في كل مرة يطرأ على بالي مسلسل (The Office)، أو المكتب النسخة السعودية، أتذكر كيف بدأ فعليًا من لحظة الإعلان عنه وكأنه خط زمني يمتد أمامي. تستطيع قرائتها عبر الرابط التالي،
بدأ الأمر من خلال الكاتب والممثل المعروف فهد البتيري، بتشويقة من خلال هذه التغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي(التغريدة)
" سيأتي اليوم الذي يذكرون فيه "العودة العظيمة من بعد غياب"
بعدها بعدة أشهر، شاهدنا الإعلان الرسمي وكانت هنالك ردة فعل سلبية، خوفاً من تدمير النسخة المعشوقة لدى الجميع وهي النسخة الأمريكية على الأغلب.
مع مرور الوقت رأينا الملصق الخاص بالمسلسل، وتشوقت شخصيًا لرؤية عمل عربي باقتباس من مسلسلي المفضل.
(ملاحظة: شاهدت النسخة الأمريكية فقط، ووقُعت في حبها بعد الإنتهاء منها في يوم 16 سبتمبر سنة 2015)
فكان لدي فضول وتساؤلات تُجول بخاطري بعقلي وهي:-
- " كيف ستكون شخصية مايكل سكوت، وكذلك دوايت "
- " العلاقة بين شخصيات جيم وبام كيف بتكون بالنكهة والقالب السعودي؟"
- ما مستوى قوة النكات؟ وهل هناك أي حدود؟" أعني مثل ما ورد في: الحلقة الثانية من الموسم الأول (النسخة الأمريكية)
مع أول عرض كان مبشرًا بالخير حقيقة، والسبب واضح وضوح الشمس وهو
تحويل قوالب الحوارات والنكات إلى النمط السعودي فأصبح العمل مناسبًا لنا ولثقافتنا مع الحفاظ على أصول العمل وأساسه، لكنّه مع ذلك يظل يحافظ على قدرٍ من التشويق، وإن كان مشوبًا بقلقٍ خفيف.
واخيرًا في يوم 2 ديسمبر 2022 توفرت أخر حلقتين على منصة شاهد وكانت الحلقة العاشرة هي الأخيرة.
ومثل هذه المقدمة إيجابية دعوني ابدأ اولًا بالإيجابيات:-
أستاذ مالك يستحق كوب بعنوان أرهب مايكل سكوت
أداء المدير العام الأستاذ مالك، الذي جسده صالح أبو عمره، كان من أبرز محاور العمل. لم يكتفِ بتقديم الدور بإتقان لافت، بل جاء النص نفسه داعمًا له، إذ حاول بذكاء أن يوازي شخصية مايكل سكوت الشهيرة، لكن دون الوقوع في فخ التقليد الأعمى أو الاكتفاء بترجمة واقتباس الحوارات من الإنجليزية إلى العربية. ما حدث كان أبعد من ذلك: إعادة صياغة الشخصية وتطويعها لتناسب الثقافة السعودية، بحيث تتحول إلى نسخة محلية حقيقية وواقعية. وهذه النقطة بالتحديد تستحق نقاشًا منفصلًا لما لها من أهمية في نجاح العمل.
ما ميّز الأستاذ مالك أيضًا هو انعكاسه لشخصيات المديرين الذين نصادفهم في الواقع: "مدير يحاول أن يبدو كول"، أو "مدير يتظاهر بخدمتك بينما يخدم نفسه بالأساس"، كل ذلك مع الحفاظ على جوهر شخصية *مايكل سكوت* وصفاته الأساسية.
وبالطبع، لم يكن ليستطيع حمل العمل وحده؛ فالشخصيات الرئيسية دائمًا ما تحتاج إلى دعم الشخصيات المساعدة. وهنا تكمن جمالية التكوين، إذ تبرز اللوحة الفنية الكاملة حين تتداخل أدوار الممثلين المساندين، لتمنح النص تنوعًا وتوازنًا، وتفتح المجال أمام لحظات تضيف عمقًا وثراءً للكوميديا والدراما معًا.
طلال ونضّال هم روح المرح المكتب
طلال ونضّال هم روح المرح في المكتب، الثنائي الذي يخلق التوازن بين العبث والجدية. ففي كل بيئة عمل أو دراسة، لا بد أن تجد شخصين على خلاف دائم، لكن مشاهدتهما معًا تصبح مصدرًا للمتعة، لأن المواقف الطريفة التي تنشأ من صدامهما تضفي حيوية خاصة.
هذا المفهوم ظهر بوضوح في النسخة الأمريكية من خلال علاقة *جيم* و*دوايت*، والآن نراه متجسدًا في النسخة السعودية عبر طلال ونضّال. النكات بينهما جاءت عفوية ومسلية، مثل مشهد "الدباسة داخل الجيلو" — رغم أنها مزحة كلاسيكية معروفة، إلا أن إعادة تقديمها في السياق المحلي كان مقبولًا وأضفى لمسة مألوفة.
لكن ما يجعل الأمر أكثر تشويقًا هو إمكانية تطور هذه العلاقة في المواسم المقبلة، كما حدث في النسخة الأصلية، حيث بدأ الصراع بين الشخصيتين بالكره والعداء الظاهر، ثم تحول تدريجيًا إلى علاقة معقدة يتخللها احترام وفهم متبادل رغم الخلافات. لذلك، أرى أن هذا الثنائي لديه مساحة كبيرة للنمو الدرامي والكوميدي، وأتطلع لرؤية كيف سيتطور التفاعل بينهما ليشكل "الخلطة العجيبة" التي تجمع بين الحب والكره في آن واحد.
تابعها، حبّها واقتبسها صح، لكن لا تنسخها!
الأزمة التي تلي أزمة الوجودية والعدمية، هي أزمة فن الاقتباس وكيفية ممارسته. ولعل فيلم اقتباس
(2002 Adaptation) مثال بارز على عمل تناول إشكالية الاقتباس بحد ذاته، قبل أن ينزلق إلى مسار غرائبي يكشف تعقيدات العملية الإبداعية.
الاقتباس هو محاولة الكاتب والمبدع لنقل الإحساس ذاته بما يتناسب مع الثقافة المحلية. فلو اكتفينا بترجمة نكتة أمريكية إلى العربية دون أي تعديل، سنقع في فخ "النسخ واللصق" لا في فن الاقتباس. بينما القيمة الحقيقية للاقتباس تكمن في إعادة صياغة النكتة أو الموقف بما يتماشى مع ذائقة الجمهور وثقافته، ليشعر المتلقي أنها خرجت من بيئته وليست دخيلة عليها.
ولتوضيح ذلك بشكل عملي، يمكن العودة إلى مقارنة بسيطة بين النسختين الأمريكية والسعودية من المكتب: ففي الموسم الأول، الحلقة الخامسة من النسخة الأمريكية، نرى مباراة كرة سلة بين فريق المكتب وفريق المستودع. لكن في النسخة السعودية، تحوّل المشهد إلى مباراة كرة قدم — وهي رياضة أكثر التصاقًا بثقافة الجمهور المحلي. لو تُرك المشهد كما هو (كرة سلة) لكان مجرد "نسخ لصق" مع ترجمة الحوار، لكن التعديل جعله طبيعيًا ومُقنعًا، وأقرب لتجربة المشاهد.
مثال آخر كانت في أحد الحلقات التي نالت إعجابي، كانت عن ستيكرات الواتساب وهي الأكثر استخداماً في قروبات المحادثات، نرى شخصية المدير العام الأستاذ مالك تعامل معها بطريقة مضحكة تشوبها بعض المواقف المحرجة، ومن المؤكد إنك تتساءل لماذا نشعر بالإحراج في بعض المرات ونحن نشاهد هذا العمل؟!.
ما سبب وجود المواقف المحرجة ؟
في الحقيقة، لو شاهدت الموسم الأول من النسخة الأمريكية حتى نهايته، ستجد نفسك تقع في حب المسلسل ابتداءً من الموسم الثاني لا من الأول. فواحدة من أكثر النصائح شيوعًا هي أن تواصل المشاهدة ولا تجعل الموسم الأول يُفسد عليك تجربة العمل، إذ قد ينفِّر البعض بسبب كثرة المواقف المحرجة فيه. ومن الطبيعي أن يكون الموسم الأول مزيجًا من الكوميديا والإحراج، فهو في النهاية مقتبس عن نسخة أخرى ولم يتبلور بعد كعمل أصيل.
لكن أين البقية؟ هل هم معنا فعلًا أم عالقون في عالمٍ موازٍ؟
قد يظن البعض أنني كنت متفائلًا أكثر من اللازم، لكن هذه النقطة بالذات هي أكثر ما أثار استيائي من العمل: كتابة بقية الشخصيات (باستثناء مالك وطلال ونضال). فطوال الحلقات، يمكن عدّ كلماتهم على أصابع اليد الواحدة، دون أي دوافع تُذكر أو مساهمة حقيقية في صناعة الأحداث أو دفع القصة إلى الأمام.
ولو افترضنا وجود موسم ثانٍ، فمن الضروري أن تُمنح هذه الشخصيات مساحة لتوليد أحداث خاصة بها، بينما يتولى الثلاثي (مالك، طلال، نضال) دفع تلك الأحداث بمواهبهم وحضورهم المميز.
هل المكتب النسخة السعودية عمل جرى اقتباسه بشكل سيء؟
الإجابة : لا، ومتشوق لرؤية التحدي القادم في الموسم الثاني إن شاء الله.