لماذا نحبُّ الأفلام الإيرانيَّة ونكره مشاهدتها؟

قبل عدَّة أسابيع، وبعد يومٍ طويلٍ وشاقٍّ ومنهِكٍ في العمل، عدتُ إلى بيتي وبدأت أمارس عادتي اليوميَّة - التي يمكنُ وصفها بالكسولة - بإمساكِ الريموت كنترول والبحث عن شيءٍ لمشاهدته. تنقَّلت بين Netflix وَ Amazon Prime وَ OSN، حتى رأيتُ في نهاية المطاف إعلان الفيلم الإيراني «إخوة ليلى» (Leila's Brothers - 2022). وبعد فترةٍ طويلةٍ من التسويف والتأجيل، قرَّرت أنَّها اللحظة المناسبة لمشاهدته، وكما هي العادة دائمًا، أحضرتُ عدَّة قوارير مياه وقرَّبت صحن المكسَّرات من مقعدي الأرضي، ووسطَ صمت شقَّتي وظلام الغرفة التي أنا فيها، بدأتُ بالمشاهدة. 

ساعتانِ وثلاثة أرباع الساعة مرَّت ببطءٍ شديد، وانتهى الفيلم بتوقُّف الزمن، بنهاية الأمل وولادةٍ جديدةٍ لليأس في زوايا قلبي المحطَّم. شعرتُ بضيقٍ شديد، كما لو أطبق على جسدي سقف الغرفة. بكيتُ حتى انتحبت، كان الألم يسكن أطراف جسدي كلَّها. طَوال الفيلم كنت مثل باحثٍ عن بابٍ أو نافذةٍ داخل غرفةٍ مظلمةٍ تمامًا، وحينما اهتديت إليه أخيرًا في المشهد الختامي للفيلم، اكتشفت بعد السقوط وفوات الأوان أنَّه يؤدِّي إلى هاويةٍ بلا قرار. وظلَّ السؤال عالقًا: لماذا نخوض هذه التجربة المازوخيَّة كلَّ مرّة؟! ما الجدوى من مشاهدة هذا النوع من الأفلام؟! هل نحن بحاجةٍ إلى عدسةٍ تضخِّم آلامنا لتصبح بهذا الحجم الهائل؟!

الشعورُ بالضيق والبكاء، الإحساس العميق بالألم، وحتى موقفي الممتعض من تضخيم الواقع لدرجة تقاطعه معي عند نقاط تماسٍ عديدةٍ استدعت إليَّ آلامي ومصاعب حياتي الشخصيَّة… جميعها أمورٌ لم يكن من شأنِها تغيير حقيقة أنَّني وجدته فيلمًا عظيمًا يستحقُّ المشاهدة، وفنِّيًا هو مصنوعٌ بإتقانٍ ومكتوبٌ بدقَّةٍ لا تهمل التفاصيل بل تحتويها. وعند تأمُّل هذا التناقض بين الشعور القاسي الذي ألمَّ بي وبين حقيقة أنَّني أحببته بطريقةٍ ما، استخلصت أنَّني أحبُّ الأفلام الإيرانيَّة وأكره مشاهدتها! تأرجحٌ بين طرفي نقيض.

الفيلم التزم بعناصر صناعة السينما الإيرانيَّة الواقعيَّة: لقطاتٌ طويلةٌ بكاميرا لا تتحرَّك إلا ببطء، حواراتٌ طويلةٌ كذلك، وغيابٌ للخلفيَّات الموسيقيَّة. حالةٌ دائمةٌ من التأكيد على الواقع واستحضاره بكلِّ الطرق والوسائل الممكنة، ليس فقط عبر القصَّة والأحداث التي تشبه حيواتٍ نعرفها، إنَّما أيضًا من خلال العناصر الفنيَّة. أنت لا تشاهد قصَّةً خياليَّة، أنت تشاهد الحياة كما هي. 

فيلم سعيد روستائي أعادني إلى إرثٍ طويلٍ من مشاهدة الأفلام الإيرانيَّة، بدأت بتتبُّع أصغر فرهدي ومن ثمَّ التعرُّف على محسن مخملباف، وبعد ذلك التعرُّف على سعيد روستائي وعلي عبَّاسي وآخرين. ثلَّة من الواقعيِّين شديدي الالتصاق بالحياة وآلامها، كاميراتهم هي أقرب إلى أن تكون عيونًا طبيعيَّةً منها إلى عدساتٍ تصوِّر أفلامًا لشاشات السينما. أجدُ الشبه بين السينما الإيرانيَّة وموجة الواقعيَّة الجديدة في إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية كبيرًا. والحديث هنا ليس عن الشكل الجماليِّ للفيلم، ولا العناصر الفنيَّة التي تكوِّنه، إنَّما عن طريقة تناول الواقع ومحاكاته سينمائيًّا. هنا وهناك نجدُ الواقع ضخمًا جدًا، يسيطر على كافَّة أرجاء الفيلم، هو الشخصيَّة الرئيسيَّة، وهو نفسه الذي يتلاعب بالشخصيَّات دون أن يترك لها فرصةً للتحرُّكِ خارج مساراته. سينما تمثِّل الحياة بكلِّ حدودها وأبوابها المغلقة وآمالها المهزومة وخيالها المحدود. وانعكاس هذا النوع من السينما على المشاهد يكون قاسيًا على مستوياتٍ عديدة، فموت الأمل، ونهاية أحلام الشخصيات، تذكيرٌ دائمٌ له بآمالهِ المهدرة وأحلامه الضائعة. سينما تؤكِّد لمشاهدها أن لا مفر من المصير، حتى في صالات العرض المظلمة، والآمال الطفوليَّة بعيشِ لحظةٍ سعيدةٍ لن تتحقَّق. 

في إطار هذا التقاطع بين إيران الثورة الإسلاميَّة وإيطاليا ما بعد الحرب العالميَّة، علينا العودة إلى إيتالو كالفينو، الذي كتب ورقةً تأمُّلية بعنوان «سيرة ذاتية لمشاهد» واصفًا الأثر الذي تركته سينما الواقعيَّة الجديدة في المشاهد نفسه: «الحياة الرتيبة والمبتذلة في الريف دفعتني نحو السينما. ماذا كانت السينما تمثِّل بالنسبة لي حينها؟ المسافة. كانت السينما إجابة عن حاجتي إلى المسافة، إلى تمديد الواقع وتوسيع أبعاده لتكون غير قابلة للقياس، مجرَّدة مثل كياناتٍ هندسيَّةٍ لكنَّها واقعيَّة، مليئةٌ بوجوهٍ ومواقف وأجواء، تنسج مع عالم التجربة المباشرة شبكةً من العلاقات. في فترة ما بعد الحرب تمَّت صناعة ومشاهدة ومناقشة السينما بطريقةٍ مختلفةٍ تمامًا. لقد غيرت السينما الإيطاليَّة ما بعد الحرب نظرتنا للعالم، لكنها لم تقدِّم إلَّا عالمًا واحدًا. لم يعد هناك عالمان: عالمُ الشاشة المضيئة وآخر مختلفٌ تمامًا في الخارج، اختفت القاعة المظلمة وباتت الشاشة عدسة تكبيرٍ تمَّ تثبيتها فوق حياتِنا اليومية، ترغمنا على التمعُّن فيها دون توقُّف. إن لهذه الوظيفة منفعتها التي ربَّما تكون صغيرةً أو كبيرة، غير أنَّها لا تشبع حاجة البشر الاجتماعيَّة للمسافات». 

إذن لماذا نحبُّ الأفلام الإيرانية ونكره مشاهدتها؟ ليس فقط لأنَّها قتلت المسافة التي تمنحنا إياها السينما كما يصفُ كالفينو، إنَّما لأنَّها، إضافة إلى ذلك، أفلامٌ تشبه الحياة، تشبهنا نحن أيضًا، رغمًا عن اختلاف اللغة والثقافة والتباعد السياسي، نجد فيها انعكاسًا لأنفسنا بطرقٍ شتَّى، وكما هو حال الارتباط النفسي المعقَّد الذي نحسُّ به تجاه أنفسنا متردِّدين بين الكراهية والحب، كذلك هو حال تعاطينا مع الحياة والواقع. نحبُّ الحياة لكنَّها تؤلمنا، نركضُ خلف آمالنا وأمانينا رغمًا عن الواقع الذي يلتصق بنا ويفرض علينا قوانينه القاسية. أجل، مع نهاية الأفلام الإيرانيَّة نبكي، مثلما فعلنا بنهاية فيلم «إخوة ليلى» أو فيلم «بطل» (A Hero - 2021) لأصغر فرهدي والأمثلة كثيرة. بكاؤنا ليس إلَّا تعبيرًا عن حبِّ الحياة، واعتراضًا على الألم أو محاولةً لتقبُّله، وإنَّما في أعماق دواخلنا نعرف جميعنا أنَّ هذه سينما تعبِّر عن أصحابها وتعبِّر عنَّا، وتتحدَّث بصوتٍ عالٍ اعتراضًا على الواقع وإن كانت تحاولُ التقاطه بكلِّ ما فيه. 

نحب السينما الإيرانيَّة لأنَّها ما زالت تبحثُ عن شجرة الأمل التي ستنبت من الصخر، ونكره السينما الإيرانيَّة لأنَّها لا تجدُ هذه الشجرة في نهاية رحلة البحث، أليست تشبهنا وتشبه سعينا في الحياة؟!

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى