المُخرج مُجتبى سعيد: الممثل لا يُخلق في العزلة

في لحظةٍ مفصليَّةٍ من التحوُّل الثقافي والفني تشهدها المملكة العربيَّة السعوديَّة، تتقاطع التجارب الفرديَّة مع المبادرات المؤسَّسيَّة لخلقِ بيئةٍ أكثر نضجًا واستدامةً للابداع. من هذه التجارب تبرزُ مبادرة تأسيس معهد «سين» في مدينة الخُبر كأوَّل معهدٍ متخصِّصٍ في تعليم فنِّ التمثيل داخل المملكة، وذلك في خطوةٍ طموحةٍ تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الفنِّ والتعليم. لا يأتي هذا المشروع بوصفه استجابةً لحراكٍ سينمائيٍّ متسارعٍ فحسب، بل كامتدادٍ لحلمٍ شخصيٍّ طويل الأمد، يتأسَّس على قناعة أنَّ التعليم الفنيَّ ليس ترفًا بل ضرورة.

وعلى هامش تأسيس المعهد، قمنا بإجراء هذا الحوار مع مؤسِّسه، المُخرج والسيناريست مجتبى سعيد، تناولنا فيه لمحة عن تجربته، رؤيته للسينما، دور جمعيَّة السينما كمؤسَّسةٍ داعمةٍ وكذلك ما حمله من تجربته الألمانيَّة إلى المشهد الفني المحلِّي الباحث عن لغته الخاصَّة، مع إشارات إلى واقع التمثيل المحلِّي.

1. بعد سنواتٍ من العمل السينمائيِّ بين السعودية وألمانيا، تعود لتدشين مشروعٍ تعليميٍّ نوعيٍّ في الخبر. ما الذي جعلك ترى أنَّ اللحظة مناسبةٌ لتأسيسِ معهد «سين»؟ هل ترى في التعليم الفنيِّ اليوم ضرورةً أم استجابةً لحراكٍ سينمائيٍّ قائم؟

لم يكن قرارُ تأسيسِ معهد «سين» وليدَ اللحظةِ الراهنة، بل حلمًا قديمًا ظللتُ أطاردُ ملامحه لسنواتٍ طويلة. لقد نشأتُ في زمنٍ كانت فيه المعرفة الفنيَّة عملةً نادرة، وكان على الراغبِ في التعلُّمِ أن يبحثَ طويلًا ويسافر بعيدًا ليحصلَ على الحدِّ الأدنى من المعرفة، وهذا هو السبب الرئيسيُّ الذي دفعني حينها لدراسةِ السينما في ألمانيا. وبعد تلك التجربة التي امتدَّت بين السعوديَّة وألمانيا لسنوات، شعرتُ أنَّ اللحظة قد نضجت، فمشهدنا الفنيُّ مبشِّرٌ ويتطوَّر باستمرارٍ مُلاحظ. إلا أنَّ حراكنا بحاجةٍ إلى جذور، فالتعليمُ الفنيُّ من وجهة نظري ليس ترفًا واستجابةً لزمنٍ متغيِّر، بل هو ضرورةٌ لتهيئة الطريق ومنحِ المواهبِ الحقيقيَّة حيِّزًا للولادة. هنا يأتي الدورُ المهمُّ للجامعات والمعاهد في زرعِ الذائقة الفنيَّة، وتشكيل الوعي والإسهام في بناء مجتمعٍ يرى في الفنِّ أداةً للتعبيرِ لا للزينة. وحين تجد المواهبُ ذاك الفضاء الحقيقي للتعلُّم، سيتغيَّر شكلُ الفنِّ في وعينا وستتغيَّر نظرةِ الناس إليه.

2. يأتي معهد «سين» بوصفِه أوَّل معهدٍ متخصِّصٍ في تعليمِ التمثيلِ داخلَ المملكة، في وقت يشهد فيه الأداء التمثيليُّ حضورًا متزايدًا على الشاشات والمنصَّات المحليَّة. كيف تنظرُ إلى واقعِ التمثيلِ اليوم في السعوديَّة؟ وما الدور الذي يمكنُ أن يلعبه التعليم المنهجيُّ في تطويرِ هذا الحضور وصقلِه فنيًّا وإنسانيًّا؟

يعيشُ فنُّ التمثيلِ اليومَ، كسائرِ الفنونِ في السعوديَّة، لحظةَ انكشافٍ وتحوُّلٍ حقيقيٍّ يعادُ فيها تشكيل علاقتِنا بالفنِّ بوصفِه ضرورةً إنسانيَّةً مُلحَّة. وفي التمثيل تحديدًا، باتت الشاشات المحليَّة تتَّسع لوجوهٍ جديدة، وتجارب جريئة، ومحاولاتٍ صادقةٍ للبحث عن أصوات فنيَّةٍ تعكس تطلُّعاتنا. لكنَّ الحضور وحدَه لا يكفي ما لم يرافِقه وعيٌّ وأدواتٌ ومساحةٌ حقيقيَّةٌ للتعلُّم. وهذا ما جعل من لحظة «سين» ضروريَّة، فالتعليم المنهجي يصقل المهارة، يحرِّر الطاقات الكامنة، ويمنح الممثِّل القدرةَ على فهمِ نفسه وفهم العالم من حوله. إنَّ الممثِّلَ الموهوبَ بحاجةٍ إلى تدريبٍ مستمرٍّ يساعده في نحت موهبته واستنطاقِها، وبحاجةٍ إلى بيئةٍ حقيقيَّةٍ تساعده على تنميَتها، إلى مناهجَ تعيدُ ربطهُ بجذوره الإنسانيَّة. ومن دون مؤسَّساتٍ تعليميَّةٍ جادَّةٍ سيبقى التغيير هشًّا، خصوصًا وأنَّ دورَ المؤسَّسات التعليميَّة ليس تخريج الممثِّلين والممثِّلات فحسب، بل المشاركة في تشكيلِ وعي فنيٍّ جديد.

3. كان لافتًا أن تتقاسمَ قيادة المعهد مع الفنان يعقوب الفرحان، المؤسِّس المشارك ومدير استوديو سين، وأحد أبرزِ الوجوه في الدراما السعوديَّة. كيف تشكّل هذا التعاون؟ وما الذي يجمعكما على مستوى الرؤية تجاه الأداء والتمثيل؟

ما زلتُ أذكرُ ابتسامةَ يعقوب حين أخبرته عن نيَّتي في تأسيسِ معهد «سين» للتمثيل، ابتسمَ كما لو أنَّ الفكرة كانت تسكنه أيضًا. يعقوب ليس شريكًا إداريًّا فحسب، بل كان على مقربةٍ من تشكيلِ النواة الأولى لهذا المشروع بحماسةٍ تشبه إحساسَ الممثِّل قبلَ دخوله المشهد. عملتُ مع يعقوب من قبل وأعرفه عن قرب… إنَّه من الممثِّلين القلائل الذين يحملون أدواتِهم بصدق، يقفون على الخشبةِ أو أمام الكاميرا وهم محمَّلون بالأسئلة لا بالأجوبة. وهذا تحديدًا ما يجمعنا: أنَّنا لا نؤمِنُ بالتمثيل كمهنةٍ فقط، بل كرحلةِ بحثٍ مستمرَّةٍ نحو الحقيقة، مهما كانت مؤلمةً أو بسيطة. يضفي وجود يعقوب في المعهد مصداقيَّةً على المشروع لأنَّه فنَّانٌ في الجوهر، يعرفُ وجع الصنعةِ وتفاصيلها الصغيرة. لهذا كان من الطبيعي تولِّيه إدارة "الاستوديو" في معهد سين، والذي يعدُّ مساحةً ابداعيَّةً مستقلَّةً في المعهد صُمِّمَت لدعم الممثِّلين المحترفين وتطوير أدواتهم بشكلٍ أعمق، كما سيساهمُ وجود الاستوديو بقلب المعهدِ في نقل الخبرةِ العمليَّة للطلاب وفتح آفاقٍ جديدةٍ لهم.

4. جمعية السينما شريكٌ أساسيٌّ في المشروع، وتمثِّل إحدى المبادرات المؤسَّسية الجديدة في المشهد الثقافي السعودي. كيف تقرأ دور الجمعيَّة اليوم؟ هل تعتقدُ أنَّ المؤسَّسات الثقافيَّة باتت تُنصِت فعلًا إلى احتياجات المبدعين؟

لا يمكنُ الحديث عن مشروعِ «سين» دون الإشارةِ إلى الدورِ الكبير الذي لعبته جمعيَّة السينما، ممثَّلة في الأستاذ أحمد الملا، الذي فتح أبوابه لنا، وكان من أوائل الذين تلقَّوا فكرة المعهد بتقديرٍ وحماسة، وفتحَ لنا أبوابَ الحوارِ والدعم إيمانًا منه بأهميَّة أن يجدَ المبدعون مساحاتٍ للتعلُّم والتجريب. نعتزُّ في «سين» بعلاقتنا بالجمعيَّة ونراها علاقةً تكامليَّةً مثمرةً ونؤمنُ أنَّ أيَّ تجربةٍ فنيَّةٍ لا تنمو في العزلة. في نظري، جمعيَّة السينما شريكٌ ثقافيٌّ فعَّال: تنصتُ، تحتضنُ، وتمنح المشاريعَ المستقلَّة فرصتها دون مصادرة استقلاليَّتها.

5. عشت تجربةً فنيَّةً طويلةً في ألمانيا، بلدٌ ذو تقاليد عريقةٍ في الفنون الأدائيَّةِ والسينما التجريبيَّة. ما الذي حملتَه معك من تلك التجربة إلى مشروعك في السعوديَّة؟ وما الذي تعلمته هناك وكان غائبًا عنا؟

لألمانيا تقاليدها، ولكنَّ برلين كمدينةٍ لها تقاليدها المختلفة هي الأخرى. إنَّها مدينةٌ تتنفَّس الفنون، وما يجعلها مدينةً ذات شخصيَّةٍ فريدةٍ هي تلك المساحات التي وهبتها للفنَّانين كي يمارسوا فنَّهم في قلب المدينة. كانت تجربتي البرلينيَّة، رغم صعوبتها وكثافتها، المفتاحَ الذي استطعتُ من خلاله فهم العلاقة الوجوديَّة بين الإنسان والفن. ما تعلَّمته هناك يتجاوز التقنيَّات والأساليب إلى ما هو أبعد، ألا وهو إدراكُ أنَّ الفنَّ ليس ترفًا ولا مجرَّد نتيجة، بل هو مساحةٌ حرَّةٌ للبحث، للخطأ وللتجريب الصادق. ما حملتُه معي هو احترام العمليَّة الفنيَّة في ذاتها، دون استعجال ثمارها. ينظرُ الألمان إلى الممثِّل بوصفه كائنًا في حالةِ تشكُّلٍ مستمر، لا مجرَّد أداةٍ لتأدية دورٍ ما، يمنحونَه الوقت والثقة وتهيَّأ له المساحة الآمنة كي يكتَشف صوته ويعيد اكتشاف ذاته. أمَّا في بيئتنا فلطالما كان هناك شغفٌ صادقٌ ومواهبُ لافتة، ولكن ما افتقرنا إليه، وبدأ يتغيَّر اليوم، هو وجودُ بيئةٍ تحتضنُ التجربة وتمنح الفنان وقتًا ليصوغ لغته الخاصة، بعيدًا عن ضغط النتيجة وثنائيَّة النجاح والفشل.

6. قدَّمت أفلامك القصيرة، مثل «زوال» و «الظلام هو لونٌ أيضًا»، رؤى بصريَّة وأخلاقيَّة دقيقة لحالاتٍ إنسانيَّةٍ معقَّدة. هل ترى في هذا الأسلوب امتدادًا لطريقة فهمك للعالم؟ أم هي طريقةٌ تتفاعلُ بها مع الواقع والمجتمع؟

أنا مهتمٌّ في أفلامي بخلق مساحةٍ للتفكير يلتقي فيها المتفرج مع نفسه وقلقه، وربَّما مع سؤاله القديم الذي نسيَه. لطالما كانت السينما فضائي المحبَّب لطرح الأسئلة، ولم أسع في أفلامي إلى تفسير العالم أو تبسيطه، بل إلى الملاحظة والإنصات لحالاتٍ إنسانيَّة معقَّدةٍ وتقديمها بصريًّا بصدقٍ وهدوء. إنَّ هذه الرؤية امتدادٌ طبيعيٌّ لطريقتي في التعاملِ مع الواقع والتفاعل معه. لا أحبُّ التعامل مع السينما بوصفها منبرًا، فهي أكبر من ذلك بكثير؛ إنَّها مرآةٌ قد تكونُ مشوَّشةً أو في بعض الأحيان مهشَّمة، ولكن لو حدَّقنا جيدًا، سنرى أنوارًا وظلالًا، وفي مركزها تدورُ شخوصٌ انسانيَّةٌ تبحث، تتألَّم، تحاولُ أن تَفهَم وتُفهَم.

7. في ضوءِ هذا المشروع الجديد، ما هي رؤيتك للجيل المقبل من الممثِّلين والمبدعين السعوديِّين؟ وما الصفات التي يجب على الفنان التحلِّي بها اليوم ليكون جزءًا فاعلًا في سردِ قصَّة السعوديَّة المتغيِّرة؟

يقفُ الجيل القادم على عتبةِ مرحلةٍ غير مسبوقة، يُطلَب منه فيها أن يعيدَ صياغة سردِه لمجتمعه بلغته ورؤيته الخاصَّة، وأن يتفاعل مع المتغيِّرات لا من موقع المتفرج، بل من قلب المشهد. ولكي يكون الممثِّل السعوديُّ فاعلًا وحقيقيًّا، عليه أن يحرصَ على التعلُّم المستمر.

(هنا اقتباسٌ، من كلمة افتتاح المعهد، يستعرضُ رحلةَ الممثِّل نحو الحقيقة)

في البداية،
يطرقُ الممثِّل بابَ التواصل الإنساني،
ويتعلَّم أنَّ الإصغاء هو أساسُ الحضور،
وأنَّ التمثيل ليس كلماتٍ تُقال، بل لحظةً صادقةً تُبنى بينه وبين الآخر،
ولأنَّه شغوفٌ بالسؤال، بالاكتشاف، وبالتطوُّر الدائم،
تتَّقد فيه روحُ التعلُّم أكثر مع كلِّ تجربة، مع كلِّ لحظةِ تدريبٍ وممارسة،
ويغوص في أعماق نفسه، أكثر فأكثر،
مبتعدًا، هائمًا، حتى وإن أصبح غريبًا،
ومع ذلك لا يكفُّ عن السعي…
ولأنَّ الممثل لا يُخلق في العزلة، بل يزهِرُ في مجتمعٍ متعاون،
يتعلَّم أنَّ المشهد يُكتَب بجسدين، بصوتين، بثقةٍ تُبنى بين الشركاء،
ومن هذا القرب، تبدأ رحلةٌ أعمق: رحلةُ التصالح مع النفس،
مع ما يخجل منه، ما يخشاه، وما يظنُّ أنَّه لا يقدر عليه،
فما من تمثيلٍ صادقٍ دون مصالحةٍ داخليَّة.
وبعد جهدٍ كبيرٍ وعملٍ دؤوب، قد يصلُ إلى التقبُّل:
أن يرى نفسَه والآخر كما هو، دون مقاومة، دون حكم،
أن يؤمنَ بأنَّ كلَّ شعورٍ يستحقُ أن يُعاش، وكلَّ إنسانٍ يستحقُ أن يُفهم…
هذه ليست مجرَّد قيَم،
بل خطوات… نحو أن يكونَ ممثِّلًا حقيقيًّا.

وهنا… تبدأ الرحلة!

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى