الحكايا الخفية وراء فيلم «إنديانا جونز» الأول

في مثل هذا اليوم، قبل 42 سنة، خرج إلى النور أول أفلام سلسلة «إنديانا جونز»، والذي حمل اسم «سارقو التابوت المفقود». أحد أكثر الأفلام قربًا من قلب المخرج ستيفن سبيلبيرغ، وخبايا حكاية إنتاج الفيلم انطوت على مغامرة حقيقية.

يعود بنا الزمان إلى صيف 1977، حينما كان المخرجان ستيفن سبيلبيرغ وجورج لوكاس يقضيان عطلتهما معًا في هاواي. ستيف أفصح عن حماسته لإخراج فيلم بطله جيمس بوند، جورج على الجانب الآخر واجهه بفكرة المشروع التي لديه قائلاً: «دعك من بوند، سأعرض عليك ما هو أفضل منه»، وهنا ظهرت فكرة عالم الآثار الذي يجوب العالم ويعيش المغامرات المختلفة في رحلاته.

وفي واقع الأمر، كان لوكاس يفكّر بأن يوكِل مهمة الإخراج لفيليب كوفمان، لكنه كان مشغولا حينها بالعمل على فيلم The Outlaw Josey Wales. ورغم ذلك، فقد شارك في الفيلم باقتراح فكرة "تابوت العهد" ليكون العنوان الرئيس للقصة.

قَبِلَ سبيلبيرغ باقتراح صديقه جورج، وتحمس للانضمام. وسرعان ما جاءت العقبة الكبيرة حين رفضت إدارة شركة باراماونت القبول بسبيلبيرغ مخرجًا للعمل -رغم حماسهم الكبير لفكرة الفيلم- والسبب في ذلك يعود إلى أنهم وخلال المرتين السابقتين التي تعاونوا فيها مع سبيلبيرغ في فيلمي Jaws وَ Close Encounters خرج المشروع عن الميزانية التي وضعت له مسبقًا. جورج لوكاس من جانبه أصرّ على وجود سبيلبيرغ معه، ورفض أن يعمل على الفيلم مع باراماونت دون صديقه، الأمر الذي دفع الإدارة للرضوخ، مع وضعهم شروطًا واضحةً للميزانية. ولتجنّب الأمر، قام سبيلبيرغ بوضع خطة محكمة تتضمن كل قطعة سيتم استخدامها في الفيلم. وعند صدوره، وجد مسيرو الشركة بأنه لم يستهلك حتى الميزانية التي وضعت له سلفًا، في نجاح هائل.

لعبة تجميع قطع البازل: حكاية الشخصيات والممثلين

 استوحى لوكاس اسم الشخصية الرئيسية، من فيلم لستيف ماكوين اسمه Nevada Smith، والذي كان لبطله كلب اسمه "إنديانا"، وأضاف سبيلبيرغ إلى التسمية اللقب "جونز"، فصار "إنديانا جونز". ثمّ استعان جورج، بالفنان ورسّام الغرافيك جيم ستيرانكو ليساعده على رسم تصوّر لشخصية "إندي"، وبعد قراءة النص ظهرت في مخيّلته صورة هامفري بوغارت في فيلم Treasure of the Sierra Madre وبالفعل بعد أن رسم جيم الشخصية، لاقت استحسانا لدى جورج، الذي قبل بها، وبدأ يبحث عن ممثل لتجسيدها، ولم يُرد أن يختار هاريسون فورد، الذي سبق وأن عمل معه في فيلم Star Wars، فبحسب قوله لسبيلبيرغ: «لا أريد أن يصبح فورد هو دي نيرو الخاص بي»، في إشارة إلى علاقة العمل الطويلة التي تجمع بين سكورسيزي ودي نيرو. فوقع اختياره على جاك نيكلسون ثم مايكل بين فـ دون جونسون وديفيد هاسلهوف وأخيرًا توم سيليك الذي استقر عليه الأمر بالاتفاق بين جورج وستيفن. وفشل السعي إليهم جميعًا لأسباب متعددة، منها انشغال البعض بأعمال أخرى، أو عدم الوصول إلى اتفاق بخصوص الأجر، فاضّطرا في نهاية المطاف إلى العودة إلى هاريسون فورد.

وبعد استقرارهم على أساسات الفيلم، بدأ الاثنان بجمع الرموز التي سيتم استخدامها في القصة. فبينما كان جورج لوكاس يتمشى في شوارع لندن، وقعت عينه على قبعة معروضة في متجر هربرت هاريسون، وشدّه اسمها، "قبّعة الشاعر / Poet Hat". رآها مناسبة جدًا مع بعض العمل لتكون رمزًا لشخصية إنديانا، وبالفعل، اشتراها، وسلّمها لفريق العمل، الذين أضافوا إليها بعض اللمسات لتبدو قديمة ويتناسب شكلها مع شخصية عالم الآثار الذي يعمل طوال النهار تحت الشمس الحارقة.

الشخصية الثانية في القصّة، هي ماريون رافينوود، صديقة إنديانا، الاسم الرائع للشخصية ابتكره كتاب السيناريو لورانس كاسدان، الذي كانت جدته تدعى ماريون، وفي كل يوم، في طريقه إلى الاستوديو في لوس أنجلوس، كان يقود سيارته على طريق رافينوود كورت. فنسجت مخيّلته الاسم، الذي سيبقى محفورًا في ذاكرة الملايين. وقد تنافس على أداء الدور كلٌ من آمي إيرفينغ، جين سيمور، ديبرا وينغر، وماري ستينبرغن عبر مشاركتهن في تجارب أداء متعددة، وجميعهن لم يقنعن سبيلبيرغ، فذهب لاختيار كارين ألين لتأخذ الدور بعد إعجابه بأدائها في فيلم National Lampoon's Animal House، حيث اعتقد أنها كانت جميلة ورائعة، لها قدرة كبيرة في تمثيل الدراما والتعبير عن الكوميديا عبر تفاعلها الجسدي.

ثم جاء دور الشخصية الثالثة، "صلاح"، الصديق الثاني لإنديانا... وقد اقترحت إدارة الأستوديو اسم داني دي فيتو ليشغل الدور لكنّه كان حينها مشغولاً بتصوير مسلسل Taxi الكوميدي، الأمر الذي دفع سبيلبيرغ للتدخل مرّة أخرى واقتراح اسم جون ريس-ديفيز ليكون صاحب الدّور، وكان خيارًا موفقًا جدًا.

رينيه بيلوك هو شخصية الشرير في القصّة، وقد تمّ اختيار بول فريمان ليجسّدها. في مشهد من المشاهد، نرى ذبابة تزحف إلى داخل فمه ثم لا نلمحها تخرج. لاحقًا أوضح فريمان أن سبيلبرغ قام بقص بعض الإطارات عمدًا كي لا نرى الذبابة تغادر فمه أبدًا، فقط لأنه وجد بأنها لقطة مضحكة.

في الفيلم نرى الممثل البريطاني بات روتش يظهر مرتين مجسّدًا شخصيتين مختلفتين وفي المرتين ينتهي به الأمر بالموت. المرة الأولى كقاتل شيربا في حانة ماريون، ثم مرة أخرى في دور الميكانيكي الألماني الذي يقاتل إنديانا، والذي ينتهي الحال بجسده ممزقًا بواسطة مروحة محرك الطائرة.

لعبة تجميع قطع البازل: تكوين فريق العمل

كان جورج لوكاس قد عمل للتو مع لورانس كاسدان في فيلم The Empire Strikes Back، الأمر الذي دفعه لأن يحضره كي يعمل على كتابة سيناريو الفيلم. كتابة نص الفيلم المتقنة تُخيّل إلينا أن الرجل له باع طويل في المجال، لكن في الحقيقة، كان هذا الفيلم هو الثاني فقط في مسيرته ككاتب سيناريو، وأنه لم تمرّ إلا عدّة أشهر فقط منذ احترافه الكتابة للشاشة.

في النص الأولي للفيلم، كانت هناك رحلة إلى شنغهاي تضمنت مطاردة بعربة المنجم. ثم أعقبتها لحظة أخرى حاول فيها إنديانا حماية نفسه من الرصاص بالاختباء خلف طبل من الصفيح. كلتا الفكرتين سيتم تأجيلهما لتُعرضا في الجزء الثاني من الفيلم:  Indiana Jones and the Temple of Doom.

النوتة الموسيقية الأيقونية للفيلم كانت من تأليف جون ويليامز، الذي كتب في الأصل قطعتين موسيقيتين، أحبهما سبيلبيرغ كليهما، لذا بدلاً من الاختيار فيما بينهما قال له: "هل يمكنك أن تجمعهما معًا" وهذا ما فعله ويليامز.

لوكاس وسبيلبيرغ وقع اختيارهما على دوغلاس سلوكومب ليكون مدير التصوير، وهو رجلٌ مخضرم كان يملك في سجله خبرة 5 عقود في المجال حينها. كان العمل معه سلسًا جدًا، سبيلبيرغ يصف ما يريد وفي الجهة المقابلة سلوكومب يجيبه: "أوه ، هذه فكرة للَقْطة رائعة"، ثم يذهب للعمل ويصوّرها. وبهذه الطريقة خرجت لنا اللقطات الرائعة التي شكّلت الفيلم.

أن تصوّر فيلمًا تحت لهيب الشمس الحارقة

أراد سبيلبيرغ عشرة آلاف ثعبان لمشهد  حائط الأرواح، لذلك قام المنتجون بتجفيف كل متاجر الحيوانات الأليفة في لندن. وبمجرد أن يتم وضع جميع الثعابين في مكانها، قال سبيلبيرغ "لا يوجد ما يكفي، نحن بحاجة إلى المزيد"، لم يكن حينها قد بقي ثعبان واحد في لندن، لذلك وجد الطاقم أن الحلّ في الخراطيم مطاطية، فقاموا بتقطيعها إلى أجزاء وألقوا بها في الحفرة.

معالج الثعابين - ستيفن إيدج – كانت له ساقان نحيلتان تشبهان إلى حدٍ ما ساقي كارين ألين، والتي بدورها لم تكن على استعداد لأن تقف بساقيها المثيرتين بين الثعابين، لذلك طلب سبيلبرغ من إيدج أن يحلق شعر ساقيه وأن يرتدي فستانًا، وهو ما فعله، ومن ثمّ دفع به أمام الكاميرا ليمثّل المشهد بدلاً عن ألين.

مشاهد القاهرة في الفيلم تمّ تصويرها في تونس، تحت شمس لاهبة ودرجة حرارة فاقت الأربعين درجة مئوية، ولم يقف الأمر عند مكابدة حرارة الأجواء، فقد أصيب 200 من أفراد الطاقم بالتسمم الغذائي، سبيلبيرغ كان واحدًا من القلائل الذين نجوا لأن نظامه الغذائي كان يتكون بالكامل من المياه المعدنية المعبأة في زجاجات ومكرونة السباغيتي المعلبة.

معاركات عدّة تمّ تصويرها تحت لهيب الشمس، بعد نهاية إحداها قال فورد -بطل الفيلم- لسبيلبيرغ: "أريد أن يكون المسدس الذي بين يدي حقيقيًا وأن أطلق النار على رأسي"، هذه كانت درجة المعاناة التي بلغها طاقم العمل من التعب ومكابدة الظروف القاسية.

في نهاية الفيلم نرى التابوت المنشود يفتح أخيرًا، مطلقًا العنان لوابل من الأرواح، التي كانت في الأصل مؤثرات بصرية خاصة تم تصميمها باتقان شديد. فالمشرف على المؤثرات البصرية في الفيلم كريس والاس، قام بتصوير عدّة ممثلين تحت الماء، ثم أخذ هذه اللقطات وأعاد معالجتها لتظهر صورهم كأرواح خارجة من التابوت.

والاس كذلك قام بصنع مجسمات طبق الأصل من أجساد الممثلين، من خلال غمرهم أولاً في حمض الألغينيك (Alginic acid) ومن ثمّ صبّ الشمع في المجسمات، وبعد ذلك إضافة الصوف ليكون بديلاً عن الشعر، ثم استخدام الألوان لصبغ البشرة. وتم تصوير لقطات تذويب هذه المجسمات على مدى 10 دقائق كاملة، يليها تسريع اللقطات لتظهر لنا كما نشاهدها في الفيلم، حيث تذوب لمدة 5 ثوانٍ فقط.

وبعد كل هذه الحكاية الطويلة، والمغامرة التي تبدو في تفاصيلها أكثر تعقيدًا من رحلة العالم إنديانا جونز ومغامراته، ظهر الفيلم على شاشات السينما في 12 يونيو 1981. وقد أثبت شعبيته سريعًا حيث احتل المركز العاشر في شباك التذاكر في أمريكا الشمالية لمدة 41 أسبوعًا متتاليًا، ولم يغادر دور العرض حتى عام 1982. وليس من المستغرب أنه كان الفيلم الأكثر حصدًا للأموال والأرباح من بين الأفلام الصادرة في العالم 1981 .

واليوم ونحن نحتفي بهذه الذكرى، نرى النسخة الجديدة من الفيلم تطرح على شباك التذاكر في السينما، معيدة اللقاء بين هاريسون فورد وكارين ألين، ليعيشا المغامرة الجديدة التي أخرجها جيمس مانغولد، في محاولة لاستعادة شيء من عبق وتاريخ تحفة سبيلبيرغ وجورج لوكاس.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى