الحياة وفلسفة العيش في سينما الساخر الأخير "باولو سورينتينو"

«لا تستخفّ بالدعابةِ أبدًا، حتّى لو كنتَ في أفظعِ لحظةٍ من حياتك».
باولو سورينتينو

إذا سلَّمنا بأنَّ فلسفة «الحداثة» قائمةٌ على فكرةِ إلغاءِ الماضي ونبذ التراث والقطيعة معه، فإنَّ فلسفة «ما بعد الحداثة» قائمةٌ على العودة إلى التراث في أيِّ وقت، ولكن بروحٍ ساخرة، هذا - في اعتقادي - ما كان باولو سورينتينو يحاول قوله: أن نعودَ للتراث، فـ «الآلهة لا تبتسم لمن يهمِل القدماء». من النادر جدًا في عالمٍ علمانيٍّ يرفضُ كلَّ ما هو مقدَّس، ويطرُد الدينَ باستمرارٍ من الفضاء العام، أن تجد فيه مُخرجًا سينمائيًا يعودُ بالدين بهذا الشكل المكثَّف، إلى حَدِّ اعتباره الثيمة الأساسيَّة في كلِّ الأعمال؛ إلَّا أنَّ هذه العودة مختلفة، فهي عودةٌ هزليَّةٌ تعرِّي الواقع ولا تأخذ شكلًا واحدًا ثابتًا، بل من الممكن أن تقدِّم السخرية عن طريق سؤالٍ ماكر، أو إجابةٍ ذكيَّة، أو مفارقةٍ لاذعة، أو تسويةٍ منطقيَّةٍ للتناقضات، أو حتَّى عن طريقِ هراءٍ فج… تختلفُ الطرق لكنَّ المعنى واحد: أن نسخر من الواقع بكلِّ الأشكال الممكنة لنا.

يجادل الفيلسوف الإيطالي جيانِّي فاتِّيمو في كتاب (نهاية الحداثة)1، بأنَّ أحد معايير تقييم العمل الفني هو، في المقام الأول، قدرة العمل على وضع نفسه في موضع نقاش: أكان على مستوى مباشرٍ صريحٍ وغالبًا ما يكون بما هو فظ، أم بطريقةٍ غير مباشرةٍ كالتهكُّم مثلًا؟ ومن صور التهكم «إعادة الصياغة»، نُعيد صياغة قول ما هو قديم، نكرِّر ما قلناه سابقًا، ولكن علينا أن نتعلَّم الدرس هذه المرة بأنَّه لا وجود لشيءٍ في الحياة يُؤخذُ بجديَّة، فأن تسخر هو أن تعيش بعمق. ولا أعلم إن كان المخرج الإيطاليّ قد قرأ لمواطنه أم لا، لكن سينما سورنتينو تقول إنَّه يعي جيدًا هذه العمليَّة، عمليَّة الصياغة، وبأنَّ الإنسانَ كائنٌ عالقٌ في الماضي والتاريخ، ولا يستطيع تجاوز هذا المأزق إلا بالسخريةِ منه. وهذه وجهةُ نظرٍ غريبةٍ عن العالم ومرتبطةٍ به في آنٍ واحد، نظرةٌ تقول لنا بضرورة النظر إلى العالم بشكلٍ جديد، ولكن هل هي نظرةٌ عميقة؟ لا، لأنك أينما اتجهتَ - يقول سورينتينو2 - «انتهيتَ دومًا قرب المراحيض، نحو قنواتِ صرفِ هذه الحياة وعفن الروح»، ولأنَّ «حياتنا الخرائيَّة» ما هي إلّا تتابعٌ منطقيٌّ لأكثر الأمور بدائيَّة، وتذكَّر هذا بوضوح: أنتَ كالآخرين، لا أكثر، ولا أقل.

سينما سورينتينو عبثيَّة، لا تقدِّم رسائل ولا مواعظ أخلاقيَّة، وخلالها يعقدُ المُشاهد صفقةً ضمنيَّةً مع المخرج: «أتريد قِيمًا جديدة؟ لا، شكرًا»؛ ولكن هذا لا يعني بأنَّها أعمال لا تقول شيئًا أبدًا، فعلى سبيل المثال، في مسلسل «البابا الصغير» (The Young Pope - 2016) قدَّم لنا باولو شخصيَّة الكاهن المتطرِّفة، المتعصِّبة، المنادية بالتسليم لأوامر التعاليم الكنسيَّة بعنفٍ لا يلين، الرافضة لأشكال الحبِّ والتعاطف مع الآخر، وكأنَّه يطرح علينا ما نحاول إنكاره في القرن الواحد والعشرين. ما الذي سوف يحدثُ لنا إن عدنا للتاريخ، واجتثثنا النصوص من سياقها الزمني؟ إن عدنا للتطرُّف والعنف والكراهية والتعصُّب الأعمى، ونبذ الآخر باسم الدين، ما الذي سيحدث؟ من المؤكَّد أنَّنا، في عالمنا العربي، لا نحتاج لهذا السؤال؛ لأنَّ الإجابة موجودةٌ مسبقًا. من المفارقات الساخرة في المسلسل أيضًا أنَّ الكاهن، الذي كان ينادي بالعودة إلى النهج الكاثوليكي التقليدي، هو الذي لا يؤمن - من الأساس - بوجود الرَبّ. مشهدٌ هزليّ ومعبِّر في عالمٍ مزدوج؛ مَن يدعونا إلى «أبوابِ الجنة» لا يملك مفتاح الباب.

رهبان الكنيسة في المسلسل يمتنعون عن الجنس زهدًا فيه. يسخر سورينتينو من هذا النِفاق حيث نشاهد في السر علاقات جنسيَّة مثليَّة، تحرُّشاتٌ ابتزازاتٌ جنسيَّة، وكأنَّه يصرخ: «إن ما تهرب منه موجود» فـ«الجنس في كلِّ مكان»، و«ما تطردُه من الباب سوف يعودُ إليك من الشباك». داخل دُور العبادة موجود، في صالات الطعام موجود، في الحديقة المكشوفة وأمام أنظار الربِّ موجود أيضًا. ألم يكتُب هو بأن «العفة تخفي على الدوام إفراطًا في العهر، لا يُكبَح له جماح؟». السخرية من الدين في عُرف سورينتينو هو نقدٌ للدين، ونقدُ الدين هو نقد للأخلاق، ونقدُ الأخلاق يفضي بالضرورة إلى الكشف الذاتي عن أقنعة مجتمعاتٍ وطبقاتٍ متَّسخةٍ بالنفاق، سلسلةٌ تفضحُ العالم في التباسه الأخلاقي. في المسلسل ذاته يقوم البابا بدعوة الجميع للتقشُّف ومساعدة الفقراء، ويسخرُ باولو من هذه المفارقة بأن يتجوَّل بنا داخل الفاتيكان باللقطات الطويلة الواسعة حول الحديقةِ الكبيرة والمساحات الشاسعة، بين القاعات المترفة والباذخة، والرسومات المُتقنة، والمنحوتات البديعة، نشاهدُ ما لذَّ وطاب من المأكل والمشرب، والفواكه وأنواع النبيذ. يستخدمُ باولو الكاميرا ليجعل المُشاهد يشارك في الحياة المترفة، يقدِّم لمجتمعِ الفُرجة فرصةً للتلصُّص، لكن الأهمَّ ألا ننسى دعوة البابا للتقشف ومساعدة الفقراء!

في كتاب «نقد العقل الكلبي»3، يقول الفيلسوف الألماني المعاصر بيتر سلوتردايك: «الفكرُ الكلبيُّ لا يمكن أن يظهر إلَّا حين تصيرُ نظرتان للأشياء ممكَّنتَيْن: نظرةٌ رسميَّة وغير رسميَّة، نظرةٌ مستتِرةٌ وأخرى عارية، نظرةُ الأبطال ونظرة الخدَم». في ثقافةٍ يُمتَهن فيها الكذب بانتظام، لا ينشدُ المرء مجرَّد معرفةِ الحقيقة؛ بل إظهار الحقيقة عارية. وهنا تجيبُ فلسفة باولو سورينتينو السينمائيَّة: في الحقيقة، وللأسف، لا وجود البتة لتناقضاتٍ ظاهريَّة أو حقيقةٍ تخصُّ الأبطال دون الخدَم، لا وجود لهذا الفصام، ولا توجد «نظرتان للأشياء»، وإنما توجد سخريةٌ وحسب؛ والسبب يعود إلى كونِ السخرية لا يمكن لها أن تكون نظريَّة، أو أن تتفرَّد بنظريَّةٍ «تختصُّ بها»؛ بل تكونُ نظرةٌ أُحاديَّةٌ في بنية الوجود ذاته، تطبيقًا وممارسةً لـ«فلسفةٍ عمليَّةٍ» حياتيَّة. على سبيل المثال، يعالج باولو في فيلم «لورو» (Loro - 2018) واحدةً من أشهر الفضائح السياسيَّة المأساويَّة في عهد سيلفيو برلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، ومن دون الدخول في التفاصيل، ما يهمُّ هو ما طرحه المخرج من المشهد الأول: الواقع ساخر، والسخرية حقيقة، ومَن لا يدرك مسْرَحَةَ الواقع، لا يدرك أيضًا الواقع.

باختصار، نحن كائناتٌ هزليَّةٌ حتى قبل تفوُّهِنا بدعابة، ويسأل القارئ: «حتى وإن كانت القضيَّة تتحدَّثُ عن موتِ أبرياء؟»، لا يهم، ففي نهاية الأمر هي مجرَّد دعابة، دعابةٌ سمِجة. هكذا يُعالج باولو الموضوعات، فهو لا يقسِّمها إلى ثنائيَّات أو مستويات من الجدَّة، وهذا لا يعني بالضرورة إنكار المأساة أو الألم، بل على العكس تمامًا، فهو يسمح لصدى الألم بالتردُّدِ من خلال «إعادة الصياغة»، بالتقاط الكوميديا من أعماقِ الألم أو الغضب أو الإهانة وإعادة «استثمارها» بالشتم أو الكلام الفاحش في سياقٍ أكثر براعة، وهذا ما كتب عنه سيغموند فرويد في مقاله المعنون «السخرية»4 حيث يقول: «تكمنُ براعة السخرية في انتصار نرجسيَّة وقداسة الأنا المعلنة وعدم السماح للمساسِ بها»، وينتصر فرويد للسخرية على حساب النكتة؛ لأنَّ النكتة «تخدمُ عملية المتعة»، أما «الشخصُ الساخر» فيتفوَّق على نفسه وعلى معاناته، يأخذُ دور البالغ ويتجاوزُ مرحلة الطفولة؛ أي ينظر إلى العالم «كما هو كائن» بكلِّ ما فيه من قبحٍ وألمٍ لا كما «يجب أن يكون»، ويفهم أنَّ العالم لا يدبِّر مكيدةً أو مؤامرةً ضده. تصبحُ السخرية هنا، كما يقول تيري إيغلتون في كتاب «فلسفة الفكاهة»5، «تسامحًا مرتبكًا مع العالم، مع الاعتراف بجوانبه الأكثر إكراهًا»، وتصبحُ الفكاهة تسليةً مجانيَّةً للعقل، تريحنا من سلسلة الأفكار الروتينيَّة وتخفِّف من استبداد الحياة، وتمنعُنا من أن نصبح عبيدًا لها. ستموت غدًا يا أحمد؟ وماذا في ذلك؟ فالعالم لن ينهار في هذه الحالة. ولنتذكر ختامًا باولو سورينتينو في روايته «كلهم على حقّ» عندما كتب لنا: «لا تستخفَّ بالدعابة أبدًا، حتَّى لو كنتَ في أفظعِ لحظةٍ من حياتك».

الهوامش:

  1.  جياني فاتيمو، نهاية الحداثة، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة: نجم بو فاضل
  2. الاقتباسات عن باولو سورنتينو من روايته كلهم على حق، منشورات المتوسط، ترجمة: معاوية عبد المجيد
  3. بيتر سلوتردايك، نقد العقل الكلبي، منشورات الجمل، ترجمة: ناجي العونلي
  4. ترجمه حسين الموزاني ضمن مجموعة مقالات نشرت عن دار الجمل بعنوان الغريزة والثقافة
  5. تيري إيغلتون، فلسفة الفكاهة، الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمة: ماجد حامد

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى