تميل نفسيتي دائمًا لعدم الاستقرار، يصعب عليّ أن أشعر بالرضا، كما يصعب عليّ النوم ليلاً، عادة لا أُعبّر عن حالة عدم الرضا، ولا أخبر أحدًا به، وبعد نحو ثلاثين عامًا في الحياة، أدركت صعوبة وجود مَن يفهم ما أشعر به لأحكي له.
عدم الرضا وعدم الحكي لا يعنيان استسلامي لحالة دماغي السلبية، ولا ملاذ آخر لي -بخلاف التسكع في شوارع الإسكندرية- إلا مشاهدة الأفلام. في أحيان كثيرة أشاهدها من باب الاستهلاك، أو صوت في الخليفة يؤنسني، أو فضول لرؤية فيلم محدد، وفي أحيان أخرى أشعر أنني بحاجة إلى مشاهدة هذا الفيلم أو ذاك في التو.
شعرت أنني في أشد الحاجة إلى مشاهدة فيلم «المحطة» (2004) The Terminal للممثل الأمريكي توم هانكس، الذي تربطني به نوستالجيا بدأت من مشاهدة فيلم Big عندما كنت طفلاً، ولا تزال تلازمني وتدعوني لإعادة مشاهدة أفلام أخرى مثل «فورست غامب» (1994) Forrest Gump و«منبوذ» (2000) Cast Away وغيرها من أفلام أحبها له.
وعلى الرغم من أن «المحطة» فيلم كوميدي خفيف، فإنه يُعرّي مأساة جميع الناس في الحياة على طريقة الأديب الفرنسي ألبير كامو، بقوله إن ثمة فجوة بين ما أريد، وما هو متاح1. يسافر نافورسكي من دولة كراكوزيا الخيالية إلى أمريكا، من أجل أن يحصل على توقيع عازف ساكسوفون في فرقة جاز، محققًا أمنية والده الذي تُوفي قبل ما أن يحققها.
وعلى الرغم من بساطة ما يريد، فإنه يصبح غير متاح، بسبب حرب واضطرابات سياسية في بلاده، أدت إلى قطع العلاقات مع الولايات المتحدة، ما يجعله بلا بلد بالنسبة إلى القانون الأمريكي، ولا يمكنه العبور من مطار جون كينيدي إلى مدينة نيويورك، كما لا يمكن ترحيله، فيكون عليه البقاء في صالة المطار.
والفيلم مستوحى من قصة حقيقية لرجل إيراني، عاش لمدة 18 عامًا في مطار شارل ديغول بباريس، يُدعى مهران كريمي ناصري، عاش في المبنى رقم 1 بالمطار من عام 1988 حتى عام 2006، في البداية لافتقاده أوراق الإقامة القانونية، إلا أنه فيما بعد فضّل البقاء باختياره.
وأما عن نافورسكي بطل الفيلم، فإنه يمتلك سمات شخصية تُمكّنه من مواجهة أصعب مواقف الحياة؛ يعلم جيدًا حدود قدرته، لا ينفعل، يتقبل قذارة العالم بهدوء، نظرًا لأنه لا يمكن تغييرها أو محوها. إنه يقبل الحياة كما هي، كما يقبل الأشخاص والمواقف على الشاكلة نفسها.
يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، أن الطرق الممهدة مع الحداثة أفسدت الإنسان2، الذي كان يسير ويتنقل على طرق وعرة تشبه الحياة، ما جعل الإنسان الحديث أكثر تذمرًا، لاعتقاده أن الأيام يمكن أن تكون مثل المسير في الطرقات المعاصرة. إلا أن نافورسكي يقابل أيَّ كمٍّ من العوائق والصعاب برضا شديد وقبول.
إنه نوع من الأشخاص الذين يُسهّلون الحياة على الآخرين، معطاء ويساعد كل الناس ويمرر المواقف بسلاسة ويُسر دون تعقيد، حتى عندما يُعجَب بمضيفة الطيران، يبدو رجلًا رومانسيًا خائبًا بلا خطة، وغير قادر على فرض نفسه عليها، لدرجة أنها تخبره أنها اعتادت على رجال أكثر جراءة ومتحرشين، ولم تلتقِ بمن هم مثله.
يشبه في قصة حبه مغني البوب الإنجليزي جيمس بلانت في أغنية «أنتِ جميلة» You're Beautiful، فهو يحب امرأة كل ما يعرف عنها أنها جميلة، يكتفي بمراقبتها وتتبعها وهي تختفي بين الحشود في الطرقات، دون خطة واضحة في عقله للتقرب إليها.
أمثال نافورسكي في الحياة باهتون، يمرون بجوار جميع الناس دون لفت أي انتباه، وعندما يحاولون لفت الانتباه تبرز غرابة أطوارهم، لا يبدو ابن كراكوزيا جذابًا بقدر ما هو غريب، يدفع المضيفة لاكتشافه لمجرد الاكتشاف.
إنه يمنح العالم حوله نوعًا من الاستقرار، إلا أنه غير قادر على الاستقرار، ما شكّل دوافعه في أن ينجذب لامراة عابرة، ومن مجرد ابتسامة، تحذره وتخبره أن عليها أن تغادر، وأن هذه قصة حياتها، فيرد أن عليه أن يبقى وهذه قصة حياته.
على الرغم من العشاء الرومانسي وقضاء الوقت ومقابلات صالة المطار بينهما ومساعدة المضيفة لنافورسكي في الحصول على تأشيرة يوم واحد لزيارة نيويورك، فإنها تودّعه وترحل؛ لم يمثل نافورسكي لها إلا محطة راحة من رحلاتها وملاحقتها من قِبَل رجال لا يهتمون في المقام الأول بها، كان لحظة تمرد على رغباتها التي لا تُحقق، ومن ثم كان عليها العودة لتعقبها ثانية فيما بعد.
يحزُنُ قلبُه من عدم الحصول على المرأة العابرة، إلا أنه -مثل عادته- يقابل هذا بهدوء. يخسر قلبُه حبًا محتملًا، ولكنه يحقق هدفه الأساسي، يدخل إلى نيوريوك، ويحصل على التوقيع من عازف الساكسوفون.
تبدو نهاية الفيلم ذات رسالة إيجابية في قبول الحياة، على عكس القصة الحقيقية للسيد ناصري، الذي فرّ من بلاده طالبًا اللجوء، ثم سُرقت أوراق ثبوتيته في المطار، وبعد أن حُلّت مشكلة الأوراق تمسك بالبقاء في صالة الانتظار، مع حزم من أوراق A4 داخل صناديق، تحوي يومياته.
يُعتقد أن تمسك ناصري بالبقاء في المطار وعدم المغادرة، كان خوفًا من مواجهة العالم الخارجي، على عكس نافورسكي، الذي لم يفر من بلاده، فقد رفض تقديم طلب اللجوء حينما أصبحت بلاده في حالة حرب، بل كان يرغب في أن يُنهي مهتمه ويعود لها.
بمقارنة قصة الفيلم والقصة الحقيقية، نجد أنفسنا أمام سؤال سيطر على بال وكتابات عدد كبير من الكُتّاب الوجوديين، أمثال كامو ودولوز وويلسون، حول إذا ما كان علينا أن نقول نعم أم لا للحياة.
الإجابة ليست كلمة نختارها، بقدر ما هي حالة قبول أو تذمر تسيطر علينا. يعتقد الألماني فريدريك نيتشه أن الحياة تعمل ضمن آلية أن يكون الإنسان فعلاً أو رد فعل، وحين يكون فعلاً فهو ذو وضع إيجابي فاعل، في حين إذا ما كان رد فعل، فهو في حالة ارتكاسية سلبية في الحياة.
ووفقًا للفيلسوف الألماني، الفكر يلغي الحياة، كما أن الحياة تلغي الفكر3، بما يعني أن علينا خوض الحياة كنزول البحر، ننجرف مع التيار (القدر)، لأننا إذا جلسنا نفكر مثل السيد ناصري، لن نفعل أي شيء، بما أن كلَ فعلٍ تلاحقه إمكانيةُ هزيمةٍ قادمة، ما يجعل نافورسكي يمثل إمكانيةً لعيش الحياة، بأقل قدر من التفكير، وملاحقة الفعل تلو الفعل، تجسيدًا لأن نقول نعم للحياة.
بعد أن أنهيت الفيلم شعرت أنني مزيج من ناصري ونافوركسي، وكلما جذبني الأول لهوة الضياع، حاولت البحث عن الثاني والإمساك به.