الهويَّة المفكَّكة في سينما ثيو أنجيلوبولوس

دائمًا حين أريدُ التحدُّثَ عن المخرج الراحل ثيو أنجيلوبولوس، فلا شكَّ أنَّني سأستهلُّ حديثي عن شخوصه. والسبب في ذلك هو أنَّ شخصيَّات أنجيلوبولوس دائمًا مهاجرة، نازحةٌ وتبحث عن معنى الانتماء، وهي دائمًا ما تكون الأقرب إلى وعيي الداخلي. إلى جانب أنَّ الهويَّة المصنوعة منها شخصياته ذاتُ كيانٍ متحرَّك، غير ثابتة، تتشكَّل وتتفكَّك باستمرار. وهذا ما يجعل من شخصياته في الغالب تكون في رحلة، سواءً فعليَّة أو رمزية، وفي محاولةٍ مستمرَّةٍ لفهم مكانها في العالم. يمكن ملاحظة ذلك على نحوٍ جليٍّ في أفلامه مثل «رحلة إلى كيثيرا» (Voyage to Cythera - 1984) و «نظرة يوليسيس» (Ulysses' Gaze - 1995)، حيثُ تتجلَّى بوضوحٍ ثيمة الغربة والانفصال عن الذات والوطن.

أستطيع وصف شخصيَّات ثيو أنجيلوبولوس على أنَّها تُبنَى على ما يشبه التوتُّر الوجوديَّ الدائم، فهي لا تجدُ في عالمها مكانًا نهائيًا تسكنُ وتهجع إليه، بل تظلُّ عالقةً بين زمنين، أو بين وطنين، أو حتى بين ذاتَين. إنَّها شخصيَّاتٌ غائمةٌ أشبه بأشباحٍ تبحثُ عن صدى ماضٍ لم يعد موجودًا، أو مستقبلٍ لن يأتي. وتكمن قوَّتها في ما لا تقوله بقدر ما هي موجودةٌ في ما تقوله: في صمتها الطويل، في نظراتها الحائرة، في خطواتها البطيئة على الطرقات الموحلة والساحليَّة، في تلك اللحظات التي تصبحُ فيها المسافة الجغرافية رمزًا للمسافة النفسيَّة التي تفصلُ الإنسان عن جوهره.

في «الخطوة المعلَّقة للَّقلق» (The Suspended Step of the Stork - 1991) على سبيل المثال، نجدُ شخصيَّة السياسي المفقود الذي يُحتَمل أن يكون لاجئًا يعيش على الحدود، كما نعيشُ في هذا الفيلم تلاشي الهويات وذوبانها في الفراغ الممتد بين الدول. هنا لا تعودُ الهويَّة جنسيَّةً أو سياسيَّة، بل أصبحت سؤالًا مفتوحًا، معلَّقًا بين الوجود والغياب. هذه الشخصيَّة لا تملك اسمًا واضحًا ولا وطنًا محددًا؛ هي مجرَّد رمزٍ لإنسانٍ عالق في اللاإنتماء.

أمَّا في «رحلةٌ إلى كيثيرا» فيعود الأب المنفي إلى وطنه بعد عقودٍ من الغربة ليكتشفَ أنَّ الوطن قد تغيَّر، وأنَّه هو نفسه أصبح غريبًا عن كلِّ شيء. العودة هنا لا تعني استعادة الذات، بل تأكيد الغربة. تكمنُ المأساة في أنَّ رحلة العودة لم تكن إلا وهمًا آخر، فالوطن لم يعد وطنًا، والذكريات لم تعد قادرةً على ترميم الهويَّة. هذه الشخصيات ليست فقط ضائعة، بل محكومٌ عليها بالضياع، وكأنَّ أنجيلوبولوس يرى في الاغتراب الحالةَ الطبيعيَّة للإنسان المعاصر. كلُّ شخصيَّةٍ تمرُّ في لحظةٍ ما بتجربةٍ حدوديَّة: الحدود بين الدول، بين الأجيال، بين الواقع والحلم، بين ما كان وما يمكن أن يكون. وهو ما يمنح هذه الشخصيات طابعًا كونيًّا يتجاوز حدود اليونان، لتصبح تعبيرًا عن الإنسان الحديث في عالمٍ فقدَ معانيه الكبرى. لا تُعدُّ شخصيات أنجيلوبولوس نماذجَ نفسيَّة تقليديَّة، بل هي أشبهُ بقصائد متحرِّكةٍ على الشاشة، لا تكتفي بقيادتنا لفهمها فحسب، بل للشعور بها. إنَّها شخصيَّات تجرُّنا إلى داخلها، لنختبر معها ثقل الغربة، وقسوة البحث عن المعنى، وعبثيَّة الأسئلة التي لا إجابة لها، كأنَّها تقول: «نحن لا نبحث عن الوطن فقط، بل نبحث عن أنفسنا وسط ركام الزمن».

يستخدم أنجيلوبولوس الزمنَ كأداةٍ لتفكيك الهويَّة، فالماضي والحاضر يتداخلان في لقطاته الطويلة الممتدَّة، ممَّا يعكسُ حالة التشتُّت والضياع التي تعيشها شخصيَّاته. الحدود في سينماه ليست جغرافيَّة فحسب، بل هي حدودٌ نفسيَّةٌ وزمنيَّةٌ أيضًا، تعكسُ تجربة التشرذم التي عاشتها اليونان واليونانيوُّن عبر تاريخهم المعاصر. هذا التشتت ينعكسُ في البنية السرديَّة لأفلامه التي تكسرُ الخطَّ الزمني التقليديَّ وتقدِّمُ قصصًا متقطِّعة متداخلة، تمامًا كما تتشظَّى هويَّات شخصيَّاته. يمثِّلُ الصمت والانتظار عنصرين أساسيَّين في لغته السينمائيَّة، فالشخصيات غالبًا ما تنتظرُ شيئًا قد لا يأتي أبدًا، كانتظار عودة الوطن المفقود أو استعادة الهويَّة المتلاشية.

كما يوظِّفُ أنجيلوبولوس الفضاءات المفتوحة والمناظر الطبيعيَّة كاستعارةٍ للعزلة والغربة، فالبحر والحدود والطرق المؤديَّة إلى المجهول تصبحُ أماكن لتجسيد أزمة الهويَّة. فضلًا عن أنَّ شخصيَّاته تتأرجحُ بين الرغبة في العودة والخوف من الاغتراب حتى في وطنهم الأصلي، ممَّا يعكس التناقض الذي يعيشه المهاجر أو المنفي. علاقة الشخصيَّات بالذاكرة معقَّدة ومتناقضة، فهي تتشبَّثُ بالذكريات كملاذٍ أخيرٍ للهويَّة، لكنَّها في الوقت نفسه تحاولُ التحرُّر من ثقلِ الماضي. يمزجُ أنجيلوبولوس بين الواقع والخيال والأسطورة، ممَّا يجعلُ البحث عن الهوية رحلةً متعدِّدةَ المستويات، تتجاوز الحدودَ بين الحقيقي والمتخيَّل. وينعكسُ تفكُّك الهويَّة أيضًا في اللغة، وهذا ما يتجلَّى في شخصيَّاته التي تتحدَّث بلغاتٍ متعدِّدةٍ أو تصمت تمامًا، في إشارةٍ إلى عجز اللغة عن التعبير عن تجربة الاغتراب.

من الملاحَظِ في أفلام ثيو أنَّ التاريخ لا يُروى كحدثٍ منتهٍ، بل كعمليَّةٍ مستمرة. فالماضي في سينماه حاضرٌ دائمًا، يتناسلُ ويتجدَّد، يعيد إنتاج نفسه في كلِّ لحظة. تتكرَّر الأحداث وتتقاطع المصائر، ممَّا يجعل التاريخ يبدو كدوَّامةٍ لا مفرَّ منها. هذه الرؤية العميقة للتاريخ تتجلَّى بوضوحٍ في أفلام أنجيلوبولوس من خلال اللقطات الطويلة والدورانيَّة التي تلتقط الزمن وهو يتدفق وينثني على نفسه: في فيلم «رحلة إلى كيثيرا»، نرى كيف تتداخل ذكريات الحرب الأهليَّة اليونانيَّة مع الواقع المعاصر، وكأنَّ الشخصيَّات محكومةٌ بإعادة عيش صدمات الماضي مرارًا وتكرارًا.

على نحوٍ دائمٍ وبطريقةٍ مبتكرةٍ يستخدمُ أنجيلوبولوس تقنيَّة الفلاش باك، وأسلوبه في هذه التقنيَّة يقوم على عدم قطع المشهد للانتقال إلى الماضي، بل بجعل الماضي يقتحمُ الحاضر ضمن نفس اللقطة، ممَّا يخلق إحساسًا بانصهار الأزمنة المختلفة. هذا ما حدث في فيلمه الأفضل «الأبدية ويوم واحد» (Eternity and a Day - 1998)، حيث تداخلت ذكريات البطل مع واقعه الحالي دون فواصل حادَّةٍ أو قطعٍ مشهدي. نجدُ الشخصيَّة الرئيسيَّة ألكسندر، الشاعر المريض، يتنقَّل بين زمنين بسلاسةٍ غير معهودة، فتارَّةً نراهُ في الحاضر مواجهًا نهايته، وتارَّةً أخرى في ذكريات الماضي مع زوجته آنا، والانتقال يحدثُ بتحوُّلٍ بصريٍّ متدفِّقٍ ضمنَ اللقطة ذاتها. هذه التقنيَّة تعكس فلسفة أنجيلوبولوس في أنَّ الزمنَ ليس خطًّا مستقيمًا بل دائرة مستمرَّة، وأنَّ الماضي لا يموتُ أبدًا بل يظلُّ ساكنًا في الحاضر، محدِّدًا مصائر الشخصيَّات وخياراتها. في عمله الفني يصبح الزمنُ كيانًا مرنًا، يُطوى وينبسط ويتشابك مع نفسه، فلا تكون الذاكرة مجرَّد استرجاعٍ لأحداثٍ ماضية، بل تغدو حضورًا فعليًّا يتجسَّد في المكان والزمان الحاضرَين.

تحملُ الشخصيات في أفلامه ثقلَ ذاكرةٍ جماعيَّة، فهي ليست مجرَّد أفراد، بل تمثيلات لمصيرِ أمَّةٍ بأكملها. كما تحملُ الأماكن في سينماه طبقاتٍ من الذكريات التاريخيَّة، كالبيوت المهجورة والحدود والمحطات المُهملة، والتي تشهد على تحوُّلاتٍ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ عميقة. لا يقدِّم أنجيلوبولوس التاريخ كسردٍ رسميٍّ أو أيديولوجي، بل كتجربةٍ إنسانيَّةٍ مُعاشةٍ تختلط فيها الأحداث الكبرى بالتفاصيل اليوميَّة الصغيرة. وأيضًا تحضر المراجع التاريخيَّة والثقافيَّة في أفلامه كطبقاتٍ أثريَّة متراكبة، من الميثولوجيا الإغريقيَّة إلى الحداثة المعاصرة، مؤكِّدًا على استمراريَّة القصَّة الإنسانية وتكرارها عبر العصور.

نصل بهذا إلى أنَّ سينما أنجيلوبولوس تتَّسم بالحنين الدائم لما هو مفقود، سواء كان وطنًا أو هويَّةً أو معنى، وهذا الحنين يصبح المحرِّك الأساسيَّ لرحلاتِ شخصيَّاته اللانهائية. في نهاية المطاف، تبدو سينما أنجيلوبولوس وكأنَّها محاولةٌ مستمرَّةٌ لتجميع شظايا هويَّةٍ متناثرةٍ في عالمٍ معاصرٍ يزداُد تعقيدًا وتفكُّكًا، ممَّا يجعلها تُجسِّد الوضع الإنسانيَّ في ظلِّ العولمة والتحوُّلات الكبرى، دون أن تكتفي بتقديم صورةٍ للحالة اليونانيَّة المعاصرة.

فلسفة الصورة عند أنجيلوبولوس 

لا ينبغي اعتبار الزمن في سينما أنجيلوبولوس مجرَّد إطارٍ زمني، بل هو كيانٌ حيٌّ يتنفَّسُ ويتمدَّد، إذ يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في لحظاتٍ سينمائيَّةٍ معقَّدة، حيث يمكن للذكريات أن تعيش وتتنفَّس. وعبر هذا الزمن لا تتحرَّك شخصيَّاته وفق تسلسلٍ منطقي، بل تعيشه كتجربة حسيَّة متداخلة ومتعدِّدة الأبعاد، وهو ما يتجلى في فيلم «الأبديَّة ويومٌ واحد» حيثُ لحظة انسياب الذكريات وتقاطعِها مع الواقع دون فواصل واضحة، فتصبحُ رحلة البطل رحلةً في دهاليز الزمن نفسه. وممَّا ساهم بإخراج الزمن بهذا المنظر في أعماله هو تلك اللقطات الطويلة المميَّزة التي تخلقُ إحساسًا بتمدُّدِ الزمن الذي يرفض الخضوع للتقسيم التقليدي، فتظهرُ الشخصيَّات كأنَّها تعيشُ خارج الزمن الكرونولوجي، في حالةٍ من الديمومة المستمرَّة. كما يستخدمُ الضوء والظلال بعنايةٍ لتجسيد حركةِ الزمن، فتتحوَّل التغيُّرات في الإضاءة إلى مؤشِّراتٍ على التحوُّلات الزمنيَّة والنفسيَّة معًا.

طوَّر أنجيلوبولوس أسلوبًا فريدًا في التصوير يعتمدُ على اللقطات الطويلة والممتدَّة، فكلُّ لقطةٍ لديه تشبهُ لوحةً متحرِّكة، تستغرق أحيانًا من 10 إلى 15 دقيقة، محمَّلةً بالرموز والإيحاءات. في كثيرٍ من الأحيان، يصبحُ المشهدُ بأكمله سردًا مرئيًّا معقَّدًا دون الحاجة إلى الحوار. بناءً على ذلك تحوَّلت هذه اللقطات إلى توقيعٍ سينمائيٍّ مميَّزٍ لأنجيلوبولوس، تتيحُ للمشاهد أن ينغمس في تفاصيلِ المشهد وأن يتأمَّل العلاقات بين الشخصيَّات والفضاء المحيط بها. وقد تميَّزت هذه اللقطات بدقَّة التكوين البصري، بحيث يتمُّ تنظيم العناصر داخل الإطار بعناية فائقة، مما يخلق توازنًا بصريًا يشبهُ اللوحات التشكيليَّة. عندئذٍ تصبحُ حركةُ الكاميرا في هذه اللقطات راقصةً كالفالس، تتحرَّك ببطءٍ وانسيابية، متتبِّعةً الشخصيَّات في رحلاتها، متوغِّلةً في الفضاءات المفتوحة، ممَّا يمنح المشاهد إحساسًا بالدخول في عالم الفيلم وليس مجرَّد مراقبته من الخارج. 

لا بدَّ من الإشارة إلى الرمزيَّة متعددِّة الأبعاد في سينماه: المطر، الثلج، الضباب، الحدود… والتي تتحوَّل بكاملها إلى كياناتٍ رمزيَّةٍ معقَّدة: المطر ليس مجرَّد ظاهرةٍ طبيعيَّة، بل هو استعارةٌ للحزن والتطهيرِ في آنٍ واحد؛ أمَّا الحدود فتعبِّرُ عن الانقسامات السياسيَّة والجغرافيَّة، ولكنها أيضًا حدودٌ نفسيَّةٌ تعكس اغتراب الشخصيَّات عن ذواتها؛ في حين يمثِّلُ الضباب غموض المستقبل وضبابيَّة الماضي، بينما تصبح الطرق رمزًا للبحثِ المستمرِّ عن الذات والهويَّة. تكتسبُ الأشياء اليوميَّة في أفلامه أبعادًا رمزيَّةً عميقة، فتتحوَّل الصور الفوتوغرافيَّة والرسائل والموسيقى إلى حاملاتٍ للذاكرة الشخصيَّة والجماعيَّة معًا. يوظف أنجيلوبولوس الرمزيَّة بطريقةٍ مفتوحةٍ تسمح بتعدُّد التأويلات وتدعو المشاهد للمشاركة في إنتاج المعنى، ممَّا يجعلُ أفلامه تجاربَ تأمليَّة عميقة.

أيضًا من الضروري الإشارة إلى العلاقة بين الشخصيَّات والمناظر الطبيعية: الطبيعة في أفلامه ليست مجرَّد خلفيَّة، بل هي عنصرٌ دراميٌّ يعكسُ الحالة النفسيَّة للشخصيات. الضباب، البحر، السهول الممتدَّة، جميعها تعكس العزلة، الضياع، أو الأمل المراوغ. يصوِّر أنجيلوبولوس المناظر الطبيعية كمرآةٍ للعالم الداخلي للشخصيَّات، فالبحر المضطرب يعكس الاضطراب النفسي، والسهول الجرداء تجسِّد الفراغ الوجودي. تتحوَّلُ الحدود الطبيعيَّة، كالأنهار والجبال، إلى استعاراتٍ للحواجز النفسيَّة والاجتماعيَّة التي تعيقُ الشخصيَّات. ويلعبُ الطقس دورًا محوريًّا في بناء الجو النفسيِّ للمشاهد، فالمطر المستمر، الثلج المتساقط، والرياح العاتية، كلُّها صورٌ تساهمُ في خلق بيئةٍ بصريَّةٍ تجسِّدُ الصراعات الداخليَّة للشخصيَّات.

الثنائيات في سينما ثيو

تمثِّل أعمال المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس إحدى أهم الإسهامات في السينما العالميَّة المعاصرة، ويكمنُ تميُّزها في أسلوبها السينمائي الفريد القائم على منظومةٍ من الثنائيات المتشابكة والمتداخلة التي تشكل عوالمه السينمائية. تتجاوز هذه الثنائيات كونها مجرد عناصر سردية لتصبح مفاتيح فلسفية تسبر أغوار الوجود الإنساني في علاقته بالتاريخ والمكان والزمن. وسوف أحاول هنا تسليط الضوء على أبرز الثنائيات الرئيسية التي تخترق أعمال أنجيلوبولوس، وتقديم أمثلة محددة من أفلامه المختلفة.

يتميز أنجيلوبولوس بقدرته الفريدة على المزج بين الواقع التاريخي والخيال الشاعري، حيث تتلاشى الحدود بينهما لتخلق عوالم سينمائية تتسم بالغموض والعمق. ففي «رحلة إلى كيثيرا»، يتداخل عالم المخرج السينمائي مع عالم الأب العائد من المنفى في مزيج معقد من الواقع والخيال، حيث تصبح كيثيرا "الجزيرة الأسطورية لأفروديت" رمزاً للوطن المفقود الذي يسعى إليه الأب دون جدوى. والمشهد الختامي للفيلم، حيث يتم نفي الأب مرة أخرى على متن طوافة تبحر إلى اللامكان، يمثل ذروة هذا التداخل بين الواقعي والخيالي، بين التاريخي والأسطوري. ويتجلى المزج ذاته في «المناظر الطبيعية في الضباب» (Landscape in the Mist - 1988)، حين نشهد رحلة طفلين يبحثان عن أبيهما المفترض في ألمانيا، لكنها تتحول تدريجيًا من بحث واقعي إلى رحلة خيالية شبيهة بالحلم، ليتحول مشهد النهاية حين تتفتح شجرة قاحلة في الضباب إلى لحظة انتصار للخيال على قسوة الواقع، وللأمل على اليأس.

وتتحول القصص الفردية في سينما أنجيلوبولوس إلى ملاحم جماعية تعكس تاريخ اليونان وصراعاتها السياسية والاجتماعية، كما نرى في ثلاثيَّة «أيام من عام 1936» (Days of '36 - 1975)، و«ممثلو المسرح المتجولون» ( The Travelling Players - 1975)، و«الصيادون» (The Hunters - 1977)، وفي هذه الأفلام تُستخدم حكايات شخصيات محددة لرواية تاريخ البلاد المضطرب من الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الحكم العسكري. وفي «الإسكندر الأكبر» (Alexander the Great - 1980)، تتخذ قصة القائد القروي شكل استعارة سياسية عن الثورات اليونانية، التي تتحول من وعد بالخلاص إلى خيبة أمل. وحين يُقتل الإسكندر على يد أحد أبنائه، يقدّم الفيلم إدانة رمزية لتلك الثورات التي تنتهي دائمًا بأكل أبنائها وأظن أن من يعرف أنجيلوبولس يعرف نفوره الشخصي من الإسكندر الأكبر ووصفه له بأنه البذرة الأولى في تحويل الإنسان إلى طاغية.

وللزمن في سينما أنجيلوبولوس حضور جوهري، إذ يعامله كمادة مرنة قابلة للانثناء والتشظي، كما في «ممثلو المسرح المتجولون»، حيث تتداخل أزمنةٌ متعدِّدةٌ في لقطةٍ واحدةٍ متواصلة بنفس الأسلوب الذي ذكرته آنفًا، إذ يتحوَّل الشارع وزي الشخصيَّات من الحاضر إلى ثلاثينيَّات القرن العشرين من دون قطع، ليبدو الزمن وكأنَّه يتداخل بصريًا مع الواقع. ونجد ذلك أيضًا في «الخطوة المعلقة للَّقْلق»، حين تتحوَّل القرية الحدوديَّة المهجورة إلى مسرحٍ تتراكمُ فيه طبقاتٌ زمنيَّة متباينة، من الإمبراطورية العثمانيَّة إلى القرن العشرين، ويُروى تاريخها الممتدُّ في لقطةٍ طويلةٍ على لسانِ رجل عجوز، لتمتزج الحكاية الفرديَّة بالسرد الزمني العام.

لئن كانت الهويَّة والانتماء من المواضيع المتكرِّرة في أفلام أنجيلوبولوس، فإنَّها تصل إلى ذروتها في «الأبدية ويوم واحد»، في اللحظة التي يبدأ فيها الشاعر ألكسندر رحلته التأمليَّة في حياته وهو يقترب من الموت، فيلتقي بطفلٍ ألبانيٍّ مهاجرٍ يصبح بمثابة مرآة له ولمعاني الانتماء إلى لغةٍ ووطنٍ وذاكرة. وتلخِّص جملة «كل واحد منا غريب ومنفي بطريقته الخاصة» جوهر رؤيته للاغتراب الإنساني. وفي «غبار الزمن» (The Dust of Time - 2008) أيضًا تتحوَّل الحدود الجغرافيَّة المرسومة بين دول البلقان إلى استعاراتٍ تتعلَّقُ بالانتماء والذاكرة، وذلك حين يتتبَّع مخرج تاريخ عائلته المشتَّتة ليواجه حدودًا لا تفصل بين البلدان فحسب، بل بين الماضي والحاضر، وبين الحنين والنسيان.

بشكلٍ ملحوظٍ يطغى استخدامٌ فريدٌ لثنائيَّة الصمت والكلام في أفلام أنجيلوبولوس، إذ يُمنَح الصمتُ كثافةً تعبيريَّةً تتجاوزُ قدرة الحوار. في «المرج الباكي» (The Weeping Meadow - 2004)، تحمل نظرات أليكسيس وإيليني دلالاتٍ عاطفيَّةً عميقةً تفوق أيَّ كلمات، ويكتسبُ الصمت بينهما على ظهر السفينة بعدًا شاعريًا؛ في حين يشيرُ الصمتُ في فيلمه «مربي النحل» (The Beekeeper - 1986) إلى عدم القدرة على التواصل الحقيقي أو الفهم المتبادل بين الشخصيَّات: حتى في تفاعلات البطل سيبروس مع الآخرين، وخاصة علاقته الغامضة بالفتاة الشابة، يلعب الصمت دورًا هامًا. هناك لحظاتٌ طويلةٌ من النظرات والتواصلِ غير اللفظي التي تحمل معاني أعمق من أيِّ حوارٍ يمكن أن يدور بينهما. هنا تصلنا رسالةٌ بالغةُ الأهميَّة تقول إنَّ هنالك حواجز خفيَّة تجعل الكلمات غير كافيةٍ للتعبير عن المشاعر أو الأفكار الحقيقية. ثمَّة تشابهٌ بين بطل هذا الفيلم والأب في «رحلة إلى كيثيرا» الذي يظل صامتًا طوال الفيلم تقريبًا، لكنَّ صمته يعبِّر عن المنفى والخذلان والتاريخ، ويختزلُ كلَّ شيءٍ في عبارة أخيرة «لقد نسيت الكلمات»، التي تتجلَّى فيها مرارة الاغتراب.

ولأن أنجيلوبولوس لا يفصل بين الشخصي والسياسي، فإنَّ الشخصيَّات دائمًا ما تحملُ آثار العالم من حولها، كما في «الخطوة المعلقة للَّقْلق»، عندما تتحوَّل قصَّة حبٍّ إلى استعارةٍ عن الوضع السياسي المعلَّق في البلقان، وفي «رحلة إلى كيثيرا»، يعود الأب المنفي إلى قريته ليُرفض من قبل أهلها وتاريخه، في غربتين: سياسيَّة ووجوديَّة.

نلاحظُ تداخل عالم الأحياء والأموات في أفلامه، إذ لا ينقطعُ حضور الراحلين. في «الأبدية ويومٌ واحد»، في حوار الشاعر مع زوجته الراحلة على الشاطئ، يخلقُ المشهد الأخير بينهما لحظةً شاعريَّةٍ-روحانيَّةٍ يتلاشى فيها الخط بين الحياة والموت. هذا المشهد، الذي يختتمُ الفيلم، ليس مجرَّد لقاءٍ عابرٍ بين زوجين، بل يتجاوزُ حدود الواقع ليصبِح لحظةً صوفيَّةً حقيقيَّة، ففي هذا الفضاء الزماني والمكاني المتجاوز، على شاطئ الذاكرة والحنين، يتلاشى تمامًا الخط الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الأموات. حضور آنا لم يكن مجرَّد استحضارٍ للماضي، بل تبدو وكأنَّها تتجسَّد في الحاضر للحظات: كلماتها، نظراتها، لمساتها - حتى وإن كانت ضمنية - تحملُ ثقلَ الأبديَّة ويوم واحد الذي قضاه ألكسندر في استرجاعها. هذا اللقاء لا يخضع لقوانين الكون أو المنطق الدنيوي، ويحدث في فضاء الروح والذاكرة المطلقة.

في «نظرة يوليسيس»، لا يمكن اختزال رحلة المخرج "أيه"، بطل الفيلم، في كونها مجرد بحثٍ عن لفائف سينمائيَّةٍ مفقودة، بل هي رحلة استكشافٍ للذاكرة الجماعيَّة لهذه المنطقة الممزَّقة بالصراعات. كلُّ مدينةٍ وقريةٍ يمرُّ بها تحمِلُ آثار الماضي العنيف، وشخصيَّاته التي يلتقي بها تمثِّل جوانب مختلفة من هذه الذاكرة المثقلة بالجراح. يصبحُ البحث عن "أوَّل نظرةٍ" للعالم استعارةً للبحث عن هويَّة البلقان المتصدِّعة، عن اللحظة التي ربَّما كانت فيها المنطقة أكثر براءةً أو وحدةً قبل أن تمزِّقها الحروب والانقسامات. في هذا السياق، يصبحُ تداخل عالم الأحياء والأموات في الفيلم ذا دلالةٍ خاصَّة، فالشخصيات التي يلتقي بها المخرج "أيه" في رحلته لا تمثِّل جوانب مختلفة من الذاكرة الجماعيَّة فقط، بل يمكنُ اعتبارها أيضًا أصداء لأرواح الماضي التي لم تستطع إيجاد السلام. إنَّها أشباحٌ تاريخيَّةٌ حيَّةٌ تتجسَّد في الحاضر، تحملُ معها قصصًا من الفقد والعنف والنزوح. هنا في هذا الفيلم، لا يتمُّ دائمًا تصوير الأموات بشكلٍ مباشرٍ كأشباح مرئيَّة، بل يحضرون من خلال الآثار التي تركوها، القصص التي تُروى، والأجواء المشحونة بالذاكرة، فتصبحُ رحلة "أيه" نوعًا من النزول إلى عالم الأرواح، حيث يحاولُ فهم حاضر البلقان من خلال التفاعل مع ماضيه الدامي وأرواح ضحاياه. يقترح الفيلم أنَّ الأحياء والأموات في هذه المنطقة لا يزالون يتشاركون نفس الفضاء، وأنَّ جراح الماضي لم تندمل بعد. وفي «الإسكندر الكبير»، تجسِّد أجسادُ الفلاحين المنهكة رمزيَّةَ الكفاح، في حين ترمز أجساد القادة إلى العنف، ويُترجَم ذلك في رقصة الإسكندر، حيث يصبحُ الجسد أداةً للمقاومة.

تمثِّل أفلام أنجيلوبولوس، بلغتها البصريَّة الفريدة ولقطاتها الطويلة وثنائياتها المتشابكة، تراثًا سينمائيًّا استثنائيًّا يستحقُ التأمُّل والدراسة المتعمِّقة، فهي تستكشف أسئلة الهويَّة والانتماء والتاريخ والذاكرة بطريقةٍ تتجاوزُ الحدود الثقافيَّة والجغرافيَّة لتلامس جوهر الوجود الإنساني نفسه. وتتشابكُ هذه الثنائيات في أعمال أنجيلوبولوس لتشكِّل نسيجًا سينمائيًّا فريدًا يتجاوز التصنيفات التقليديَّة، ويدعو المشاهد إلى رحلةٍ تأمليَّةٍ في أعماق الذات الإنسانيَّة وعلاقتها المعقَّدة بالتاريخ والزمن والمكان. رغم تعدُّد هذه الثنائيَّات - وربَّما أغفلتُ عن ذكر بعضها أيضًا - إلَّا أنَّها تلتقي جميعًا في نقطةٍ واحدة: استكشاف الحالة الإنسانيَّة في مواجهة قوى التاريخ والسياسة والزمن.

خاتمة

تشكِّلُ سينما ثيو أنجيلوبولوس ظاهرةً فريدةً في تاريخ الفنِّ السينمائي العالمي، تتجاوزُ كونها مجرَّد أعمالٍ إبداعيَّة لتصبح منظومةً فلسفيَّةً متكاملة تسائلُ الوجود الإنساني في جوهره وعلاقته بالتاريخ والزمن والمكان. وعلى الرغم من أن غالب أعماله لا تحتوي على وجهةٍ محدَّدةٍ أو أسئلةٍ واضحة، إلا أنَّ هذا الغموض المتَّشح بالشاعريَّة يخلقُ تجربةً أشبه بالرحلة الروحانيَّة، حيث تذوب الحدود بين المشاهد والعمل الفني، فأفلام أنجيلوبولوس تدعونا للغوص في أعماقها، لا كمتفرِّجين سلبيِّين، بل كمشاركينَ في الرحلة نفسها. تتحوَّل اللقطات الطويلة والإيقاع البطيء إلى طقوسٍ بصريَّةٍ تأمُّليَّة تجعلُ المشاهد ينسى ذاته ويندمج في الفضاء السينمائي المفتوح على اللامحدود. هذه الحالة من التماهي الوجداني والفكري مع العمل تشبه حالةَ الوجد الصوفي، حيث تتلاشى المسافة بين الذات والموضوع، ويصبحُ الفيلم تجربةً مُعاشة بكلِّ تجلِّياتها الحسيَّة والروحية. عندما نشاهد أنجيلوبولوس، لا نرى فيلمًا بل نعيش عالمًا بأكمله، عالمًا يمتدُّ خارج حدود الشاشة ليسكن في وعينا ولاوعينا معًا. ولا شكَّ أنَّه نجحَ بجدارةٍ في خلق لغةٍ سينمائيَّةٍ خاصَّةٍ به، ممَّا جعل أفلامه تتجاوز الحدود الثقافيَّة والجغرافيَّة لتخاطب الإنسان أينما كان.

حتى بعد رحيله المأساوي في يناير 2012 أثناء تصوير فيلمه الأخير غير المكتمل «البحر الآخر» (The Other Sea - 2012)، يبقى إرث أنجيلوبولوس حيًّا ومؤثِّرًا في الوعي السينمائي العالمي. تستمر أفلامه في طرح أسئلةٍ جوهريَّةٍ حول الهويَّة والانتماء والمنفى والذاكرة، وهي الأسئلة التي تزداد إلحاحًا في عالمنا المعاصر الذي تتفكَّك فيه الحدود وتختلط الهويَّات وتتشظَّى فيه الذكريات.

كان ثيو أنجيلوبولوس أكثر من مجرَّد مخرجٍ سينمائي: كان معماريًّا للذاكرة، وشاعرًا للصورة، وفيلسوفًا يستخدم الكاميرا لاستنطاق صمت التاريخ وتجسيد أشباح الماضي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى