواصل وعليه لا داعي ولا مجال للتعاطف، فقد صاروا أيضاً أشباحاً، ولم يكن ما تبقى سوى هذيان بلا عاطفة، وعدم رضا، وتوقعات يائسة وأيضاً عواطف غير مشبعة. سادت حالة من التردد في لقطات عديدة من العمل، حيث يتضح دائما أن الوالدين في فرار من شئ ما، لكن لا يوجد تصريح واضح عن ماهيّة هذا الشيء، يبدو في بعض الأحيان أن الطفل هو ثقل أُجبِروا على تحمله، من حين لآخر يسعى وراءهم وحيداً، وأحيانا يمضون معه، ويختبئون سويا في العشب، اهتزاز العشب فقط هو ما يشير لوجودهم هناك، حيث لا مجال لرؤية أحد. في البداية بدا أن الطفل هو الحل لكسر حالة الجمود في علاقة الوالدين، إلا أنه ومع مرور الوقت يفشل في القيام بذلك، وعليه يصبح الطفل أيضاً مأزقاً جديداً للأبوين.

كانت تجربة المشاهدة جسدية بشكل بارز، لكن خلال هذه التجربة الجسدية تظهر لنا شخصيات تكاد تنكر الواقع الجسدي للوجود، وتشير إلى أن السينما يمكن أن تدرك الإمكانات الكامنة للفن وللعمل مباشرة على الجهاز العصبي، ليس من خلال التصوير والتمثيل، ولكن من خلال الاهتزازات والتأثيرات، ليس لبدء الفكر فحسب بل والنشاط الجسدي واللاوعي، مع الحد الأدنى من الدعائم، عبر كسر الجدار الرابع، والتخلي عن المنطق الخطي والسببي، والحفاظ على موقع التسلسل غير الواضح وإجراء تغييرات مكانية غير منطقية، يوضح المخرج، أن السينما هي التي يشاهدها المشاهد رؤية وليس شيئًا يتظاهر بتقليد الواقع. مثلما يتم تخريب الإيماءات الخارجية التقليدية بين الطفل والوالدين وإعادة النظر فيها، فإن هذه التدخلات الرسمية تكسر آلية تصور المشاهد وتمكنه من فهم الواقع بطريقة جديدة.

عمل الفيلم على الابتعاد عن السرد التقليدي وميله إلى كونه فيلماً ذا وتيرة بطيئة بعض الشيء، ومن الأشياء اللافتة للانتباه في العمل هو إستخدامه المتكرر للرمزية. حيث يمكن النظر إلى رحلة العائلة على أنها استعارة لحالة الإنسان، إذ يتعرض السعي وراء السعادة والإنجاز باستمرار لتهديد قوى الظلام والدمار. يؤكد استخدام الفيلم للصور الدينية -لقاء العائلة مع مجموعة من الرهبان على سبيل المثال- على موضوعاته الوجودية، حيث يشير إلى أن البحث عن المعنى والهدف في الحياة هو مسعى إنساني عالمي. جوهر الفيلم هو مناقشة غير مباشرة وتأمل في طبيعة الوجود البشري، حيث تعمل الصور الصارخة للفيلم والأجواء المؤلمة على التأكيد على هشاشة الحياة وعبورها. تشير اللحظات الأخيرة من الفيلم، التي تغرق فيها الأسرة في الظلام، إلى أن اليقين الوحيد في الحياة هو الموت، وأن البحث البشري عن المعنى والهدف لا طائل من ورائه في نهاية المطاف.

لا شك أن "المُطور" هو في باطنه عمل مليء بالتحدي ومحفز للتفكير في ماهية الجسد والبحث المستمر عن طرق الوجود، أكد أيضاً في العديد من اللقطات على أن الجسد هو ثِقل يجب تجاهله وتهميشه، يحاول خلق حالة لا تستطيع تحديدها في كلمات أو ترتيبها في جمل، يحاول إيصال شيء من التناغم لجسدك وحواسك دون أن تكون قادرًا على تقديم تفسير لغوي لسبب شعورك بإحساس معين.

ساهم سرد الفيلم السيريالي والصورة البطيئة وصناعته السينمائية البسيطة في خلق لغة جديدة غير منطوقة تضعك في البداية أمام عمل مُغاير وثائر بعض الشيء على صناعة الأفلام في توقيته، لتخرج منه في النهاية منغمساً في التفكير حول ماهية الوجود، مكتسبا لغة جديدة تماماً.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى