مدخل قصصي…
جلست يومًا في أحد مراكز الشرطة أثناء تحقيق استقصائي لشبكة إعلامية محلية تبحث في مسألة أخلاقية في أحد الأحياء التي ترتفع بها نسب الجريمة، كانت وظيفتي تسجيل محادثات الصحفي مع سارق مجرم تعرض لتعنيف في طفولته، كانت محادثة اعتباطية خالية من أي فائدة ومع تعنّت "السارق" لم نصل لنتيجة سوى أنه يحتاج إلى علاج نفسي مكثّف، لفت سمعي ابتداءَه بعبارة «لنتبادل أطراف الحديث»، إذ طلب ملاءة صغيرة ذات أطراف واضحة أخذ يبادلها مع الصحفي تعبيرًا عن الفكرة الرمزية لمبادلة الأطراف، المحادثة كانت مليئة بالامتعاض من الرمزيات الاجتماعية التي حاول معارضتها، ورفض كل أشكال الأدوار الاجتماعية ابتداءً بمشكلته مع والده منذ صغره تحت التعبير المجازي "العين ما تعلى عن الحاجب". فما فعله بالضبط هو أنه رفع عين والده باتجاه حاجبيه حرفيًا لا مجازيًا، والفعل الإجرامي الحرفي هذا انعكست صورته لرفض المبدأ الذي ينادي بحفظ المكانة لمن هم أعلى قدر منّا. كان كل ما سمعته هو تجسيد أقل حدّة لمأساة تتمحور حول الخوف.
بداية من المشهد الافتتاحي من «بو الخائف» تظهر مآلات ما ستقود إليه هذه المأساة، مشهد لبكاء والدة طفل خوفًا على حياته منذ أول لحظة له في هذه الحياة، لم يكن يتنفس، وهذا ما تسبب لها بالهلع، لم يكن خوف "بو" نابعًا من ذاته، بل هو شعور مكتسب كوّنته الظروف، وجلبته له والدته.
أثناء حواره مع المعالج النفسي، كان يبدو منهزمًا، يشعر بالذنب، ليس الفعلُ هو ما كان يبذر عنه بل ردة الفعل، لم يقل شيئًا سوى إعطاءه إجابات مقتضبة، أعتاد بو الضعيف على أن يتم استجوابه، وبعد هذا كله مازال يشعر بالذنب، عندما بدأ المعالجُ بوصف شعور الذنب له وإعطائه أمثلة تخيلية كمثال البئر، لم يفهم بو من حواره شيئًا باستثناء أعراض دوائه، ثم جاء قطعٌ سريع غيّر من ملامح الجلسة بكسر قاعدة الـْ1180 في التصوير.
يعد هذا الخرقُ واحدًا من تابوهات السينما التي يدورُ جدلٌ حول استخدامها، إذ يهدف تنظيمها إلى المحافظةِ على الوعي المكاني للشخصيات، بينما يُلجأ إلى خرقها لأجل إضفاء طابع من التوتر. وهذا الأمر ليس غريباً عن الأسلوب المتبع في الفيلم إذ يَتبيَّن من الدقائق العشر الأولى أنَ الإخراج في هذا الفيلم لن يكون إخراجًا عاديًّا.
بعد القطع (Normal cut)2
على مدار الثلاث ساعات أخذت السياقات التراجيدية تزداد شيئًا فشيئًا. ابتدأت بفقدان بو لأهمّ مقوم من مقومات الإنسان الحياتية، بعد الهواء الذي يتنفسه، وهو الماء، ثم بدأت الشخصية الرئيسية تزحف نحو القاع، ففقد بيته الذي كان مصدر الأمان الوحيد في الحيّ المشبوه الذي يعيش فيه. إن التجرّد الموجود في ذلك الحي مرعب، بو بالنسبة للشرطة ليس سوى رقم زائد على قائمة المجرمين الطلقاء الذين اتخذوا من الشارع مرتعًا وملهاةً لأنشطتهم، لينتقِلوا بعد ذلك بأفعالهم التخريبية إلى شقته، فما تفعله الجماعات هو سحق هوية الفرد وقيمته وأمانيه، واختزاله في هيئة بشري تائه.
نلاحظ على بو الخوف الشديد من الجميع، الخوف من فقدان الرحلة، الخوف من الناس، الهلع الشديد الذي عانى منه وجعله غير قادر على التمييز بين الواقع والخيال، فتداعت الأفكار اللاوعية داخل عقله.
تتعرى السياقات الباطنة بعد حادثة بو، وتتلاقى مجموعة الظواهر الفرويدية التي عانى منها منذ الصغر، فالأنثى مصدر الوجود في العالم تجرّدت أمام بو لمعضلة تتوالى أخطارها عليه شيئاً فشيئاً، يستيقظ خائر القوى ليجد نفسه في غرفة فتاة مراهقة لأبوين من الطبقة الراقية في المجتمع، داخل بيتٍ فاره، لا يزال هو الضحية بداخله ايضًا، حتى عندما يرتبط بعائلة تمنحته حباً غير مشروط، مازالت تلك الطبقة ترتكز على حياةٍ لم يكن ليحلم بها في ذاك الحيّ الفقير، في إشارة لحوار الطبيب مع زوجته عندما قال: «المال لا يهم».
ترمز تلك العائلة للجانب الحداثي في أمريكا، حياة الرفاهية، ابنٌ قُتل وهو "يلبي نداء أميركا للواجب في دولة أخرى"، وشاب مُصاب بالصرع، يسهل انقياده كالحيوانات المفترسة، ومُراهقة متمردة وغير متزنة عاطفياً، تستغل حاجة بو ليلحق بجنازة والدته، علاقات رأسمالية مبنية على مبدأ المنفعة والاحتياج، استغلت فيها احتياج بو ببشاعة، لتعيد إليه فيض الذكريات بمعضلته الأولى مع الأنثى التي حاول الارتباط بها.
في فلم «بو الخائف» لم تعد العلاقات تحمل قيمتها الرمزية أو الاجتماعية. الخوف مُتجذّر في ذهنه حتى في أحلامه، ومع أبسط نداءٍ عال الصوت، تهرع الشخصيات الأخرى من الخوف. بو حتى في أحلامه يجاوب إجابات مقتضبة جميع حواراته عبارة عن سؤال يقابلها جواب واستغراب، تسأله الفتاة «هل أمك عاهرة؟» يقابلها باستغراب، فتجبره على تقبيلها، لا يملك بو ضعيف الشخصية أبسط تعبير بشري على التفكير في عمر صغير، مثل حرية الاختيار، لأن شحّ الحاجات التي تعرض لها جعلت من شخصيته مستودعاً لأكثر الكوابيس عبثية.
يظهر الماء في أكثر من موقف للتعبير عن الحالة التي يخلقها السياق، ففي فيلم «بو الخائف» الرمزيات مجرّدة حالها حال بو، يظهر الماء منبعاً للمشكلة في موقف ما، أو حلاً لا مفر منه من الموت، أو سبيل ليعوم فيه خالياً إلى مغارةٍ من العدم. بو حالة عامة لانعدام الجمال في الكون، عين لا تبصر الفن، ولا تتواءم معه، تبقى معزولةً تحت رحمة الواقع عديم التشبيهات، حتى تمكن من الهرب وحيداُ في الغابة، وقابل جماعة المسرح الملحمي -ذاك المسرح الذي من مميزاته أنه يكسر الجدار الرابع مع الجمهور- ومجدداً بدون أي مقدمات يسقط تحت رحمة فتاة أخرى، لنرى تعاملاً آخر من بو مع الأنثى الصغيرة عندما كان صغيراً، وأخرى عندما كان كبيراً، وأخرى انقلبت عليه، لنصل لواحدة منحته ما لم يمنحه أي أحد من قبل، الخيال، قدرة الفن على سبر أغوار النفس البشرية حد الإعجاز، ومخاطبة غرائز الإنسان.
في نظر الشخصيات الأخرى هذا مسرحٌ عادي. أما من منظور بو فهذا مسرح اللاوعي، حاول المُخرج إيصال رسالة للمُشاهد من خلال بو بطريقة درامية مثيرة للإعجاب، فقد استبدل الممثل المسرحي في المشهد ببو، وأظهر لنا العائق على نحو صريح ومباشر دون رمزيات أو صور فنية، أقدامه مكبلةٌ ولا يستطيع الحراك للطرف الآخر، أي عالمه الذي يحلم أن يكون.
كلنا نرى في الفن ذواتنا عاريةً أمام الحقيقة، نرى فيه آمالنا وغرائزنا بطريقة تعجز عنها أشد حالات الواقع تطرفاً. حفرت تلك المسرحية في اللاوعي عند بو فكرة كان قد افتقدها وغاص في هواجسها، أصبحت شخصيتنا الرئيسية كياناً مستقلاً بذاته، في عالم يفتقد الأصالة، وجد نفسه في غيره، حكاية يسردها ملاكه الحارس، يكون فيها بو متعدد العلاقات.
بعد غوص بو في عالم أحلامه وخيالاته، يظهر لأول مرة في الفيلم بطريقة طبيعية وهو يتحدث على سجيته التي حُرِمَ منها، يُحِب ويُحَب، يعيش علاقات تبادلية، يحب امرأة عشوائية، ويسعى للارتباط بها، هنا تتجلى تناقضات عديدة في الفلم، فهو من عانى في الحقيقة من عقد الطفولة والحرمان والبُعد، نجد عكسها في العمل المسرحي متمثلًا في ارتباطه الوثيق بامرأة، وعدم قدرته على التناسل في الحقيقة، منحته حلماً بالتكاثر، وإنجاب البنين، يبني بيتاً، ويعيش فصول السنة بحلوها، حتى تعود الرمزية الأزلية التي أرّقته لتخطف أحلامه، الماء على هيئة طوفان، يدمّر عالمه الفاضل، إكسير الحياة يمنحه حلماُ بالتصوّف بعدما عكست أحلامه ما يظن أنه واقعٌ معاش، عادت الصور الفنية تتجرد في أحلامه، حلمٌ بالهروب، يقابله اضطهاد من مجتمع لا يعترف بالفردية ولا الحقوق، وتعود الصورة تتلاقى بوعيه وحقيقة ما يعيشه، في الفصل الأخير من حلمه، تجرّأ ونادى على أولاده وجرّب الشعور الذي ظن أنه اعتزل الدنيا ليحققه، ومن ثمّ حصل الانهيار. تجدر الإشارة هنا أن مدير التصوير تلاعب كثيراً بحركة الكاميرا فكما نرى هنا الكاميرا نفسها تتحرك بمنظور الشخص الأول، بشكل ديناميكي يعبّر عن حالة اللاوعي التي تصيب بو، في مجمل لقطات الفلم يكون التصوير كلاسيكياً، ثابتًا بكاميرا لا تتحرك سوى لاستخدام الزوم.
الكاميرات المتحركة تقنية حديثة عهد نسبةً لعمر السينما الطويل، فمنذ الأخوين لوميير -أوغست ولويس لوميير- وحتى السبعينيات الميلادية كانت اللقطات تؤخذا بكاميرات تصوّر اللقطات بشكل ثابت دون حركة لأي إتجاه، ويتطلب أي فعل من زاوية أخرى استخدام زاوية تصوير من كاميرا أخرى داخل موقع التصوير، ويفاضل بينهما المونتير بالقطع، وإذا كان لابد من حركة في اللقطة يتم عمل خاصة التكبير zoom في الكادر أو للشخصية أو أثناء المحادثة وكل ما يفيد التوجّه الفني للفيلم من وجهة نظر المخرج ومدير التصوير، على عكس التصوير الحداثي الذي يتسم بالسرعة وكثرة التنقل بين المشاهد وحركة الكاميرا بشكل أفقي وعامودي أو حتى الدخول لعمق الكادر بدلاً من الـتكبير. وهنا في فيلم «بو الخائف» اللقطات التي تتسم بالحداثة كانت تعبيراً ضمنياً على أن ما يحدث لا ينتمي للواقع، بل من خيالات بو لا أكثر، كل لحظة تضمنت حركة تتبع بالكاميرا Tracking بأي اتجاه -سواءًا عاموديًا أو أفقيًا- هي التداخل الأجلّ والأسمى للتعبير عمّا لا يمكن لشخصيتنا الرئيسية التعبير عنه، هنا تنطق اللغة السينمائية بصدقها، لتعبّر بلغة بصرية سلسلة عن جوهر الحدث.
ليست المرة الأولى التي يتم تصوير لقطة بهذه الطريقة فحتى عندما يتداخل واقع بو مع أحلامه، يزيح قبلها مدير التصوير الكاميرا. هنا تتبع تجاه اليسار Tracking to left أكثر إلى عمق الكادر، ليعيدنا من وإلى واقعه، الذي يبدو حلماً سيريالياً اعتباطياً قادراً على التنبؤ بالمستقبل، كتريسياس في الميثولوجيا الإغريقية.