«الحقول المغناطيسية»: احتضان سينمائي يتجاوز الشاشة.

تقود «إيلينا» سيارتها بلا وجهة محدَّدة لتقرر فجأة ركوبَ عبّارة تُقِّلها إلى جزيرة «كيفالونيا» اليونانية، وهناك تصادف «أنطونيس» الذي يتجه هو الآخر إلى نفس الجزيرة قاصدًا إيصال رفات عمته إلى مرقدها الأخير. يؤدي عطلٌ ميكانيكيٌّ في سيارة أنطونيس وأزمة بيروقراطية يشتركان فيها إلى تجوّلهما معًا في الجزيرة على أمل إيجادِ مرقدٍ لعمة أنطونيس ترتاح فيه.

بطابعٍ متحرِّرٍ وارتجالي، وقصصٍ مستوحاةٍ من قصص الثنائيات الحميمية –التي لا تُنسى- يأتي فيلم «الحـقول المـغناطيسية» للمخرج الصاعد «يورغوس غوسيس»، والذي يُعتبر فيلمًا ضروريًا يستقبلنا بقلب رحيم في عصر التباعد العاطفي والقيود الاجتماعية والعزلة الجبرية، حيث تلتقي إيلينا مع أنطونيس بالصدفة، ليخلقا للجمهور قطبين جاذبين، بأمانةٍ عاليةٍ وصدقٍ شفيفٍ يتجلى أمام عدسة المخرج جوسيس. هذه العدسة التي تتخذ صفة المراقب الذي يتأمل الشخصيات في لحظات رقيقة، أثناء تجولهم.

تم تصوير الفيلم في ظروف محفوفة بالمخاطر، إذ - بسبب ضعف الميزانية - تم اختيار كاميرا رقمية حساسة، ورغم أن هذا كان خيارًا إلزاميًّا، إلا أنه يُغذي الفيلمَ بصورة مثالية، بصفته مقترحًا جماليًا-سرديًا (خاصة بالنسبة للبالغين اليوم، فإنه يستحضر معه ذكريات كاميرا الفيديو المنزلية لمن عاشوا في التسعينات). إلى جانب ذلك، فـفيلم «الحقول المغناطيسية» يستفيد من حالة التقشف وضعف ميزانيته ليركز بوضوحٍ –غير مُلزِم- على كل ما تريد الشخصيات الحديث عنه من حيث مرورهم برغباتهم الحالية وأعباء الماضي، فهنا، يعدُّ وجود رفيقٍ يستمع إليك عنصرًا مهمًا يحدد مسار بطلينا اللذين يمتلكان ماضٍ صادق ومضحك. يصور جوسيس كلا من إيلينا وأنطونيس الوحيدين - لا المنعزلين - على أنهما بطلا قصة يرتديان ملابسهما التي تعبِّر عنهما، إذ ترتدي إيلينا لباسًا أسود موَحَّد اللون بينما ملابس أنطونيس ملونة، وهما يملآن مشهد الجزيرة الفارغ بمحادثاتهما التي تتغذى على حس دعابتهما وكلماتهما المتحررة ذات الطابع الاعترافي، مُعرِّفين نفسيهما من خلال رحلتهما التي مروا بها عبر السنين، وكما في حالة الفيلم فهما؛ غريبان يتشاركان رغباتٍ مألوفة. 

لم يكن إنجاز فيلم «الحقول المغناطيسية» ليتحقق لولا «إيلينا توباليدو» و«وأنطونيس تيسوتسيولوبوس» –اللذان شاركا أيضا في كتابة النص- فقد ساهما معا في تغذية الفيلم بخيالٍ مرسوم بدقة، وبكلمات تصف الحقيقة غير الموصوفة، وباستعداد كامل أمام الكاميرا تاركين موهبتهما الفذّة وإحساسهما الصادق بالنص ليقوداهما إلى أداء صادقٍ ومؤثر. خاصة إيلينا التي تمر على الشاشة كنسمة، بعد مسيرة حافلة في الرقص، تزور شاشة السينما واضعة بصمتها في كل فيلمٍ تشارك به «فقد حصلت على جوائز تمثيل لأدوارها في كلٍ من ”بيلا“ ، ”هيلغا في لوند“، ”غِذاء الروح“، ”زهرة الأركيدة“». تظهر إيلينا كعنصر خفيف الروح على الشاشة، تأسر من يشاهدها  فلا نكاد نستطيع صرف أنظارنا عنها، ولا أن ننجو من الشعور الذي ترسله إلينا من الشاشة. 

إن «الحقول المغناطيسية» هو احتضانٌ سينمائيٌّ يتجاوز الشاشة، بل هو أغنيةٌ تريدك أن تستمع إليها لتحفظها، خالقةً شعورًا بهيجًا نحتاج إليه، وتذكيرًا رقيقًا بأنه ما دام هناك بشرٌ يحيَون حولنا، فنحن موجودون، وأن هذا الوجود يمكن احتماله. إنه أحد أهم الأفلام اليونانية الحديثة؛ فيلمٌ يدعوك إلى أن تكون أقل غضبًا وأكثر كرمًا رغم كل شيء.

الهوامش:

*ملاحظة المترجم: مترجم من اليونانية للإنجليزية ثم العربية، صححت ودققت الترجمة الإنجليزية قبل ترجمتها إلى العربية.
المصدر

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى