الحوت.. حرب المحيط الأزرق في الداخل!

March 3, 2023

الصُوَر المترسخة في صراعات الكلاسيكيات الأدبية، بين الإنسان والمخلوقات التي تجسد الوحشية، مثل الحوت الأبيض في رواية (موبي ديك) التراجيدية والتمساح في رواية (بيتر بان) الفانتازية، يراها البعض إسقاطات على صراعاتنا الداخلية، حيث تتغذى على فكرة المواجهة، كاشفة عن الجُبن والشجاعة بلا تورية رغم تواري العدو المتربص في محيطه الأزرق، حيث تتجلى لنا دواخل شخصيات البحّارة مثل آهاب وكابتن هوك، في الاقتباس ذو النزعة السينيكية الذي يقول: «معرفتنا أنه لا جدوى من القتال هي ما يفصل الفخورين عن المثيرين للشفقة»، حيث نرى بأن الأول يسعى للاقتصاص المستحيل، ممن ابتلع ساقه وهذا ما يضفي على مسعاه شاعرية ملحمية، وإن قاوم الأنشوطة التي تخنقه، كالحيوان الرافض للإذعان وفقا لفلسفة سينيكا المناهضة للمقاومة. أما الآخر والذي ابتلع التمساح يده، لم يكن ندًا للمواجهة التي طوّحت به، فقد ذُكر تاريخه بالحاشية، على الرغم من أنه بالقصة الحقيقية كان رفيقًا لبيتر بان في "نيفرلاند" غير أنه كبر وشاخ، بينما بقى بيتر بان طفلاً للأبد، فهو لم ينتصر ليكتب تاريخ نفسه، بل ولم يدفع نفسه ولو لمرة واحدة لأن يفعل شيئًا صالحًا في حياته! 

إن هذا الوعي حيال الندم على ما فات، تجسّد في بطل فيلم «الحوت» (2022 The Whale) حين صرخ تشارلي (براندن فريزر) الإنسان المتأثل، والمُجلّل بعاره، وبحزنه الفجّ، على طليقته في مشهدٍ مؤثر تداوله أغلب من أعجب بأداء براندن.. قال : «أريد معرفة أنني فعلتُ شيئًا صالحًا في حياتي!»، مُصرًا بتعاطفه الراديكالي على توريث ثروته التي كان يجمعها على حساب صحته مبكرًا لابنته المراهقة التي كانت ترمي الكلام بلا خطام ولا زمام، حيث وعلى الرغم من الكراهية التي كانت تبديها له إلا أنه كان يراها ضمن محدداته اليقينية المأوّلة لحسن نيتها. وهذا ما جعله يتمسك بفكرة رفض إيلاء الأمراض نفسية وجسدية الاهتمام الذي  تستحقه، ليعجل من محاولة تأبين نفسه من خلال التهام المحاذير، مغذيًا لروحه الذاوية وسمنته المتخذة كرمزية سيميائية للتطهير الذي فرضته عليه نفسه اللّوامة إتجاه أزمنة انغماسه بلذة العشق الممنوع وسنوات الانعتاقات القسرية عنها. 

إنه ومن المشهد الثاني في الفيلم مع ظهور تشارلي الأول، يصاب بذبحة صدرية عابرة، بينما كان ينبري لقصف رغبة جنسية مهلكة، مُطعمًا ميوله المثلية بمشاهد اباحية يخجل من إبدائها، وفي هذا الخصوص لا أعلم إن كانت القراءة الحديثة لرواية موبي ديك فَسَرتْ نوم البّحار إسماعيل مع المتوحش كويكويج البولنيزي على سرير واحد على أنه سلوك لمثلية مضمرة، حيث قال إسماعيل: «ليس في الدنيا مكان للمكاشفة بالأسرار بين الأصدقاء مثل السرير»، وهذا الاقتباس يشبه إلى حد كبير اعتراف تشارلي للشاب المبشّر، عن علاقته السابقة في محاولته التي باءت بالفشل حين أراد استخلاص نظرة ازدرائية متقرفة تضاف إلى عملية التطهير، على اعتبار شخصية تشارلي قالب تنسكب به مثالب ومعايب جميع شخصيات عالم هيرمان ملفيل.

وعلى ذكر تعدد الشخصيات فإنه لا توجد نهاية أجمل من اقتباس مصوّر بعبقرية المخرج دارين أرنوفسكي، حين تقدم تشارلي صوب ابنته بصعوبة من يمشي على أرضٍ مغناطيسية محققاً رغبتها في رؤيته وهو يحقق ما كان يراه مستحيلاً عليه، حتى اقترب منها بثقله المرعب، ثم وبشكل مفاجئ أخذ يطفو بسيريالية نحو القبس المُسلّط فوقه، بخفة أقرب إلى عبارة آهاب المنتقم حين صاح: «ثب وثبتك الأخيرة نحو الشمس يا موبي ديك، دنت ساعتك ودنا من يدي الرمح الذي سيرديك»، موبي هو الحوت الأبيض، ولعل آهاب هو تجسيدٌ آخر لتشارلي بالمشهد الأخير حيث ظَلَّ حبيسا بداخل الجسد الحوتي، فالابتسامة الأخيرة هي ابتسامة الظفر بالاقتصاص .. ابتسامة آهاب وهو مُبتلع، حيث سيتحرر أخيراً من حمل هذه البذلة الأشبه بالقالب الاسمنتي. فالصراع وكما ذكرنا في تفاصيل الاسقاطات، سرمدي بانسانيته، داخلي بطبعه، فتشارلي الأب في مواجهة تشارلي "الحوت" المتغذي على الخطيئة العتيقة، وهي خطيئة تلوّث ميوله الجنسية، وهجرانه لأبنته. 

يظهر الاكتئاب في هذا الفيلم بثقله المكتنز، كطفيلي يكتب ملحمته بانتصار مشكوك في أمره، ويبقى المخرج دارين أرنوفسكي عرّاب غلواء النهم ونقيضه كما اتضح في هذا الفيلم المؤمكن، وفي فيلم «مرثية حلم»      (2000- Requiem for a dream). فعلى الرغم من التباين بين وجهات النظر حيال هذا العمل إلا أن هذا الفن الهجين ما بين المسرح والسينما هو أجمل ما قد يوظف به الابتكار الأعظم للإنسان، ألا وهو اللغة التي تجدها في الحوار.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى