يصعبُ تحليل فيلم «كعكتي المفضّلة» (My Favourite Cake - 2024) خارج سياقه الزمني، وما قُدِّر له من حضور في سرديَّات تاريخ السينما لأجيال ما بعد الثورة. قد كتب الكثيرون عن هذا الجانب من العمل، وسيُكتب أكثر. وعلى الرغم من عدم إمكانيَّة تجاهل «سياق الإنتاج» في نقد العمل، تركِّزُ هذه المقالة على أسلوب معالجة القصَّة وتنفيذها سينمائيًّا.
حاولت الحبكة أن تتَّسم بالبساطة (المينيمالية) ولكنها، وبسبب السرد الفجِّ والمتسارع، لم تُفضِ إلى التوازن أو التناسق. ولتوضيح الفكرة، نعود إلى مشهدٍ قلَّما حظي بالاهتمام من فيلم «بطل» (A Hero - 2021) لأصغر فرهادي. في المشهد الختامي، نرى الشخصيَّة الرئيسيَّة منشغلةً بإنهاء إجراءاتٍ إداريَّةٍ بغرض عودته إلى السجن بعد انقضاء فترة إطلاق سراحه المؤقَّت. في خلفيَّة المشهد، يظهرُ مسنٌّ يمرُّ بإجراءات الإفراج، موزِّعًا الحلوى على القائمين على السجن. ولكن الكاميرا تتابع التقاط المَشاهد غير مباليةٍ ببطلها الرئيس.
يخرج المسنُّ من باب السجن، وفي عمق اللقطة تظهر عجوزٌ ترتدي الشادور وتحتضنه (ربَّما تكون زوجته). في مقدِّمة الصورة لا يزال بطلنا ينتظر إنهاء إجراءاته، وهو يملأ الإطار بالكامل، أمَّا الرجل والمرأة المسنَّان، وبعد حديثٍ قصيرٍ يتوجَّهان نحو الحافلة التي وصلت إلى المحطَّة، مبتعدَين عنَّا وماضيَين في طريقهما... لعلَّهما ذاهبان إلى المنزل.
هنا يكملُ فرهادي سردَه بأدقِّ طريقةٍ ممكنة وبرويَّةٍ ضمن مشهدٍ طويلٍ للغاية: تجلس المرأة في المقاعد النسائيَّة في الحافلة، بينما يجلس الرجل بحالةٍ طبيعيَّةٍ تمامًا، ومن دون تساؤل، في مقاعد الرجال.
الآن أصبحت صورتهما مغمورةً تمامًا في الخلفيَّة. إنَّهما شخصان عاديَّان، وبناءً على سنِّهما، فلربما تحمَّلا سنواتٍ طويلةٍ من المعاناة والفراق؛ يشعران بالاشتياق لبعضها، ولديهما آلاف الكلمات التي يريدان تبادلها، لكنَّهما يسيران بعيدًا عن بعضهما، كلٌّ منهما إلى مصيرٍ مجهول، تحت قهرٍ مفروض، لكنَّه يبدو مقبولًا. ونحن نظلُّ مع هذا السؤال: أيُّ فضيلةٍ هذه تتحوَّل إلى قانونٍ كهذا؟
لقد دمج فرهادي الشكل والمضمون بدقَّةٍ لا تُضاهى، سواء في سردِ القصَّة أو في التفاصيل التقنيَّة في التنفيذ. الاتفاق يحدثُ في الخلفية، حيث يتجلَّى التناقض بين الواقع الراهن والحياة الاجتماعيَّة الإنسانيَّة، هو جواب فرهادي عن الأسئلة الكبرى لشخصيَّاته، الذين، مهما حاولوا أن يكونوا أخلاقيِّين، فـنتيجة أفعالهم تظلُّ غير أخلاقية؛ والسبب دائم الحضور في الخلفيَّة، لكنَّه لا يُلحَظ إلا نادرًا.
يقعُ هذا المشهد في نهاية الفيلم، حيث تصبح الأسئلة ألح، وتظل مستعصيةً على الجواب. والأكيد أن فرهادي، بأسلوبه الدقيق، يحملُ رسالةً مباشرة، لأن الفنَّ ينبغي أن يصف، لا أن يشرح أو يبرِّر. هذا هو التناغمُ الكامل بين الشكل والمضمون.
رغم نقاط القوَّة المتعدِّدة، فإنَّ الضعف الأساسي لفيلم «كعكتي المفضّلة» يكمنُ في عدم انسجام سياق القصَّة مع شكلِ السرد والتنفيذ. أولى المشاكل هي إيقاع السيناريو؛ إذ إن قصَّة المسنَّيْن - كما أدركها المخرج - لا مناص لها من البطء، فجاءت حركة الكاميرا والفضاءات، بل والأداء التمثيلي، كلُّها تنسجم مع هذا الزمن الرتيب الممل الذي يمرُّ ببطء. لكن وبخلاف تلك العناصر، يبدأ بناءُ شخصيَّةِ القصَّة على نحوٍ متسرِّعٍ للغاية. فمنذ بداية الفيلم نرى المرأة تبحث عن رجل، دون أن تحظى الجوانب الأخرى من شخصيَّتها بتطوُّرٍ يُذكر. سواء في الحفلة المنزلية، أو في المخبز، أو حتى في الحديقة ومع عامل النظافة، الوضع هو ذاته. نرى مَشاهد من وحدة المرأة، وعلاقتها مع أبنائها، أو تعاملها مع رجال الشرطة في الحديقة؛ المشاهد سطحيَّة وكليشيهيَّة، وكأنَّ القصة تستعجل التقدَّم.
في الواقع، الإيقاع كان بطيئًا لكافَّة عناصر الفيلم، باستثناء السرد نفسه، كلنا ننتظر رجلًا سيأتي، وهذا الرجل يأتي فجأةً وتمضي القصة بعدها بسرعة البرق. هنا، يفقدُ إيقاع أداء الممثلين - الذين كانوا رائعين بالمناسبة - روحه، بسبب سرعة السرد. وهذا الوضع يستمرُّ حتى نهاية الفيلم.
المشكلة الثانية تكمنُ في المباشرة "الفجّة"، بل والمبالغة في كثيرٍ من المواقف. إلى أيِّ حدٍّ يمكن حدوث كلَّ هذا التعارف والتقدُّم فيه بسرعةٍ كبيرةٍ لشخصَين مسنين؟ أيِّ مسنٍّ سيتذكر الفياغرا بعد عشر دقائق فقط من رؤية امرأةٍ في السبعين؟ وكم من الخوف يتملَّك شخصين ذوي خبرة حتى يوقفان السيارة في زقاقٍ آخر، في هذا العصر، وليس في عقد الستينيَّات؟ وتلك الجارة! تلك المسنة! كان مشهدُ تحذيرها للبطلة مبالغًا فيه وغير متقن، وربما لن يكون مقنعًا إلا لجمهورٍ غير إيراني.
وطبعًا لهذه المشاهد مبرّارتها. فنهاية الفيلم مثلًا، المذهلة للغاية، أغوت المخرج إلى حدِّ تحطيم الحبكة! نعم، المشكلة الثالثة هي فكرة النهاية "الرائعة" للفيلم. خلافًا للعديد من الانتقادات، فالفكرة الرائعة التي شُكِّلت حول نهاية الفيلم، هي موتُ المسن بسبب تناول الكحول والفياغرا في وقتٍ واحد، وهو أمرٌ شجاعٌ وإنسانيٌّ للغاية.
هذا الحدث يضيف رتوشًا إلى شخصيَّة بطل القصة، ويعطيها بعدًا إنسانيًّا أكثر. وبالطبع يضفي على السيناريو ثراءً فكريًّا أعمق، علاوةً على تنبيهه إلى التابوهات المفروضة على جيلٍ كامل، وإلى المحرَّمات المرتبطة بالممارسة الجنسيَّة؛ فالسيناريو قد جسَّد هشاشة المسن الوحيد بألطف صورها. ولكنَّ المعضلة الكبرى هنا هي أنَّ المخرج قرَّر بقاء الموت طي الكتمان.
إنّ وسوسة دفن عشقٍ دام ليلةً واحدةً في الحديقة، لم يكن عدم حضوره ليؤثِّر في السرد، لكن وجوده دمَّر منطق السيناريو بصورةٍ مؤسفة. وها قد أصبحنا الآن بحاجةٍ إلى تلك الجارة الصارمة، وإلى رَكْن السيارة في الزقاق المجاور، وإلى تسارعٍ في التعارف، وإلى شراء حبوب الفياغرا في الليلة الأولى، وإلى الوقوع فجأةً في الحب، بتلك الصورة المتعجِّلة التي لا يوجد لها أي شاهد.
لسنا مخوَّلين أن نقرِّر بدلًا من كاتب السيناريو، أو نملي عليه ختام الفيلم بموتِ شخصيَّة الرجل المتعقِّل. لكنَّنا نحمِّله مسؤوليَّة الإخلال بإيقاع القصَّة ومنطقها، وتشويه شكلِ السرد، فقط لأنَّه أراد إبقاء هذا الموت في طيِّ الكتمان.
كان الهدف من مقارنة المشهد النهائي من فيلم «بطل» بفيلم «كعكتي المفضَّلة» هو الوصول إلى هذه الملاحظة تحديدًا: أنَّ عناصر الفيلم، حين تتناغم معًا، تنتجُ منطقًا سرديًّا متماسكًا، وهذا المنطق هو الأساس لأيِّ عملٍ باقٍ في الذاكرة.
من البديهي أن نتوقَّع من فيلمٍ يقوم أساسه على سردٍ طبيعيٍّ لحياةٍ عاديَّة - وهو أمرٌ جديرٌ في حدِّ ذاته بالاحترام والتأمُّل - أن يكون على مستوى أكبر من التماسك.
وأيضًا، آمل من صنَّاع هذا الفيلم، في أعمالهم القادمة، أن يعترفوا بالجمهور الإيراني بصورةٍ أكبر ممَّا قدموه في هذا الفيلم؛ فهو جمهور يدرك جرأتهم في تمثيلِ ما هو موجود فعلًا، بقدر ما يدركون حياتهم الطبيعيَّة. وفي هذه القصة، ثمَّة ألمٌ نبيل.
***