عاشت السينما الإيطالية أزهى عصورها في الفترةِ ما بين عامي 1960 - 1963، وبالطبع تعددت الأعمال العظيمة التي سبقت هذه الفترة أو تلتها، مثل فترة الواقعية الإيطالية الجديدة، فقد تميزت هذه الفترة القصيرة بكمّ الأعمال الرائعة التي قدمها أساتذة كبار وآخرون جدد على حدّ سواء. خلال تلك السنوات قدم فلليني أفلامه «الحياة حلوة» La Dolc Vita، و«ثمانية ونصف» ½ 8، وأخرج لوكينو ڤيسكونتي روائعه: «روكو وأشقاؤه» Rocco & his brothers، و«الفهد» The Leopard، ودي سيكا بفيلمه «امرأتان» Two Women، وثلاثية مايكل أنجلو أنطونيوني «المغامرة» L'avventura، و«الليلة» la notte، و«الخسوف» L'eclisse، وقدم روبرتو روسيلليني فيلمه الذي لم يحظَ بقدرٍ كافٍ من الاهتمام «الهروب ليلاً» Era Notte a Roma، في حين تمكن المخرج أليساندرو بلاسيتي من إتمام فيلميه الوثائقيين «ليالٍ أوروبية» European Nights، و«أحبك، يا حبي» I love you, love، وتصدر المشهد أيضًا عدة أسماء جديدة واعدة بأعمال أولى مثل بيير باولو بازوليني وأفلامه: «أكاتون» Accattone، و«ماما روما» Mamma Roma، و«لا ريكوتا» La Ricotta، وفيلم الأخوين باولو وفيتوريو تاڤياني: «رجلٌ على حافةِ الإحتراق» Un uomo da bruciare، وفيلم «البوستو» Il Posto للمخرج إرمانو أولمي، وأولى تجارب المخرج بيرناردو بيرتولوتشي: «قابض الأرواح» La commare secca.
وكانت مغبةٌ جسيمة؛ إذ وقع فيلم في هوّة النسيان بين وفرة تلك الدرر الرائعة، وهذا ما حدث للفيلم الرائع «المتهور» Il sorpasso في عام (1962) للمخرج دينو ريزي، الذي واجه رفض النقاد. وجديرٌ بالذكر أنّ الأفلام الكوميدية لم تكن تؤخذ على محمل الجد آنذاك، وستمضي سنوات قبل أن تحقق أعمال ريزي وزملائه من مجموعة «الكوميديا على الطريقة الإيطالية» مثل بيترو جيرمي، وماريو مونيتشيلي، نجاحات نقدية بارزة. كان يُنظر لتلك الأعمال الكوميدية التي سخرت من الرذائل، وأوجه الضعف الإيطالية في بيئةٍ واقعية، على أنها نوعٌ ثانويّ، ومفسدةٌ إن لم تكن خائنة أيضًا لمواضيع الواقعية الجديدة، وأفضل ما كان يمكن أن تحققه من نجاحٍ وفق المنظور النقديّ، أن توصف بأنها شعبية ومصنوعة بحرفية، وشعبية هنا لا تعتبر مديحًا. وواجه فيلم «المتهور» نصيبه من المشاق ليحصل على الإشادة التي يستحقها، فوضعه النقاد في بادئ الأمر في مكانة أدنى من الأعمال السابقة للمخرج، ورأوه ساخرًا ولاذعًا.
بدأ دينو ريزي -دارس الطب النفسي- مشواره الفنيّ بمحض الصدفة، حيث أسفر عن نوعٍ مختلفٍ جدًا من السينما، كان أول أفلامه «باربوني» Barboni لعام 1946، كان وثائقيًا قصيرًا عن البطالة في مدينته ميلان، ثم قدّم بعده عدة وثائقيات تحمل سِمات وجماليات الواقعية الجديدة، عن الظروف المأساوية في إيطاليا بعد الحرب، وحقق نجاحًا تجاريًا عندما أخرج مجموعةً من الأفلام الكوميدية الناجحة في فترة الخمسينيات، نذكر منها على وجهِ التحديد فيلم: «فضيحة في سورينتو» Scandal in Sorrento لعام 1955، وهو الجزء المتمم لثلاثية مشهورة ناجحة، رغم رفض النقاد ووصفهم له «بالواقعيّ الحالمِ الجديد»، قاصدين بذلك الطابع العاطفيّ الخفيف لتلك الأفلام؛ لعدم تقيدها بالمشاكل الاجتماعية، وتغريدها بعيدًا عن جماليات الواقعية الجديدة. ألحقه بعد ذلك بعدة نجاحات في نفس نوع الأفلام مثل: «علامة الزهرة» The Sign of Venus عام 1955، «فقير ولكن جميل» Poor but Beautiful عام 1957، «الأرمل» Il vedovo عام 1959، و«الحب والسرقة» Love and Larceny لعام 1960.
يُعدّ فيلم «المتهور» نغمةً مختلفةً عما سبقه من أفلامٍ خفيفة، وحَظي ببدايةٍ صعبة مع كلٍ من الجمهور والنقاد، فحضر العرض الافتتاحي للفيلم خمسون شخصًا فقط، ولم تكن الآراء النقدية عنه مشجعة، ولا حتى عنوانه الذي يعني -حرفيًا- بالإيطالية «التجاوز». كما ألقى المخرج باللوم على نجمه الممثل الرائع فيتوريو غاسمان «Vittorio Gassman»، والذي كان قد خرج من تجربةِ فشلٍ ذريع لفيلم روسيلليني «روح شريرة» Anima nera؛ ولكن لم يبقَ الجمهورُ بعيدًا عن الفيلم لفترة طويلة، فانتشرت الأقاويل، وتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى ظاهرة ثقافية، واختلف موقف الجمهور عن النقاد، وتقبلوا نبرة الفيلم المريرة، وصورته الوقحة المخالفة للصوابية السياسية للمجتمعِ الإيطاليّ. أما النقاد فقد استغرق بهم الوقت عقدًا كاملًا ليلحقوا بالركب، ويعتبر الفيلم الآن واحدًا من أهم كلاسيكيات السينما الإيطالية، ولن يتردد أحد بوضعه في نفس المرتبة مع أفلام ڤيسكونتي، وأنطونيوني، رغم كونه حينها أمرًا غيرَ مقبولٍ بالمرة. وقبل أن نسلط الضوء على أهمية الفيلم في إيطاليا، يجب التأكيد على بعضٍ من عناصره الغريبة: بُنيت أحداث الفيلم على ثقل شخصية رجل جذاب وبشع، مرح ومرعب، وسيم، وخطير، هذا المزيج من القتامة الشديدة والكوميديا لم يكن مألوفًا حينها في السينما الإيطالية، وهذا الغموض بالتحديد هو ما أوصل بحركة: (الكوميديا على الطريقة الإيطالية) إلى أقصاها، وهو نفسه سر جاذبيته لدى الجمهور، وخوفًا من الفشل التجاريّ حاول المنتج ماريو سيشي جوري إقناع المخرج بتصوير نهاية أخرى للفيلم، وفي ليلة الافتتاح الكارثية قام بتحية الجمهور قائلًا: "خُرِب بيتي"؛ ولكن قرار المخرج كان سديدًا، حيث حقق مآربه مع الجمهور، كما لو أن أحدهم تمكن أخيرًا من لفظ الحقيقة عن الثقافة، والأحلام، والعادات الإيطالية. وهذا ما أتى به الفيلم: هذا حالنا، وليس بوسعنا أن نكون غير ذلك، الكوميديا تسير فيه جنبًا إلى جنب مع المأساة، أو إذا اقتبسنا قول المؤلف السينمائي إنيو فلايانو : «الوضع مأساويٌّ دائمًا في إيطاليا، ولكن ليس جادًا».
الفيلم من نوعية أفلام الطريق، وهو ما كان جديدًا نسبيًا على السينما الإيطالية -سبقه فيلم لا ينسى: «رحلة إلى إيطاليا» Journey to Italy، لروبيرتو روسيلليني، والذي تقريبًا تجاهله الجمهور تمامًا- وناشد الفيلم الطبقة المتوسطة النامية التي كانت ربما تحلم بالسفر، والتنقل في سيارةٍ رائعة مثل الموجودة في الفيلم، وأثناء تلك الفترة الاقتصادية المزدهرة امتدت الطرق السريعة لتصل ما بين شمال وجنوب إيطاليا، وفسر المخرج جيدًا تلك الرغبة الجديدة التي طفت على السطح بعد مآسي الحرب. وقبل أن يعلن الفيلم في نهايته عن المغزى الأخلاقيّ من وراءِ الحكاية، كان الجمهور متفقًا على أن الدراسة في يومٍ صيفيّ جميل أمر عبثي بدلًا من الاستمتاع بالحياة والسفر حول الريف. سردية الفيلم تدور حول التصادم بين شخصيتين مختلفتين وهما: المخادع المندفع برونو كورتونا (غاسمان)، وروبرتو مارياني الهادئ الخجول (جان-لوي ترينتينان)، تصرفات برونو حقيرة وخطيرة دائمًا، ولكن جاذبيته لا تُقاوم، وروبرتو الانطوائيّ فلا حول له ولا قوة بين يديه، ورحلتهما -التي بدأت صدفة يوم الخامس عشر من أغسطس (فيراجوستو) وهو يوم عطلة في إيطاليا- جعلت روبرتو يرى العالم من خلال عينيّ برونو. يسخر برونو من كل شيء، العائلة، والمؤسسات، والأعراف، والحب، ويهاجم الرموز الثقافية مثل أنطونيوني، واصفًا أفلامه بالمملة وهو أمر قد يلقى صداه مع شريحة عريضة من الجمهور، وفي عالم برونو تطغى المتع اللحظية على الحقيقية، والشهوة على الغرام، والسطحية على العمق. وهنا يعبر ريزي عن رؤيته للروح الإيطالية النموذجية؛ لأن أهواء برونو اللحظية تتنبأ بالسنوات الحرجة التي كانت في انتظار إيطاليا: ففي أقل من عشر سنوات ستواجه تقشفًا اقتصاديًا، وصراعًا اجتماعيًا، واضطراباتٍ إرهابية. وخطوة بخطوة، وفي رحلة استدراج برونو لروبرتو ليلقى حتفه بنهاية الفيلم على طريق ڤيا أوريليا، يكشف الفيلم عن مغزى أخلاقي قاسٍ، ومزعج.
(أوريليا) هي الطريق الرابط بين مدينة روما ومصايف الأثرياء في توسكانا، وتصوير رحلتيهما يكتنفه الغموض: من المفترض أن نقع في حبائل الإغواء، ولكن يعترينا القلق في نفس الوقت. وريزي يعرف جيدًا الأماكن الفاخرة مثل: (كاستيغليونسيلو ومنطقة فيرسيليا)، والملاهي المثيرة، والشواطئ الخاصة، واليخوت، والملابس، والسيارات، والموسيقى (أغنية واحدة تحديدًا "«المعطف القديم» Vecchio frack غناء دومينيكو مودوجنو، عن قصة رجلٍ ينهي حياته، يبدو أنها لمست ولو للحظات قلب برونو كورتونا). وفي أحد المنازل الصيفية يقابل برونو زوجته السابقة التي تعلق عليه بنبرة قاسية أثناء حديثها مع روبيرتو: "دائمًا ما يكون الانطباع الأول صحيحًا"، لاحقًا لا يتعرف برونو على ابنته ليلي (كاثرين سباك)، عندما يغازلها. وهذا التصوير للعائلة المفككة بسبب رعونة الأب كان أيضًا إحدى علامات ذلك الوقت؛ ولكن يتمادى ريزي لأبعد من ذلك، واستفزازاته تخالف الصوابية السياسية مجددًا. ابنته ليلي لديها رفيق: (كلاوديوا غورا) يكبرها في العمر، ويكبره أيضًا، وهو رجل واثق من نفسه، حكيم، والأهم من ذلك أنه ثريّ، وبالتالي تحررها يسير يدًا بيد مع وجود الثروة. وسيارة برونو تحمل أيضًا اسم أوريليا، مما يعكس كلاً من شخصية قائدها، وما كان يحدث في إيطاليا، عندما طرحت في الأسواق عام 1965، كانت لانسيا أوريليا علامة على الأناقة والرفاهية، وإلى جانب الأماكن العصرية، ساهم كل هذا البريق في نجاح الفيلم؛ ولكن هناك شيئًا آخر فهمه ريزي، وصوّره جيدًا، وهو كيف أصبحت نفس السيارة رمزًا بغيضًا ومبتذلًا، فمن الواضح أن برونو قد أجرى تعديلات على المحرك وبوق السيارة ليصبحا أسرع وأعلى صوتًا، وعندما يستعرضهما بابتسامته العريضة المتعجرفة، نشعر بالانحطاط، والفساد الذي يلقي بظلاله على المأساة التي على وشك الوقوع.
أظهرت الكثير من الأفلام العظيمة في تلك الفترة الرؤى القاتمة لإيطاليا، وهي في قمة ازدهارها الاقتصاديّ، وعلى رأسها فيلم «الحياة حلوة» الذي كان تصويرًا بليغًا للجحيم متشحًا بثيابِ الجنة، أما ريزي كان جريئًا في طرحه، وإقدامه على تقديم شيء مختلف: كآبة مستفزة لفيلم يخفي عذابًا مستعيرًا في رحلة اللذة الوهمية الآنية، ورغم رؤيتهِ العدمية تجاه أوجه الضعف الإيطالية، يكشف الفيلم عن سعي دؤوب نحو الخلاص. وربما هذا هو المبدأ النهائي الذي تبناه الجمهور عن غير وعي، إلى مدى أبعد من إعجابهم بالتصوير المثالي للروح الإيطالية، واللحظات المبهجة من الكوميديا الخالصة، والافتتان بالأماكن، والموسيقى، والسيارة، وكل الأشياء التي كانت توحي بأن إيطاليا في طور التغيير ولكن كل شيء باقٍ على حاله. ومفاجأة صدمة النهاية كانت في قمة الجرأة وقتها؛ ولكن تقبلها الجمهور بسبب لهفته لوضع نهاية أخلاقية مؤلمة: خاتمة مأساوية حتمية تُظهر أن الحياة السهلة غير موجودة. ريزي صاحب الموقف الأخلاقيّ أدرك جيدًا السبب وراء حتمية موت روبيرتو؛ لأن برونو على وشك أن يبدأ حياته من جديد، وكان يعرف قول الشاعر أومبرتو سابا: «وما الموتُ إلّا سبيلٌ للحياة».