في مساء يوم الثلاثاء 13 مايو، على شاطئ لا كروازيت، توهَّجت أنوار مهرجان كان السينمائي في دورته الثامنة والسبعين، حيث اجتمعت نخبةٌ من صنَّاع السينما، وعشَّاق الفن السابع من مختلف أنحاء العالم، في احتفالٍ فنيٍّ وثقافيٍّ فريد. كان هذا الحدث السنوي، الذي يحملُ هذا العام شعار "الأمل"، منصَّةً تعكسُ حالة السينما المعاصرة، في عالمٍ مليء بالتحدِّيات الاقتصاديَّة والسياسيَّة والإنسانيَّة. لم تكن الدورة مجرَّد مهرجانٍ للأفلام، بل نافذة تطلُّ منها السينما على الواقع، محاولةً فهمه، وتشخيصه، وربما رسم طرقٍ للخلاص أو التغيير.
منذ الإعلان الرسمي عن تشكيلة الأفلام المشاركة في المسابقة، التي شهدت إضافة عددٍ من الأفلام الجديدة حتى الأسابيع الأخيرة، تأكَّد أنَّ الدورة الثامنة والسبعين ستكونُ استثنائية، بمواجهةٍ شديدةٍ بين أسماء كبيرةٍ سبقَ لها أن صنعت تاريخ السينما، وبين مخرجين جدد يحملون رؤى مبتَكرةً وجريئة، في توازنٍ بارعٍ بين التجريب والاحتفاء بالتقاليد السينمائيَّة.
نظرةٌ عامَّةٌ حول أفلام المسابقة الرسميَّة
يبدأ الحديث مع أحد أبرز صناع السينما المعاصرة، ويس أندرسون، الذي عاد بفيلمه الجديد «الخطة الفينيقية» (The Phoenician Scheme - 2025)، وهو فيلمٌ يختزلُ طابعه السينمائي الخاص، الممتاز في بناء العوالم الصغيرة التي تنضحُ بحسِّ الفكاهة السوداء والخيال الدقيق. في هذا العمل الجديد يقدِّمُ أندرسون، الذي يشتهر بتشكيله المميز للألوان، وتركيبه المعماري للقصص، سردًا معقَّدًا يدور حول مؤامرةٍ تحكمها التقاليد والانتقام، ولكن أيضًا تشتبك مع مواضيع الصراع العائلي والهويَّة. يأخذ الفيلم المشاهد في رحلةٍ بصريَّةٍ مبهرة، تجمعُ بين الرومانسيَّة والدراما والكوميديا، مع أداءٍ استثنائيٍّ من طاقم العمل.
في زاوية أخرى، يأتي آري آستر بفيلمه «إدينغتون» (Eddington - 2025)، الذي يصنَّفُ ضمن السينما النفسيَّة الفلسفيَّة. يغوصُ آستر، المعروف بحسِّه المرهَف في استكشاف أعماق النفس البشريَّة، في قصَّة عالمِ فيزياءٍ يعاني من اضطراباتٍ عقليَّةٍ أثناء بحثه المحموم في طبيعة الزمن وأسراره. يستخدمُ الفيلم لغةً بصريَّةً معقَّدة، تتداخل فيها أطر الواقع والحلم، ويثيرُ تساؤلاتٍ وجوديَّةٍ عميقةٍ عن الإدراك والذاكرة والهويَّة، موفِّرًا تجربةً سينمائيَّةً كثيفة، قد لا تكون مريحةً لكنَّها بلا شكٍّ محفِّزةٌ للتفكير.
يقدِّمُ المخرج الصيني بي جان في فيلمه «القيامة» (Resurrection - 2025) تجربةً سينمائيَّةً تميَّزت بطابعها الحلمي والرمزي، حيث ينسجُ العمل بين زمنين وأماكن مختلفةٍ ليعرض قصَّةً عن البعث والتجدُّد. يدعو الفيلم، الذي يستخدم لغةً بصريَّةً شاعريَّةً وإيقاعًا بطيئًا مدروسًا، المشاهِد إلى التأمُّل في معاني الحياة والموت والذاكرة، عبر سردٍ غير تقليديٍّ يتحدَّى قواعد البناء السينمائي الكلاسيكي، ويبرزُ قوَّة الصورة والرمز في التعبير عن المواضيع العميقة.
لا يغيبُ الأسلوب التقشُّفي والإنساني للأخوين جان-بيير ولوك داردين عن المسابقة، حيث يعودان بفيلم «أمهات شابات» (The Young Mother's Home - 2025)، الذي يتناولُ قضيَّةً اجتماعيَّةً حسَّاسةً تتعلَّق بفتياتٍ قاصراتٍ في مؤسسة رعايةٍ ببلجيكا. بأسلوبهما المعتاد الذي يعتمدُ على التصوير اليدوي والحوار المكثَّف، يستعرض الأخوان داردين قصصًا مفعمةً بالمعاناة الإنسانيَّة، لكنَّها تتَّسم بالأمل والبحثِ عن الخلاص. لا يكتفي الفيلم بسردٍ واقعي، بل يتعمَّقُ في تحليل الأسباب الاجتماعيَّة والسيكولوجيَّة التي تؤدي إلى هذه الأوضاع، مقدِّمًا دراما مؤثِّرة ذات بعدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ واضح.
تعود المخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو، الحائزة على السعفة الذهبية سابقًا، بفيلم «ألفا» (Alpha - 2025) الذي يبرِزُ الجرأة السينمائيَّة والتجريب الفني. تتناول دوكورنو قصَّةَ فتاةٍ مراهقةٍ تصابُ بمرضٍ غامضٍ يحوِّلها إلى تمثالٍ رخامي، في سردٍ يمزجُ بين الرعب البيولوجي والتأمُّل الفلسفي في الجسدِ والهويَّة. يثيرُ الفيلم الجدل بسبب رمزيَّته الكثيفة والأسلوب غير المألوف، ويطرحُ أسئلةً عميقةً حول الألم، التحوُّل، والحريَّة الشخصيَّة، مع تصويرٍ مكثَّفٍ وحسيٍّ يجعلُ التجربة مشاهدةً معقَّدةً لكنَّها غنيَّةٌ بالتأمُّل.
في مشهدٍ دراميٍّ عاطفي، تقدِّم المخرجة اليابانيَّة تشيي هاياكاوا فيلم «رينوار» (Renoir - 2025) الذي يدور في طوكيو الثمانينيَّات، ويرصد حياة فتاةٍ صغيرةٍ تواجهُ مرض والدها، حيث يتحوَّل المرض إلى استعارةٍ عن مرور الزمن والخسارة. يتميَّزُ الفيلم بحسٍّ بصريٍّ رفيع، وبناءٍ سرديٍّ دقيقٍ يمزج بين الواقع الداخلي للشخصيات وتأثير البيئة المحيطة، مع أداءٍ تمثيليٍّ يحاكي واقع الألم والحنين بطريقةٍ واقعيَّةٍ مؤثِّرة.
يقدم أوليفر هيرمانوس في فيلمه «تاريخ الصوت» (The History of Sound - 2025) استكشافًا فنيًّا وأدبيًّا لعلاقة الإنسان بالصوت، متتبعًا كيف يشكِّل الصوت ذاكرةً ومشاعر، وكيف يمكن للسينما أن توظِّف الصوتَ كعنصرٍ سرديٍّ مستقل. يحفرُ الفيلم في عمق الحواس والذكريات عبر لقطاتٍ مركَّزةٍ وأجواء صوتيَّةٍ معقَّدة، مانحًا المُشاهد تجربةً حسيَّةً فريدةً تجمعُ بين الموسيقى والسينما والصوت.
تقدم حفصية حرزي في فيلمها «الأخت الصغرى» (The Little Sister - 2025) دراسةً نفسيَّةً اجتماعيَّةً حول فتاةٍ تكافحُ في محيطٍ مضطرب، حيث تتشابك الصراعات العائليَّة مع التحدِّيات الفرديَّة. يُبرزُ الفيلم التفاصيل الصغيرة في الحياة اليوميَّة، ويعكسُ بأداءٍ تمثيليٍّ عميقٍ مشاعر الحيرة والبحث عن الذات، مع حساسيَّةٍ كبيرةٍ تجاه موضوعات الهويَّة والانتماء.
يبحر أوليفر لاكس في فيلمه «صراط» (Sirât - 2025) بين عوالم الأسطورة والواقع، مقدِّمًا قصَّةً روحيَّةً غنيَّةً وعميقةً تمزجُ بين الطبيعة والتصوُّف في رحلة بحثٍ بطلها عن خلاصه الداخلي. يتميَّز الفيلم بأسلوبٍ بصريٍّ شعريٍّ يتداخل فيه تصويرُ المناظر الطبيعيَّة الخلابة مع الموسيقى التصويريَّة التي تخلقُ أجواءً تأمليَّةً مفعمةً بالسلام والتسامح. هذا العمل يبرهنُ على قدرة السينما في تجاوز الحكي التقليدي، حيث يأخذ المشاهد في رحلةٍ فكريَّةٍ وروحيَّةٍ تجعله يتوقَّفُ أمام أسئلة الوجود والبحث عن الذات، مستكشفًا العلاقة بين الإنسان والطبيعة في أبهى صورها.
يستحضرُ ريتشارد لينكليتر في فيلمه «الموجة الجديدة» (New Wave - 2025) التاريخ السينمائي الفرنسي وتأثير حركة السينما الجديدة التي شكلت ثورةً فنيَّةً في الستينات. وعبر سردٍ ذكيٍّ ومليءٍ بالمراجع السينمائيَّة، يقدم لينكلاتر تحيَّةً صادقةً ومُحبَّةً لهذا الإرث السينمائي، كما يستعرضُ تأثيره على صانع أفلامٍ أميركيٍّ شابٍّ يبحثُ عن هويَّته الفنيَّة. يجمعُ الفيلم بين حبِّ السينما كفنٍّ وثقافة، وبين التجديد الروحي والبحث الدائم عن الأساليبِ الجديدة، ليكون بذلك عملًا يحتفي بالسينما كروحٍ متجدِّدة لا تنضب، ويمزجُ بين الحنين للماضي والرغبة في التغيير.
أمَّا سيرجي لوزنيتسا فيقدِّمُ في فيلمه «مُدَّعيان عامَّان» (Two Prosecutors - 2025) سردًا سياسيًا معقَّدًا يركِّز على صراع المحامين في بيئةٍ مليئةٍ بالفساد والنفاق. من خلال قصَّة دراميَّةٍ متقنة البناء، يسلط لوزنيتسا الضوء على معاناة العدالة وسط منظومةٍ قضائيَّةٍ مختلَّة، حيث يتحوَّل الصراع القانوني إلى معركةٍ رمزيَّةٍ بين الحق والباطل. يمزجُ الفيلم بين التشويق النفسي والتحليل السياسيِّ الدقيق، مع تصويرٍ واقعيٍّ دقيقٍ للأجواء القانونيَّة والاجتماعيَّة التي تعكس صراعات السلطة، الفساد، والمقاومة، ممَّا يجعله عملًا معاصرًا هامًا يطرح تساؤلاتٍ حيويَّةٍ عن مصير العدالة في المجتمعات الحديثة.
هذا ويقدِّم ماريو مارتوني في فيلمه «فيوري» (Fuori - 2025) لوحةً سينمائيَّةً معقَّدةً تنسج بين التحوُّلات الاجتماعيَّة العميقة التي شهدتها مدينة نابولي، وبين حياة المثقَّفين والفنَّانين الذين عاشوا تلك الحقبة. يعتمدُ مارتوني على معالجةٍ فنيَّةٍ متقنةٍ تجمعُ بين الحكي الشخصي والذاكرة الجماعيَّة، ليكشفَ كيف تتداخل التغيُّرات السياسيَّة والثقافيَّة في تشكيلِ الهويَّة الاجتماعيَّة والفرديَّة. لا يقتصرُ السردُ في الفيلم على سردٍ تاريخيٍّ فقط، بل يعمدُ إلى الغوصِ في تفاصيلِ النفسِ البشريَّة وسط زخم الأحداث، ممَّا يجعله عملًا غنيًا بالتفاصيل والرموز التي تستدعي من المُشاهد إعادة التفكير في تاريخ مدينته وعلاقته بالمجتمع.
في «العميل السرِّي» (The Secret Agent - 2025)، يأخذنا المخرج البرازيلي كليبر ميندونكا في رحلةٍ دراميَّةٍ مشوِّقةٍ في قلب عالمِ الجاسوسيَّة والمؤامرات السياسيَّة. يتميَّزُ الفيلم ببناءٍ سرديٍّ محكم، حيث تبرز الدراما النفسيَّة للشخصيَّات التي تتصارعُ بين الولاء والخيانة، بين الحقيقة والخداع. يستغلُّ ميندونكا أجواء التشويق ليكشفَ عن جوانب مظلمةٍ من السياسة والسلطة، ممَّا يجعل الفيلم تجربةً عميقةً تتخطَّى مجرَّد إثارة الجريمة لتصبح تحليلًا لواقع السياسة المعاصرة وتعقيداته.
أما دومينيك مول في فيلمه «القضيَّة 137» (Case 137 - 2025)، فيطرح قصَّة جريمةٍ معقَّدةٍ تدور في فضاءٍ مشحونٍ بالتوتُّر النفسي، حيث تتشابكُ خطوط التحقيق مع خبايا النفسِ البشرية. يبني الفيلم تشويقًا نفسيًا بطيئًا لكنَّه متقن، تبرز فيه الصراعات الداخليَّة للشخصيَات ودوافعها المظلمة، ممَّا يجعل المشاهدَ يعيشُ حالةً من الترقُّب وعدمِ اليقين طوال مدَّة العمل. هذا التركيز على التفاصيل النفسيَّة يجعل من الفيلم أكثرَ من مجرَّد تحقيقٍ جنائي، بل إنَّه دراسةٌ إنسانيَّةٌ لما يحدث خلف الكواليس.
يواصلُ المخرج الإيراني جعفر بناهي في «حادث بسيط» (A Simple Accident - 2025) تقديم سردٍ بصريٍّ قويٍّ عن معاناة الإنسان في مواجهة الظلم والقهر، مستندًا إلى تجربته الطويلة في التعبير عن قضايا الحريَّة والعدالة في إيران. يعكسُ الفيلم، بأسلوبه البسيط والمؤثِّر، التحدِّيات التي يواجهها الأفراد العاديُّون في ظلِّ أنظمةٍ قمعيَّة، مما يجعله عملًا إنسانيًّا بامتيازٍ يسلِّط الضوء على قصصٍ لم تُروَ كثيرًا.
تغوص لين رامزي في «مُت يا حبِّي» (Die My Love - 2025) في أعماق الصراعات النفسيَّة من خلال قصَّةٍ شخصيَّةٍ متشابكة، حيث يتناولُ الفيلم موضوعاتٍ مثل الحب، والألم والاضطراب النفسي، بطريقةٍ سينمائيَّةٍ شعريَّةٍ تمزجُ بين الصورة والموسيقى والإحساس الداخلي. تعرفُ رامزي كيف تصنع جوًا من الحميميَّة النفسيَّة التي تجعلُ المشاهد يتعاطف مع الشخصيَّات ويشعر بحيرتها الداخليَّة.
في حين تقدِّمُ كيلي ريشاردت في «العقلُ المدبِّر» (The Mastermind - 2025) دراسةً نفسيَّةً دقيقةً عن الجريمة، حيث تركِّز على تفاصيل النفس البشريَّة ودوافعها الخفيَّة. يعيدُ الفيلم النظر في مفاهيم الذنب والبراءة، مقدِّمًا سردًا بطيئًا ومكثَّفًا يبرز التوتُّر بين العقل والعاطفة في لحظات التحول الحاسمة.
بينما يسلِّطُ سعيد روستائي في فيلمه الإيراني «امرأة وطفل» (Woman and Child - 2025) الضوء على التحدِّيات الاجتماعيَّة العميقة التي تواجه النساء في إيران، مسلِّطًا الضوءَ على قضايا حقوق الإنسان، الهويَّة والاضطهاد المجتمعي. يتميَّز الفيلم بنظرةٍ ناقدةٍ وشجاعةٍ تجمع بين الحكي الواقعي والرمزيَّة السينمائيَّة، ممَّا يجعله تحفةً فنيَّةً تطرحُ أسئلة جوهريَّةً حول الحريَّة والكرامة.
أما طارق صالح فيستعرضُ في «نسور الجمهوريَّة» (The Republic’s Eagles - 2025) تاريخًا سياسيًّا معاصرًا عبر دراما مشحونةٍ بالعواطف والصراعات، حيث يعيد سردَ لحظاتٍ مفصليَّةٍ في مسيرة دولته، مركِّزًا على الأبطال والمواقف التي شكَّلت الوعي الوطني. يجمعُ الفيلم بين الأسلوب التاريخي والدرامي، ويطرحُ تساؤلاتٍ عميقةٍ عن السلطة، النضال، والهويَّة الوطنيَّة.
في المقابل، تقدم الألمانيَّة ماشا شيلينسكي في «صوت السقوط» (Sound of Falling - 2025) دراسةً نسويَّةً عميقةً تستعرضُ العلاقة بين الأجيال النسائيَّة في عائلةٍ واحدة، متعمِّقةً في الصراعات النفسيَّة والاجتماعيَّة التي تشكِّلُ تجربتهن الحياتيَّة. يشكِّلُ الفيلم تأمُّلًا حيويًا في الهوية النسائيَّة، العلاقات الأسريَّة، وأثرِ التاريخ الشخصي على الحاضر، مقدِّمًا رؤيةً سينمائيَّةً حسَّاسةً ومتفرِّدة.
وأخيرًا تعيدُ المخرجة الإسبانيَّة كارلا سيمون في «روميريا» (Romería - 2025) ربط السيرة الذاتيَّة بالذاكرة الاجتماعيَّة من خلال قصَّةٍ تجمع بين تفاصيل الحياة الشخصيَّة وتاريخ المدينة التي نشأت فيها. يمزج الفيلم بين الحكي الوثائقي والدراما الشخصيَّة، ليبرز كيف يؤثِّر الماضي الجماعي على تشكيلِ الهويَّة الفرديَّة، في تجربةٍ سينمائيَّةٍ شديدة الحميميَّة والواقعيَّة.
آراء النقاد حول بعض الأفلام
نال الفيلم النرويجي «القيمة العاطفيَّة» (Sentimental Value - 2025) للمخرج خواكيم ترايير استحسانًا واسعًا، خاصَّةً من الناقد البريطاني بيتر برادشو في The Guardian، الذي وصفه بأنَّه «عملٌ ذاتيٌّ واعٍ ومشحونٍ عاطفيًا»، مشيدًا بأداءِ ستيلان سكارسغارد في دورِ مخرجٍ يحاول إعادة بناء علاقته ببناته بعد وفاة والدتهن. أما غاوتييه لينز من Cinema Reporters فاعتبر الفيلم «استكشافًا حميميًا ومؤثرًا للعائلة والذكريات وقوَّة الفنِّ التصالحيَّة».
أما «الموجة الجديدة» لريتشارد لينكليتر، فقد استُقبل كتحيَّةٍ سينمائيَّةٍ للموجة الفرنسيَّة الجديدة، إذ وصفته مجلة Numéro بأنَّه «عودة كبيرة لريتشارد لينكليتر»، وأضافت أن العمل «يوازن بين الرومانسيَّة والجماليَّة النيو-ريترو بروح وفاءٍ واضحةٍ لحقبة جان لوك غودار».
في المقابل، لاقى الفيلم الإسباني «صراط» للمخرج أوليفر لاكس استقبالًا متباينًا في فرنسا؛ امتدحته صحف مثل Libération، بينما عبّرت Cahiers du Cinéma وLe Figaro عن تحفظات واضحة بشأنه. أما على الصعيد الدولي، فقد أثنت عليه منصات مثل The Hollywood Reporter وVariety وIndieWire، مشيدة بجماله البصري وأصالته السردية.
وقد نالت المخرجة الإسبانية كارلا سيمون إشادةً واسعةً عن فيلمها «روميريا» ، الذي اختتمت به ثلاثيَّتها العائلية، فقد منحه مارك فان دي كلاشورست من International Cinephile Society تقييمًا شبه كاملٍ واعتبره «أفضل أفلام سيمون حتى الآن»، فيما أثنت ويندي إيدي من ScreenDaily على «قدرة سيمون النادرة على التقاط الطبيعة المتقلبة للعائلة».
أما فيلم «ألفا» لجوليا دوكورنو، فقد جاء بعد النجاح الكبير الذي حققته في «تيتان» (Titane - 2021)، لكنه أثار جدلاً واسعًا بين النقاد، بحيث وصفته كيت إيربلاند من IndieWire بأنَّه «محاولةٌ طموحةٌ لكنَّها غير متماسكة»، مشيرةً إلى أن «الرمزيَّة المفرطة والتسلسل الزمني المربك يضعفان تأثير الفيلم». وقد انعكست هذه الآراء في صالات العرض، حيث بدت ردود الفعل متباينةً بين الحضور.
أكثر الأفلام إثارة للانقسام كان «الخطة الفينيقية» لويس أندرسون، إذ شهد تصفيقًا حارًا وصفيرًا في الوقت نفسه بعد عرضه. فقد كتب تيم غريرسون من ScreenDaily أن الفيلم «ينقلُ المشاهد إلى عالمه الخاص، لكنَّ السرد يبدو معقدًا أكثر من كونه ممتعًا»، بينما وصفه ويليام بيبياني من TheWrap بأنه «عملٌ فنيٌّ جادٌّ يبدو كأنَّه مشروعٌ فاشل». وعلى النقيض، رأى سكوت فاينبرغ من The Hollywood Reporter أن الفيلم «قد يكون أفضل أعمال أندرسون منذ أكثر من 10 سنوات».
توقعات الفيلم الفائز
من بين هذه المجموعة المتميزة من الأفلام، يبرز فيلم «القيمة العاطفيَّة» للمخرج النرويجي خواكيم ترايير كأحد أبرز المرشَّحين لنيل السعفة الذهبية في مهرجان كان 2025. هذا العمل السينمائي لا يكتفي بسردِ قصَّةٍ تقليديَّة، بل يتعمَّق في الأبعاد الإنسانيَّة للعلاقة بين المخرج وابنته، مقدمًا حوارًا صامتًا بين الماضي والحاضر، الحب والعتاب، الذاكرة والنسيان. أداء الممثلين هنا يحملُ ثقلَ المشاعر بكلِّ دقَّةٍ وحساسيَّة، مما يجعل المشاهدين يشعرون بأنَّهم جزءٌ من هذه العلاقة المتشابكة. إنَّ استخدام ترايير لتقنيَّات التصوير الداخلي والإضاءة الطبيعيَّة يزيدُ من إحساس الفيلم بالواقعيَّة والحميميَّة، ويعزِّزُ من قوَّته العاطفيَّة. لا يسلط الفيلم الضوء فقط على العلاقة الشخصيَّة، بل يفتحُ نافذةً على موضوعاتٍ أوسع مثل الذاكرة العائليَّة، ألم الفقد، وتأملات في الهويَّة والوقت، ما يجعله عملًا سينمائيًا متكاملًا يلامسُ القلوب والعقول معًا.
أما فيلم «إدينغتون» لآري آستر، فيُعدُّ رحلةً فكريَّةً معقَّدةً وغامضةً داخل عقلِ عالم فيزياءٍ يغوص في أسرار الزمن والواقع. يقدِّم آستر من خلال هذا الفيلم تجربةً سينمائيَّةً تجمع بين الرعب النفسي والفلسفة العميقة، حيث تلتقي الأفكارُ العلميَّة بالتجارب الإنسانيَّة، في سردٍ مشحونٍ بالتوتُّر والتأمُّل. يتحدَّى الفيلم المشاهد بأسئلةٍ وجوديَّةٍ كبيرةٍ عن الإدراك والجنون، محاولًا فكَّ شفرةِ الزمن بطريقةٍ غير تقليديَّة، معتمدًا على مشاهد متشابكةٍ وموسيقى تصويريَّة تعزِّزُ من الحالة النفسيَّة المشحونة. لا شكَّ أنَّ «إدينغتون» تجربةٌ سينمائيَّةٌ جريئةٌ تتطلَّبُ من المتلقي تركيزًا عميقًا، وتعكس قدرة السينما على المزج بين الفنِّ والفكر.
أما «الخطة الفينيقية» لويس أندرسون فيأخذنا في رحلةٍ سينمائيَّةٍ فريدةٍ من نوعها، مليئةٍ بالتفاصيل الدقيقة والعالم الخياليِّ الخاص بالمخرج المعروف بأسلوبه البصريِّ المميز. يتميَّزُ الفيلم بحبكته المعقَّدة وتفاصيله الدقيقة التي تشبهُ لعبةَ تركيب الألغاز، حيث ينسجُ أندرسون قصَّةً متعدِّدة الطبقات بين الماضي والحاضر، تتداخل فيها الرموز والمواضيع الفلسفيَّة، مع إيقاعٍ سرديٍّ خاصٍّ يجمع بين الكوميديا السوداء والحنين. المشاهد هنا يُدعى للانغماس في عالمٍ بصريٍّ غريب، مليء بالألوان والديكورات المصمَّمة بعناية، مما يجعلُ الفيلم تجربةً سينمائيَّةً شاملةً تتطلَّب من المشاهد الانتباه والتمعُّن.
مع هذه الأفلام الثلاثة التي تمثِّل قمَّة الإبداع والتجديد السينمائي، تتعزَّز المنافسةُ على السعفة الذهبيَّة هذا العام، حيث تتشابكُ التجارب الفنيَّة والتقنيَّة مع موضوعاتٍ إنسانيَّةٍ وفلسفيَّةٍ عميقة. إنَّ التنوعَ في الأساليب بين الحميميِّ النفسي، الفلسفي المعقد والخيالي البصري، يضعُ المهرجان في موقعِ الريادة لتقديم أعمالٍ تتجاوز حدود السينما التقليديَّة، وتفتح آفاقًا جديدةً للتعبير السينمائي.
من خلال هذا التنوُّع الفنيِّ والموضوعي، تعكسُ الدورة الثامنة والسبعون لمهرجان كان مشهدًا سينمائيًا معاصرًا نابضًا بالحياة، مليئًا بالتحدِّيات، ومفعمًا في الوقت ذاته بالأمل والإبداع. وهي بذلك تؤكِّد من جديد مكانة كان كمنصَّةٍ لا غنى عنها لاكتشاف أبرز ما تقدِّمه السينما العالميَّة، وفضاءٍ حيويٍّ تنبضُ فيه الثقافة والفن، وتسهمُ في رسمِ ملامح مستقبل السينما بألوانها المتعدِّدة وأفكارها الجريئة.
