"لماذا يا ماثيو؟" أفضل ما في الشباب، السينما في خدمة الذاكرة.

October 27, 2022

أحب الأشياء التي تتشابك، الأشياء التي تقدم لك مكنونات جمالية متجددة لا تتوقف عن إرباكك، الأشياء التي تقطف من كل فن أجوده، التي لا تعترف بالتصنيف، والتي تتركك بمجرد الإنتهاء منها أكثر عطشًا، فتعود إليها من جديد مصغيًا ومتمنيًا أن يكون قد فاتك أمرٌ ما؛ لتجتر بالتالي تلك المتعة اللحظية التي عشتها مع تفاصيل تلك الأشياء. الفِلم الإيطالي «أفضل ما في الشباب»، هو من تلك الأعمال التي تُخلَّد كعمل جامع يمنحك المتعة التي قد تبحث عنها في شتى أصناف الفنون، تشاهده كتحفة سينمائية وتقرأه كرواية وتستشعره كقصيدة وتنهل من موسيقاه كأوبرا.

  • عائلة كاراتي، بورتريه إيطاليا

يفتتح تولستوي رائعته آنا كارنينا بهذه العبارة «كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة». وهي العبارة التي تختصر مصير عائلة كاراتي، فمهما تشابهت لحظات السعادة التي جمعت أفرادها؛ فكل واحد منهم تفرد بعد ذلك في تعاسته الخاصة التي في النهاية نسجت تعاسة عائلة بل وطن بأكمله.

يحكي الفلم إذن قصة عائلة إيطالية عادية، نمضي مع أفرادها في رحلة تستغرق أربعة عقود حول إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تزامنًا مع الطفرة الاقتصادية الإيطالية. عائلة تتكون من أب طموح وأم أستاذة تتحدث مع طلبتها أكثر مما تفعل مع أبنائها والأختين، ثم الأخوين ماثيو ونيكولا، اللذين سيشكلان خطين متوازيين في الحكاية، ومن خلال حياتهما التي تتجاذبها الأحداث الشخصية والعامة سنتعرف على جيل ما بعد الحرب، جيل حالم بالتغيير داخل وسط مليء بالألغام، لم يدخل حربًا ولم ينخرط في مقاومة لكنه وجد نفسه مضطرًا لإصلاح بلد منهك. والأحداث المتتالية التي ستمر بها البلاد على مدى أربعة عقود ستُنهِك الأبطال وتنهك معهم المشاهد.

لم يستخدم المخرج الأحداث التاريخية إلا كخلفية ارتكاز تتشكل حولها سنوات المراهقة والشباب والكهولة، لم يعالجها أو يقدم رؤية تجاهها؛ بل تركها تنساب بسلاسة عبر أيام الأبطال. وقد كان ذكيًا في اختياره لتلك الأحداث التي تعتبر مصيرية في تاريخ إيطاليا المعاصر، واستهلها بفيضان فلورنسا سنة (1966)، وألحقها بالمواجهات الطلابية مع الشرطة ثم الأزمة السياسية التي عصفت بالبلد سنوات السبعينيات، السنوات التي عُرفت بسنوات الرصاص وشهدت اغتيال «ألدو مورو» زعيم حزب الديمقراطية المسيحية من طرف الألوية الحمراء سنة(1978). وتنتهي هذه الأحداث بمذبحة كاباتشي التي ذهب ضحيتها القاضي «جيوفاني فالكون» المشهور بمحاكمة أعضاء المافيا الصقلية «كوزا نوسترا». ومن خلال نموذج أسرة كاراتي سنتخيل ماهية المجتمع الإيطالي في ظل هذه الأحداث؛ وقد تمخضت عنها أسئلة سياسة واجتماعية واقتصادية راهنة، خصوصًا مع التحولات التي عرفها المجتمع وغيرت دِيمُغرافيتَه بفعل الهجرة نحو المدن الصناعية، وكان من أبرز تداعياتها أن حولته من مجتمع فلاحي وما قبل صناعي إلى مجتمع رأسمالي تنهشه الأنانية والإفراط في الاستهلاك.

استطاع المخرج بمهارة فائقة أن يضع مسافة بينه وبين الأبطال، فلم يتدخل لصالح شخصية دون أخرى، بل جعل كل واحد منهم يواجه مصيره ويعيش هواجسه، ويعكس الأيديولوجية التي يؤمن بها. جمعت الأخوين كاراتي نفس الأحلام ونفس الأصدقاء والآمال، وجمعهما حب أخوي دافئ يعوض قليلًا جفاء الأب، لكنها في لحظة فاصلة ستدفع كلًّا منهما نحو مسار مختلف جذري عما كانا يخططان له، وهذه اللحظة الفاصلة تحتاج وقفة لأنها اللحظة التي يرتكز عليها الفيلم ككل.

  • إيطاليا، النظرة التائهة

مع بداية الفلم سنتعرف على خطط الأخوين كاراتي؛ ماثيو القارئ الحصيف والعاشق للأدب الحالم بإتمام دراسته في جامعة أدبية، لكنه يتعثر في عبور مباراة القبول، حيث كانت رؤيته للأدب تختلف جذريًا عن رؤية المؤسسة الأكاديمية المحافظة. بينما نشاهد نيكولا ينجح في الحصول على دبلوم في الطب. لكن، وبطريقة غريبة ينصحه أستاذه بالهجرة فيقول: «لو لديك أي طموح، غادر إيطاليا، اذهب إلى باريس أو لندن، إيطاليا بلد جميل، لكن غير ذي نفع، مصيره الموت ما دامت تحكمه الديناصورات. فيسأله نيكولا: ولماذا تبقى أنت؟، فيؤكد الأستاذ: أنا أحد الديناصورات التي يجب تدميرها».

هيمنة المؤسسة التقليدية الرافضة للتجديد ستزداد توحشًا مع لقاء الأخوين مع جيورجيا، فتاة جميلة ووحيدة، تعاني من اضطراب نفسي وتعالج في مستشفى الأمراض العقلية وفق مبادئ علاجية غير دوائية قوامها الصعق الكهربائي تغتالها على مهل وتزيد من حدة وضعها. سيكتشف ماثيو معاناة جيورجيا، وسيقرر دون تردد أن يخرجها من المؤسسة ويعيدها لأسرتها، مُلغيًا بالتالي مخططاته مع أخيه للسفر.

وجد الأخوان نفسيهما متورطين في تهريب فتاة لا يملكانِ أية ولاية تجاهها، لكن هذا لم يحبطهما. وفي إحدى محطات الانتظار تطلب جيورجيا من ماثيو أن يشغل لها أغنية، فتختار أغنية "لمن" لفاوستو ليال، الأغنية ذات كلمات محبطة تناجي شخصًا تخلى عن محبوبته وذهب ولم يعد، فماتت ابتسامتها وأوقفت حياتها تنتظره. هي كلمات تتماهى ونظرة جيورجيا التائهة، نظرات رغم ضعفها تشِيْ بروح متقدة وذكية وحالمة، نظرات تستنطق من حولها وتعاتبه.

شكلت جيورجيا في سياق الفلم امرأة على هامش الأحداث، لم يكن لها قصة وحبكة تخصها، وجدت كخلفية ترافق الأبطال، شبيهة بخلفية الأحداث التاريخية، كانت بطريقة ما تجسد  صورة من «إيطاليا توريتا» المرأة التي ترمز للأمة الإيطالية. وتجسدت بالفلم كبلد تعاني من ثقل المؤسسات والمآسي التي تشبه الصعقات الكهربائية، تخدرها وتطمع في صمتها دون تغيير جدي، لقاء جيورجيا مع الأخوين كان بمثابة نداء استغاثة من إيطاليا لجيل الشباب، أن ينتفض وينقذ شيئًا ما من هذا البلد وأحلامه. وهذا ما دفع ماثيو إلى الانخراط في الجيش عوض أن يكمل دراسته في الأدب الذي يحبه، بينما نيكولا وبعد رحلة قصيرة يعود لينقذ جيورجيا وغيرها من قاطني مستشفيات الأمراض العقلية والنفسية ويحاول بالتالي تدمير الديناصورات ويعتني بالصغار أملًا في غد مشرق للبلد.

  • السينما كبلاغةٍ شِعرية

اختار المخرج ماركو توليو جيوردانا لفلمه عنوانًا شِعريًا مقتبسًا من أهم أعمال الفنان المتعدد بيير باولو بازوليني «La meglio gioventù». وهو الديوان الذي جمع فيه أشعاره باللهجة الفريولية تمجيدًا للهجة أمه التي ربطته بها علاقة مميزة. ويقدم بازوليني من خلال هذا الديوان قصائد تصور مشاهد قاتمة من سيرته ورؤيته للحياة والوجود، ولم يكن هذا التماهي غريبًا على جيوردانا، فعلاقته مع بازوليني تعدت الشعر إلى السينما، وقدم من خلال فلمه رؤية بازوليني للسينما واللغة السينمائية تحديدًا، حيث يرى بازوليني أن السينما ليست سوى اللغة المكتوبة للواقع، والواقع هو بطبيعته سينما، وسينمائية هذا الواقع هي الأولى بالتعهد، وهي هنا تتجسد كما أفلام بازوليني في لغة شعرية تهرب من القصيدة وتستطيع الوجود دونها كما يقول نرفال.

تجلت فنية جيوردانا الشعرية من خلال مشاهدة المنحوتة كفصول روائية عبّرت عن المرئي وأضمرت بين ثناياها اللامرئي. ومن خلال السردية البطيئة للفلم وتجاوزها الست ساعات استطاع المخرج أن يقدم متتاليات شعرية مبنية على المكان والزمن في ارتباطهما بالشخصيات. وهي متتاليات تعتمد على علامات فارقة يستنبطها المشاهد من تفاصيل مرافقة للشخصيات وتفاعلاتها، كالتلفاز الذي يفتتح به الفلم وسيبقى علامة ثابتة على مدى فصول العمل، وكالأغنية التي شغلها ماثيو لجورجيا وهما على سفر، ورأينا بعضًا من رمزيتها سابقًا.

ومن أجمل هذه الصور الشعرية التي علقت بذاكرتي ولم تبارحها، الشعرية التي تجسدت في مشهد عزف جوليا لسوناتة موزارت K310 على بيانو مهجور بعد مرور الفيضان، اكتست أنغام المعزوفة بحزن رفيع وحنينٍ جارف يضاهي حزن موزارت متذكرًا والدته المتوفاة وهو يكتب هذه السوناتة، حزن تجلى في وجوه المتطوعين وهم مندفعون لإنقاذ إرثهم الثقافي، من تحف فنية وكتب نادرة، اختيار هذه السوناتة كان موفقًا ومبدعًا رغم تناقضه مع الخراب الذي تسبب فيه الفيضان. بدا المشهد بكائيًا، وكأنه لوحة فنية أو قصيدة رثائية لفلورانس ولإيطاليا، بلدٌ بدأ يفقد أهم علاماته البارزة على مر التاريخ؛ وهي الثقافة والفنون لصالح مجتمع اقتصادي جديد.

ففي هذه التفاصيل الصغيرة تظهر الصور الشعرية التي تفيض بمكنونات الأبطال والتي يعجزون عن التعبير عنها بلغة واضحة. فالصورة تقوم هنا مقام الكلام وتحتفي بالشخصيات وفق عالمٍ متكامل يقدمها كمعطى إنساني مفتوح على كل التأويلات والقراءات، ويصبح معها المشاهد كما وصفه تاركوفسكي فعالًا في عملية اكتشاف الحياة بلا عون من الاستنتاجات الجاهزة التي يقدمها المؤلف أو المخرج.

وتصل البلاغة الشعرية لهذا الفلم أقصاها مع نهايته؛ حيث يعود المخرج مجددًا إلى بازوليني ويستقي منه فكرة جميلة للنهاية قائمة على مشهد بصري نجد فيه جيلًا جديدًا منفتحًا على كل الاحتمالات؛ أندريا الحفيد الذي ترك إيطاليا وفي قلبه متسعٌ من الحب والمغامرة والأمل، وهذا الأمل سطع لأشهر متعددة في صدر بازوليني، ودفعه سنة (1975) أيْ بعد عقدين من إصدار ديوانه «أفضل ما في الشباب»، وقبل وفاته التراجيدية الغامضة، بتجديد ديوانه وتغيير بعض من قصائده واختيار عنوان جديد ليصالح به الماضي «الشباب الجديد». هذه المفارقة جعلتني أرى فيلم "أفضل ما في الشباب" تمجيدًا لبازوليني، الشاعر الذي لم يرضخ كماثيو لقواعد الحياة، وكره هذا الانمساخ الذي يعيشه المجتمع الإيطالي البعيد عن روح الإيطالية القديمة، والكاره للبرجوازية والمستغرق في همه الوطني والكوني.

قد يخلق فيلم أفضل ما في الشباب معيارًا جديدًا لتقييم الأفلام -بإيقاعه البطيء الذي يتجاوز كما ذكرنا الست ساعات ويسرد إحدى عشرة مرحلة زمنية-؛ معيارًا قائمًا على نظرة عميقة للسينما ليس كمنتج استهلاكي، بل كأداة تواصل تنفذ كما يؤكد بيرغمان إلى وعينا ووجداننا مباشرة وتلمس مشاعرنا ونشعر بألفة تجمعنا بأبطال الفيلم. ولعل المشهد التراجيدي الأخير لماثيو أبلغ المشاهد تفاعلًا؛ والتي جعلت أغلبنا يقفز من مقعده مصدومًا حائرًا. مشهد ما زال يثير في أنفسنا حزنًا وسؤالًا مُلحًّا: "لماذا يا ماثيو؟".

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى