في المرة الأولى التي يظهر فيها نبيل سرور -المصوِّر الحربي، والرجل الكذوب، وتاجر المخدرات بدوام جزئي- المعروف باسم «أبو النبل»، نراه يعدو وسط نيران القناصة في بيروت ليلتقط ـالصورة التي يحتاجهاـ الصحفي الأمريكي ميتش دوبين. نبيل (يؤدي دوره نبيل إسماعيل) هو أحدُ ثلاث شخصيات رئيسة في فيلم «حروب صغيرة ,1982» للمُخرج اللبناني مارون بغدادي (يُعرض حاليًا على نيتفلكس).
قد يكون بغدادي أشهر مُخرج في لبنان، وهو مؤرخ سينمائي للحرب الأهلية (1975 - 1990) التي دمَّرت البلاد، وقد كرَّس نفسه لهذا الموضوع في أفلامه الخمسة كلها. في الواقع، كانت الحرب مشروع «بغدادي» السينمائي. ولقد سعى إلى تمثيلها مرارًا وتكرارًا، بوصفها سلسلةٍ من الحروب الصغيرة والكبيرة، كما سعى إلى إبراز عبث الحياة في كنفِها.
عُرض فيلم «حروب صغيرة» في مهرجان كان السينمائي عام (1982) تحت فِئة «نظرة ما» (Un Certain Regard)، التي تُسلِّط الضوء على الأفلام المبتكرة. وصوَّر طاقمٌ أمريكي -في عدَّاده المصوِّر السينمائي إدوارد لاكمان- جُلَّ مشاهد هذا الفيلم، وهو طاقم أمَّنه المخرج الأمريكي «فرانسيس فورد كوبولا»، الذي عمل «بغدادي» لحسابه قبل سنوات.
تدور حبكة الفيلم حول علاقة حبِّ من ثلاثة أطراف؛ الطرف الأول هو ثريا (تؤدي دورها زوجة بغدادي ثريا خوري)، وهي مسيحية برجوازية تعيش في بيروت الغربية -التي يصِفها عمّها بأنها «أرضهم»، مُشيرًا إلى جانب الخط الأخضر الذي تقطنه الأغلبية المسلمة- تقيم علاقةٍ مع الطرف الثاني وهو طلال (روجيه حوا)، سلِيل إحدى العائلات اللبنانية الإقطاعية القديمة، الذي يضطرُّ إلى مغادرة بيروت في اتجاه سهل البقاع بعد اختطاف والده، والعودة إلى بيت تُناشده فيه أمّه بأن «ينسى بيروت وأجواءها الفاسدة» ويتحمل مسؤولياته بصفته ربَّ الأسرة.
بعد رحيل طلال، يلتقي نبيل بثُريا ويقع في حبها، ثم يحاول استمالتها بقِصص ملفَّقة عن مآثرِه العسكرية. ونراه في أحد المشاهد يتَّصل بها من حانةٍ باسم «الحلم الأمريكي»، ويطلب من أصدقائه إطلاق بنادقهم فوق صندوق رود ستيوارت الموسيقي ليُوحي إليها أنه في «الجبهة». يَنأى طلال عن ثريا مفضِّلا حُرية المتوحِّد. وفي نوبةٍ من الوهم الحاضِّ على الحرب، الذي يتخلل كل مشاهد الفيلم، تُقرر ثريا خطف رجل أعمال لبناني بارز لمُبادلتِه بوالد طلال وكسب مودَّة هذا الأخير، وتتملَّق لنبيل ليُعينها في سعيها هذا. بعد اختطافهما لرجل الأعمال تحت تهديد السلاح، بمساعدة جماعة نبيل، يأخُذانِه إلى نادٍ مهجور، وهناك تدرك ثريا أنها تحرَّرت أخيرًا من سُلطة طلال ومن سلطة الحرب، فتُطلق لنفسها العنان راقصةً في أرجاء غرفةٍ تنعكس ألوانها على مرايا الحيطان.
ليس هذا المثال الوحيد على نفحة الميلودراما التي تتخلَّل فيلم «حروب صغيرة». في مشهد لاحق، تعبْر ثريا الخط الأخضر وهي ترتدي كعبًا عاليًا وسترة من طراز فريد بيري، وفي نهاية الفيلم، يتنازل الخصمانِ في سوق بيروت، في مشهدٍ يتَّسم بكل السِّمات المميزة للمسلسلات الدرامية العربية. على أن «بغدادي» يُحيل هذه المشاهد إلى كوميديا هجائيةٍ بائسة. فعلى الرَّغم من جرأة نبيل الذكورية، فإنه يظل شخصية مأساوية، تتحدَّر من ذُرية رجال «بغدادي» الذين صدمتهم الحرب وحطَّمتهم. بعد إضاعة نبيل لحُزمةٍ كبيرة من المخدرات، يقع في ورطة مع تجار المخدرات في المدينة. وبِاقتراب أعدائه من الإمساك به، يدخل في حالة من الارتياب، فيقرِّر تصوير نفسه لعرضها في ملصقات الشهداء، ربما لتزييف موته أو ربما للتصالح مع هذا الموت.
يتناول «بغدادي» هذا اليأس بوصفه جزءًا من مشروع أكبر يتوخَّى فهم ردِّ فعل اللبنانيين تجاه الحرب. فمثلاً، في فيلمه السابق «همسات ,1980»، الذي يعد توثيقًا للحياة في زمن الحرب الأهلية، نستمع إلى العديد من الحكايا على لسان مواطنين لبنانيين مختلفين -مزارعون وطلاب وأصحاب فنادق- قَابلتهُم الشاعِرة «ناديا تويني». يُركز فيلم «همسات» على أولئك الذين لم يغادروا، بخلاف فيلم «حروب صغيرة»، الذي يحاول كشف السَّبب الذي دفعهُم للبقاء.
بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس من عام 2020، ألفيت نفسيٌّ أتساءل عن سبب بقاء عائلتي، التي يقطن أغلب أفرادها بيروت، في لبنان. ولم يشغلني هذا التساؤل ردًّا على هذه الحادثة المرعبة بالذات، بل ردًّا على كل ما مرَّت به لبنان على امتداد سنوات.
إن الإجابة التي يقدِّمها فيلم «حروب صغيرة» إجابةٍ شديدةٍ التعقيد. مثل الفيلم الكلاسيكي المناهض للاستعمار «ذكريات التخلف ,1968» للُمخرِج توماس غوتيريز آليا، تبدأ أحداث الفيلم في أحد المطارات، حيث تُودِّع ثريا والدها المُغادر إلى فرنسا. وطوال الفيلم، تُكرَه ثريا على تعليل سبب بقائها: من طبيبها («أخبريني، لم بقيت في بيروت؟»)؛ ومن صديقتها المقربة جويس («سأفتقدك، تعالي معي!»)؛ ومن صديق طلال («وأنت، لماذا تبقين هنا؟»). من جِهتها، تُجيب ثريا: «وماذا في هذا، هل كل من يبقى بطلٌ؟».
إن مفاهيم «البقاء والمغادرة» أفكار شائِعة في سينما ما بعد الحرب الأهلية، غيْر أن «بغدادي» يرى أن الذين يغادرون لا يعودون أبدًا! ما يَخلق شرخًا بين المُغادِر والمُقِيم، بين الحياة في جانب، والحياة في جانب آخر هو في هذه الحالة بيروت. لعلَّ آراء «بغدادي» هنا مستمدّةً من تاريخه الشخصي. ففي فيلم «بيروت يا بيروت ,1975»، وهو أول أفلامه الحَمِيمة، وظَّف «بغدادي» الشخصيات لإبراز تطوره السياسي، مِن لامبالاة الطبقة اللبنانية المسيحية الميسورة التي تلقَّت تعليمًا فرنسيًا إلى روح أكثر ثورية.
لقد نَبذ «بغدادي» ماضيه، فانتقل من بيروت الشرقية إلى بيروت الغربية، حيث أخرج مجموعةً من الأفلام الوثائقية عن الحرب، منها أفلام عن الجنوب؛ مثل «الجنوب بخير طمنونا عنكم ,1976»، و«الأكثرية الصَّامدة ,1976»، و«كلنا للوطن ,1979». غير أن توجُّه بغدادي السياسي توافق فيما بعد مع توجُّه السُلطة الحاكمة، وهكذا وَجَد نفسه منبوذًا من زملائِه الثوريين القدامى. وبحلول منتصف الثمانينيات غادر إلى فرنسا، حيث واصل صِناعة الأفلام من «المنفى».1
تفِيض أفلام بغدادي بمشَاهد جميلة لا تُنسى، مثل مشهد العِراك بكرات الثلج في فيلم «بيروت يا بيروت» أو مشهد المدينة الخَرِبة في فيلم «همسات»، ولكن ما يبرز في فيلم «حروب صغيرة» هو البؤس.
في أحد مشاهد الفيلم الافتتاحية، تجتمع الشخصيات الرئيسية عقِب وفاة صديقهم فؤاد، الذي مات منتحرًا. وخلال اجتماعهم هذا، تُمرَّر صورة لفؤاد، اختار بغدادي أن تكون صورته، وفيما بعد يستذكِر طلال تلك الصورة قائلا: «من المدهش كمُّ التحدي الظَّاهر في عينيه. ومتى؟ وقت أن كان محطمًا ومهزومًا».
تُوفي بغدادي نفسه بعد عشر سنواتٍ فقط، على أثرِ سُقوطه من سلَّم بيته. بالكادِ لمح نهاية الحرب التي استهلكت أعماله، كما أنه لم يعاين عصر «إعادة إعمار» لبنان، الذي تسبب في آلام أكثر. في كتاب المقالات «الطلل الآتي» (The Ruin to Come)، الصادر في عام 2016، يتأمل المفكِّر اللبناني وليد صادق في وفاة بغدادي عام 1993 قائلًا:
«لوهلةٍ من الزمن، حفّز موته ردودًا سياسية من المثقفين اليساريين: لقد أبَّنوه بصفته شهيد ذاكرةٍ ممتدةٍ، قُتل نتيجة تهافت مصطنعٌ على عملية إعادة إعمارٍ بلا ذاكرةٍ، وتأسّوا لفقدانه لأنه كان ضحية خصخصةٍ فظيعة للمؤسسات العامة من قبل البنوك والشركات العابرة للقارات، وأشادوا به لأنه كان مخرجًا سينمائيًا اِنبتر عمله المخلِص في تصوير مدينته المتقلِّبة بسبب عودة مُرسَّمة إلى وضع طبيعي يضيق بذكر الحِدَاد.. سواءٌ كان بغدادي شهيدًا أو ضحية أو قتيلًا، لكن وفاته عُدَّت خسارة غير مستحقةٍ في مدينة مُصَادرة، تكالب عليها رجال الأعمال وأمراء الحرب».
يستحضِر «صادق» الحُطام الذي لحِق بيروت بعد الحرب: المشاريع الرأسمالية النيوليبرالية المدعومة أمريكيًا في عهد رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ودُويلة حزب الله في الجنوب، والتحالف التابع لسوريا الذي والاه العديد من القادة السياسيين اللبنانيين. وفي نظري، لا انفصال بين تلك التطوُّرات وانفجار مرفأ بيروت في صيف 2020، فهو ليس إلا حادثًا من حوادث أليمة كثيرة عاشتها البلاد منذ الحرب وحتى اليوم.
في مراجعةٍ حديثةٍ للفِيلم لصالح صحيفة «ذا نيويوركر»، كتب ريتشارد برودي أن «عنصر الأمل الوحيد في الفيلم يتجلَّى في الافتتاحية: «الزَّعْم (والرَّغبة) أن أحداث الفيلم تدور في الماضي، لا الحاضر». مثل الخراب، يُجسِّد هذا الفيلم الحاضر: بيروت اليوم، وبيروت كل يوم. ومحاولات حصر الصَّدماتِ في «الماضي» توحِي ضمنيًا بصفحة بيضاء يُمكن أن يُخط عليها المستقبل، وهذا ينتقص من الإلحاح المادي لذلك الحاضر. ولهذا، ينبغي ألا نخاف من الحاضر الكارثي، فهو مستودع لحيواتٍ عديدةٍ، وهذا أيضًا ما يدعو الناس للبَقاء.