«الغرفة المجاورة»: استكشافٌ تأمُّليٌّ للفناء، للصداقة ولتقرير المصير

May 25, 2025

يجعلُ فيلم «الغرفة المجاورة» (The Room Next Door - 2024)، وهو العمل الثالث والعشرين للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار وأوَّل أفلامه الطويلة الناطقة باللغة الإنكليزيَّة، من الموت بطلًا للحكاية. الموتُ موضوعٌ متكرِّرٌ سبقَ وأن تناوله صاحب «الحديث معها» (Talk to Her - 2002) في العديد من قصصِ أفلامه. عُرِضَ الفيلمُ في مهرجانِ البندقيَّة السينمائيِّ الأخير، وبعد طول انتظارٍ أنصف المهرجان ألمودوفار بمنحه جائزةَ الأسد الذهبي.

في الفيلم تلتقي صديقتان قديمتان، وكلاهما كاتبتان، مرَّةً أخرى حين تكتشفُ إحداهما أنَّ صديقتها مريضةٌ وتخضع للعلاج. تعلم إنغريد (جوليان مور) أنَّ صديقتها مارثا (تيلدا سوينتون)، والتي كانت تعملُ صحفيَّة معها في نيويورك في سنوات شبابهما، مريضةٌ جدًّا والسرطان يهدِّد حياتها التي قد تفقدها على المدى القريب. يصبحُ الاقترابُ من نهاية الحياة سببًا في إعادة صداقتهما، ويقودُهما إلى القيام برحلةٍ لا عودة منها، ولكنَّها ستكون مفتاحًا لكلٍّ منهما. يستخدم الفيلم بعض الاستعارات المعروفة: الألم، المجد، تدهور صحَّة الجسد، خيارات الطبِّ التقليدي، وقرارات الإنسان بشأنِ الموت. يمكنُ أن تكون نهاية الحياة مرعبةً ومؤلمة - كما تتصوَّرها شخصيَّة مور - أو يمكن أن تكون إعلانًا للحريَّة، كما تقول شخصيَّة سوينتون.

يعدُّ فيلم ألمودوفار الرائع، المقتبس عن رواية «ما الذي تمر به» (What Are You Going Through) للكاتبة الأمريكية سيغريد نونيز الصادرة عام 2020، احتفاءً بمعجزةِ الحياة وجهًا لوجهٍ مع الموت. يعرض الثنائي جوليان مور وتيلدا سوينتون جمالًا داخليًّا وخارجيًّا يرفع قصَّة الموتِ إلى عالمٍ غير متوقَّع، حيث تسودُ الصداقة والرعاية وتقدير قيمة العطاء في الحياة. شأنه شأن العديد من أفلام ألمودوفار الأخرى، يبدأ فيلم «الغرفة المجاورة» بلقاءٍ جاء بالصدفة: تلتقي إنغريد، وهي كاتبةٌ ناجحةٌ في نيويورك، بستيلَّا زميلتها منذ سنوات، وهذه الأخيرة تخبرها أن مارثا، المراسلة الحربيَّة صديقة الاثنتين، طريحةُ الفراش في سرير المستشفى لكونها مصابة بسرطان عنق الرحم. وكما هو معتادٌ في أفلام ألمودوفار، تظهر شخصيَّة إنغريد وكأنَّها تعيشُ دون روابط، وبهذا المعنى فهي على استعدادٍ لتركِ كلِّ شيءٍ من أجلِ مرافقةِ مارثا في اللحظات الأخيرة من حياتها. ستموت مارثا في وقتٍ قريب. في البداية تبدو إنغريد وكأنَّها تشعرُ بالذنب لجهلها بمرضِ صديقتها أكثر من شعورها بالحزن لعدم اتصالها بها لسنوات. عندما لا يعطي العلاج التجريبي الذي تخضعُ له مارثا النتائج المُتَوقَّعة، تقرِّر المرأة، التي سئمت بالفعل من الألم والمعاناة، شراء حبَّةٍ من السوق السوداء تساعدها على الموت الرحيم، وتطلب من صديقتها إنغريد مرافقتها، قائلةً لها إنَّها بحاجةٍ إلى شخصٍ ما ليكون موجودًا عندما يحين الوقت، حتى لو كان في الغرفة المجاورة فقط. 

سرعانَ ما تترابط المرأتان وكأنَّ الوقت الذي مرَّ منذ أن التقيتا آخرَ مرَّةٍ لم يكن موجودًا. يملأ وجهاهما الرائعان الشاشةَ بفرحٍ طفولي في تصوير سينمائيّ بديع برع فيه إدوارد جراو. وكما هو معتادٌ دائمًا في أفلام المخرج الإسباني ألمودوفار، تبرزُ الملابس ذات الألوان النابضة بالحياة (تصميم الأزياء من بينا دايجلر) والديكورات الجذَّابة (من تصميم إنبال وينبرج، وبإدارةٍ فنيَّةٍ من غابرييل ليست)، وترسم مزاجًا يبدو وكأنَّه انطلاقةٌ لحياةٍ مشرقة أكثرَ من كونه خاتمةً للحياة. إنَّ المزهريَّة ذات الزهور الجميلة والمنظر الرائع لأفقِ مانهاتن من نافذةِ غرفة المستشفى الرائعة تدفع المشاهد إلى نسيان أنَّ الموتَ حاضر. إنغريد (جوليان مور) روائيَّة، في حين كرَّست الكاتبة مارثا (تيلدا سوينتون) جزءًا كبيرًا من حياتها للعمل كمراسلةٍ حربيَّة. كلتاهما في الستينيَّات من العمر ويتمتَّعان بحياةٍ مريحة، بيد أنَّ حياة مارثا توقَّفت فجأةً نتيجةَ تشخيصٍ طبيٍّ كارثي.

يُطرحُ طلبُ المساعدة في سياق الانتحارِ بوضوحٍ في الفيلم، رغم أنَّ الموت الرحيم يعدُّ مخالفًا للقانون في هذه البلدة الأمريكيَّة. ومع ذلك فإنَّ الموضوع يظل مطروحًا للنقاش، بما في ذلك أبعاده القانونيَّة والأخلاقيَّة المتعدِّدة. وبعد أن أصبحت إنغريد هي الشخص الوحيد الذي يرافق مارثا في لحظاتها الأخيرة، لأنَّ أقرب أصدقائها رفضوا القيام بهذا الدور وحتى إبنتها الوحيدة، تروي مارثا حكايتها متأمِّلةً في أخطائها وخيباتها، في عدم قدرتها على أن تكون أمًّا حقيقيَّةً لابنتها. كما تتحدَّث عن ابنتها المنفصلة عنها، تلك التي جعلت الأمّ تتساءل منذ البداية عمَّا إذا كانت قد استُبدِلَت عند الولادة.

لقد أنجبتها عندما كانت في سنِّ المراهقة، وتتذكَّر تجربة الأمومة في مدينة نيويورك في الثمانينيَّات، دون أن تشعُر يومًا أنَّها كانت الأم التي كان يُفترضُ أن تكونها، أو أنَّ الأمومة كانت تناسبها فعلًا. يضمُّ الفيلم لمحةً سريعةً من الماضي ولقاء مارثا الشابة بحبيبها فريد، الأب الغائب الذي سيعودُ من الفيتنام مثل "روحٍ مكسورة". يرسمُ المخرج مشاهدَ لحياةٍ ضائعةٍ في لحظاتٍ وجيزة، وصارخةٍ مؤثِّرة، توضح استياءَ الابنة من اهمالِ والدتها لها، كما ترويها والدتها المحتضرة لصديقةٍ من الماضي. وتثير ذكريات أخرى عن تجارب (مارثا) المراسلة الحربيَّة في العاصمة العراقيَّة بغداد أثناء حرب العراق تبادلًا لأطراف الحديث حول طبيعة الخيال والحبِّ في أوقات الحرب. تستمر المحادثة بين المرأتين في حديقة جيفرسون الصغيرة، حيث تتذكران "حبيبهما المشترك" داميان (جون تورتورو). كما تكشف مارثا أيضًا لقاءاتها طوال حياتها كمراسلة حربٍ في الميدان. في حين لا نعرف سوى القليل عن الروائيَّة إنغريد التي تضعها المؤلفة وكاتبة السيناريو بالكامل في خدمة صديقتها، بينما لا نعرف عنها سوى الحبيب المشترك الذي تحافظ إنغريد على اتِّصالها السري به. 

ثمَّة جانب جمالي آخر لا بدَّ من تسليط الضوء عليه، ألا وهو الموسيقى التصويريَّة لألبرتو إغليسياس، المتعاون الأبدي مع ألمودوفار. وكما هو الحال في كثيرٍ من أفلام المخرج الإسباني، نادرًا ما تخلو لقطة، أو مشهد، من تلكَ الأنغام الحزينة الجميلة التي تنبعث منها لمسة حنين، وكأنَّ روح الملحِّن الباسكي العظيم حاضرةٌ في كلِّ زاويةٍ من زوايا الفيلم. 

"الثلج يسقط على الأحياء والأموات" 

الموت أمرٌ لا مفرَّ منه، وهو قضاءُ الله وقدره. ومع ذلك، يُصاب بعض الناس بهوسٍ شديد به، حتى إنهم ينسون كيف يعيشون، بينما يُحاول آخرون تجنّب التفكير فيه قدر المستطاع. لا يهم، سيكون المصير هو نفسه للجميع، سواء أكان الأمر يتعلق بأغنى شخص في العالم أو بمن لا يملك ما يكفي من المال حتى ليعيل نفسه. وبالطبع، لا يعني هذا أنَّ الموت كان موضوعًا غائبًا تمامًا في سينما ألمودوفار، لكن فيلم «الغرفة المجاورة» كان الأكثر تميزًا وارتباطا به.

في الفيلم، تتجول الكاتبتان في حارة الذكريات، حيث ينجرف الفيلم في خيالاته إلى إسترجاع ذكريات ماضية، وتشمل المشاهد تأملات المريضة مارثا مع حبِّها الأول في سبعينيَّات القرن الماضي. هذا الحبيب كان محاربًا قديمًا في حرب فييتنام سقطَ بطريقةٍ مأساويَّةٍ؛ ضحيَّةً لهلوسة اضطراب ما بعد الصدمة، والتي قادته إلى دخول مبنى محترق. ورغم النهاية المؤلمة، أثمرت علاقتهما طفلةً أصبحت لاحقًا بعيدةً عن والدتها، لكنها تعود لتلعب دورًا محوريًا في خاتمة الفيلم. 

بإصرارٍ لا يلين، اختارت مارثا، الكاتبة والمراسلة الحربيَّة لصحيفة «نيويورك تايمز»، أن تنهي أوجاعها وتضع حدًّا لآلامها. فبعد أن توقّف العلاج الكيميائي عن التأثير، باتت ترى أنَّ الموت برصانةٍ وكرامةٍ أرحم من العيش في ألمٍ دائم. إلَّا أنَّها لا تذهبُ إلى سويسرا، حيث يُعتبر توفير الوسائل اللازمة للموت الرحيم أمرًا قانونيًا، بل في منتجع هادئٍ على ضفاف بحيرة في شمال ولاية نيويورك، بجوار صديقتها إنغريد في الغرفة المجاورة. ويبلغُ هوس مارثا نهايته بهدوء، حين تُختَتم حياتها بروحٍ تُغمض عينيها في لحظةٍ شاعريَّةٍ تتزامن مع تساقط الثلوج.

لعلَّ أبرز نجاحات المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار تتجلّى في لمساته الجمالية المعتادة، لا سيما في مشهد الموت الرحيم، الذي يرتبط بصريًا بلحظة الذروة، لحظة اكتشاف جسد مارثا الميت. ويأتي ختام الفيلم محمّلًا بجملة غنائية ذات بعد وجودي عميق: "الثلج يسقط على الأحياء والأموات"، وهي عبارة تتحوّل تدريجيًا إلى "الفكرة المهيمنة" على العمل، تُلخّص كل ما أراد الفيلم قوله في صورة شعرية مكثفة.

من الواضح أن ألمودوفار، الذي يبلغ من العمر الآن 75 عامًا، بات منشغلًا كثيرًا بفكرة الموت. لا يُعدّ فيلمه «الغرفة المجاورة» عملًا فلسفيًّا ثقيلًا، إلَّا أنَّه يتطوَّر إلى تأمُّلٍ لطيفٍ وصادقٍ في الشيخوخة والموت، وفي التساؤل عما إذا كان من المناسب العثور على الفرح في أكثر الظروف يأسًا. بالتالي فإنَّ فيلم ألمودوفار هو استكشاف تأمُّليٌ ومذهلٌ بصريًّا للفناء، للصداقة ولتقريرِ المصير.

نقلَ المخرجُ الإسباني الأسطوري أسلوبَه المميَّز إلى الولايات المتحدة من أجل هذا "التأمُّل الصادق واللطيف" في الشيخوخة والموت والذي يتميز بأداءين رائعين. وجدت مارثا حبَّة الموت الرحيم معروضةً على شبكة الإنترنت المظلمة (Darknet)، لكنَّها لا تريد أن تكون بمفردها عندما تتناولها، بل تريد أن تكون صديقتها إنغريد إلى جانبها. في الغرفة المجاورة، تمثّل مارثا الموت الذي اقترب، بينما تجسد إنغريد الحياة، وهي توثق بتأنٍّ تفاصيل عذاب صديقتها من أجل روايتها القادمة.

تنطلقُ الصديقتان في رحلة إلى الريف بحثًا عن ملاذٍ لطيفٍ يصلحُ للأيام الأخيرة من حياةٍ على شفا الزوال. وما إن تصِلا إلى هناك، تكتشف المريضة أنَّها نسيت الحبة القاتلة، فتسلكان طريقَ العودة لتتقاطعا في الطريق مع حكايات الناس اليوميَّة: هموم المال، تعب الأطفال، تقلُّبات العشَّاق، شجون الأزواج وضيق السكن… حكاياتٌ تثير الحزن بقدرِ ما تفجِّر الضحك، في مفارقةٍ مريرةٍ تختزل عبثيَّة الحياة.

من الناحية الموضوعيَّة، يعدُّ الفيلم تأكيدًا على جمال الحياة الزائل، ونقدًا للمحرَّمات المجتمعيَّة المحيطة بالموت والاستقلالية، ولا يطرحه على أنه نقاش أخلاقي، بل كفعلٍ شخصيٍّ عميق. بحساسيَّةٍ وعمقٍ يستكشف ألمودوفار المعضلة الأخلاقيَّة المحيطة بحقِّ كلِّ فردٍ في اختيار نهاية لحياته. ومن خلال الأداء الرائع لتيلدا سوينتون وجوليان مور، يُغرِقُ المخرجُ المشاهد في جوٍّ حميمٍ ومؤثِّر، متسائلًا عن حدود الحريَّة الفرديَّة في مواجهة معاناةٍ لا تطاق.  

بالإضافة إلى الجانب السردي، ثمَّة بروزٌ للجانب الفلسفي في «الغرفة المجاورة»، حيث يُدعى الجمهور للتفكير في الموضوعات المحظورة ولكن الحاسمة في عصرنا. ربَّما هذا ما دفع ألمودوفار للاستعانة بممثِّلتين من نفس الجيل بغية إبراز هذين الجانبين بصورةٍ واضحة، فتيلدا سوينتون (مارثا) تجسِّدُ التحوُّل والتجريد، وتُثير تساؤلات حول ثبات الذات، في حين تعبِّر جوليان مور (إنغريد) عن الهشاشة العاطفية والذاكرة المتصدعة، وجمعهما معًا يخلق ثنائيَّة فلسفيَّة بين الفكر والعاطفة، وبين الغموض والحنين. هذا الثنائيُّ يعملُ بتناغمٍ مثالي، ويمنحُ الحياة لقصَّةٍ مشوبةٍ بالكآبة والفروق الأخلاقيَّة والعاطفيَّة الدقيقة التي تحيط برغبة مارثا في إنهاء حياتها بكرامة. تُبرز هذه التفاصيل رؤية ألمودوفار الفريدة وأسلوبه المميَّز بجماليَّةٍ خاصَّة، مع وجود ألوانٍ زاهيةٍ مثل الأحمر والأخضر والأرجواني في الفساتين والأثاث والمناظر الطبيعية، كما تضفي الفروق الدقيقة على البيئة سلامًا بصريًّا يتناقضُ مع جديَّة الموضوع. يبدو أنَّ الاتجاه الفني، المفعم بهذه النغمات النابضة بالحياة، يشير إلى أنَّ الموت نفسه يمكن أن يكون له بعض الجمال والكرامة والابتعاد عن أيِّ رؤيةٍ قاتمة.

يجد ألمودوفار أيضًا التوازن المثالي بين الدراما والكوميديا والجوانب الإنسانيَّة، مستندًا إلى الإخراج وعمل الكاميرا اللذين يعملان في وئامٍ لالتقاطِ كلِّ إيماءةٍ وكلِّ كلمةٍ متبادلة بين مارثا وإنغريد. تدعوك حركات الكاميرا البطيئة والتأطير المغلق إلى الانغماس في كلِّ لحظة، وإلى الحفاظ على توتُّرٍ هادئٍ وتأمُّليٍّ طوال الفيلم تقريبًا. إن تضافر العناصر البصريَّة واللونيَّة والحوارات المتواطئة يجعل من «الغرفة المجاورة» عملًا قويًا من الناحية البصريَّة ومؤثرًا من الناحية العاطفيَّة. وقد أراد المخرج أن يمنح الموت الرحيم طابعًا إنسانيًا، ونجح في التقاط هذه الدقَّة برقَّةٍ ورهافة، وهو أمر يُعدُّ المخرج الإسبانيُّ خبيرًا مطلقًا فيه. 

لقد صنع بيدرو ألمودوفار فيلمًا عن الموت، ولكنه مشبعٌ بحبٍّ عميقٍ للحياة. ومع ذلك فإنَّ القدرة على الرحيل بكرامة، دون معاناة المريض أو محبِّيه، هو شيء يستحقُّ التأمل. يستندُ الفيلم إلى مشكلةٍ تمسُّ الجميع، ولهذا السبب يسهُل التماهي مع ما يقوله، بأسلوبه المعتاد وصوره المرئيَّة، وإن بنغمةٍ لونيَّةٍ مختلفةٍ قليلًا: زاهية، لكنَّها أكثر برودةً وهدوءًا، في قرار ينسجمُ تمامًا مع ما يُروى ويُعرض. بصريًّا يتمُّ دراسة الإطارات بعناية، حيث تنضمُّ إلى الشخصيَّات وتفصِلها، وتتغير وفقًا للموقف مثيرة مشاعر تتأرجح بين الخفة والقسوة. 

يتجه السرد في الفيلم بشكلٍ حاسمٍ نحو هاويةٍ وجوديَّة، ويذكرنا بكلمات كامو: «المعنى الحرفي للحياة هو أيُّ شيءٍ تتجنَّب به قتل نفسك». والمشروع جريءٌ للغاية لدرجة أنَّه ليس من المستغرب أن يواجه ألمودوفار بعض النكسات على طول الطريق. في بداية الفيلم، تظهرُ ذكريات الماضي في حياة شخصيَّة مارثا مثل الأغصان التي تطمس جذع القصَّة، والتي تتجذر شيئًا فشيئًا في العلاقة التي أقيمت بين مارثا وصديقتها إنغريد. نظرًا لأنَّهما ربَّما تشتركان، في الحياة الواقعيَّة، في الموضوعات التي تناقشانها في حواراتهما المكثَّفة. غير أنَّ مثل هذه القضايا لا تتعلَّق بالموت مباشرةً، بل بالمشاكل الشخصيَّة والاجتماعيَّة وحتى السياسيَّة التي يتركها الإنسان خلفه عندما يغادرُ الحياة. على أيِّ حال، فإنَّ ماضي مارثا كمراسلةٍ حربيَّةٍ يسمح لألمودوفار بنسجِ مجموعة من المعارك غير المرئيَّةٍ بخيطٍ غير مرئيٍّ تقريبًا: تلك التي تؤثِّر على الأمم وتحمل أسماء الحروب (فيتنام والعراق)، وتلك التي تحدثُ داخل العائلات وتولِّد الصدمات، وتلك التي لا يمكن لأحد تجنُّبها لاتصالها بحتمية القدر والموت. فيبدو لنا ألمودوفار من خلال ذلك كله مهووسًا بالطبيعة الدوريَّة الحتميَّة للموت. 

الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء - محمود درويش

في واحدٍ من أكثر المقاطع إثارةً للصدمة في رواية «ما الذي تمر به»، تصفُ الروائيَّة سيغريد نونيز كيف أنَّ القربَ من الموت يوقظ فيها "وعيًا حادًّا بكلِّ شيء: الضوءُ القادم من النافذة، رائحة القهوة وطعمها". هذا الإحساس المفرط، الذي يلامس حدود الإدراك المعزز، يتجلى بقوة في الفصل الختامي لفيلم «الغرفة المجاورة»، حيث تتصاعدُ مشاعر مصطنعةٍ في سينما ألمودوفار لدرجةٍ تجعل زقزقة الطيور أكثر وضوحًا، وتمنحُ الأسطح الملساء للأشياء ملمسًا يكاد يُحس، وتسمو بقيمةِ قبلةٍ على الخد لتغدو لحظةً مشحونةً بالمعنى.

في ظلَّ هذا التوهُّج الحسيِّ، يبدو أن الخلاص الوحيد الممكن هو "أن نتعلَّم كيفَ نطلبُ المغفرة وكيف نُصلِحُ بقدر ضئيلٍ الضرر المدمِّر الذي ألحقناه بعائلتنا البشريَّة والمخلوقات الأخرى والأرض الجميلة. أن نحب ونسامح بعضنا البعض بأفضل ما نستطيع، وأن نتعلم أن نقول وداعًا". يتحدث المخرج بيدرو ألمودوفار عن فكرته قائلًا: «إذا كان هناك شيءٌ نهائي، فهو الموت ومتعة الحواس، التي هي عكس الموت. على المستوى السردي، فإنَّ إدخال فكرة الموت ينشِّط القصَّة بأكملها، ويجعلُ الشخصيَّات تتفاعل لأنَّه شيءٌ متطرِّف».

لا يُفغلُ المخرج الإسباني الإشارة إلى قسوة الحروب التي لا تنتهي، ولا إلى الطرق المتباينة التي تتَّبعها الكاتبتان في مقاربة الواقع وكتابته. كما يتحدَّث عن المحبَّة والصداقة كأفضلِ حليفين في مواجهة الخوف والرعب، كضوءٍ خافتٍ في نفق الظلمة. وتأتي الإشارة إلى صباحٍ هادئ تُوقظه زقزقة الطيور في منزلٍ شيّد وسط محمية طبيعية في نيو إنغلاند، كمشهدٍ مضادٍ لكلِّ ما هو مدمِّر وفج. على امتداد الفيلم، يقدِّم ألمودوفار انعكاسًا صادقًا لمشاعرِ الوحدة والرغبة، من خلال حسِّه المعتاد في رصد تفاصيل النفس البشرية، وقراءته الدقيقة لسيكولوجيا الشخصيَّات. ورغم أنَّ الحبكة تتَّسم بالبساطة وتدور في فضاءٍ مكانيٍّ محدود، إلا أنَّ غنى الحوارات وعمق التفاعل العاطفي بين الشخصيَّات يضفي على القصَّة طابعًا مكثَّفًا ومؤثرًا.

يكتسب المنزل، الذي تجري فيه معظم أحداث الحبكة، طابعًا مزدوجًا؛ فهو من جهةٍ ملاذٌ يوفِّر الخصوصيَّة والسكينة، ومن جهةٍ أخرى فضاءٌ يعمِّق عزلة الشخصيَّات ويكثِّف مشاعر الانفصال. يتحوَّل هذا البناء، بتفاصيله الغنية ورموزه البصريَّة الدقيقة، إلى مرآةٍ تعكسُ العواطف المخبَّأة والصراعات النفسيَّة العميقة التي تعتمل في داخل كلِّ شخصيَّة. وتأتي النوافذ الكبيرة، التي تبدو في البداية كدعوة مشرَّعةٍ نحو الانفتاح والحرية، لتتحوَّل تدريجيًا إلى إطاراتٍ تحاصرُ التوتُّر الداخلي، وتحبسُ القلق غير المعلن والمشاعر المكبوتة. تُسهم الألوان النابضة بالحياة، وهي من أبرز سمات أسلوب ألمودوفار البصري، في صياغة بنيةٍ عاطفيَّةٍ ملموسة، تكشفُ هشاشةَ الشخصيَّات وتضخُّ في المشهد طاقةً حسيَّةً تعمَّق أثره. ومن خلال هذا التشكيل البصري المكثَّف، يتكشَّف السرد في صمت، دون الحاجة إلى كلمات، ممَّا يتيح مجالًا رحبًا للغوص في أعماق النفس، واستكشاف البنية السيكولوجيَّة للشخصيات بأدقِّ تفاصيلها.

في الختام، يُمكن اعتبار فيلم «الغرفة المجاورة» تمرينًا تأمليًّا فريدًا في مواجهة فكرة الموت، لكنه لا يُقدَّم من منظورٍ سوداوي، بل من خلال عدسةٍ مفعمةٍ بالحبِّ والتعاطف، بعيدةً عن الانفعاليَّة الزائدة أو الابتذال العاطفي. المدهش في هذا الفيلم أنَّه، وعلى الرغم من الصراعات التي يطرحها، يحملُ في طيَّاته راحةً غريبة، عزاءً ناعمًا يتسلَّل عبر التفاصيل. إنَّه إنجازٌ جديدٌ يُضاف إلى سجل بيدرو ألمودوفار، الذي ينجح هنا في مقاربة موضوعٍ معقِّدٍ وشائكٍ من زاويةٍ شخصيَّةٍ وإنسانيَّةٍ لا تخلو من التفرُّد. هذا ليس فيلمًا يسهل استيعابه أو التماهي معه بسرعة، وربما يكمن فيه سرُّه وهدفه، إذ يبدو أن ألمودوفار يعزفُ مرثيَّته الخاصَّة لبطلة قصَّته، دون أن يجد وسيلةً أصدق من السينما لوضعِها أمام أعيننا.

الفيلم في جوهره بيانٌ ضد الكراهية، دفاعٌ راسخٌ عن الحب غير المشروط في عالم يتصدَّره العنف وتكبِّله منظومات السيطرة على الجسد وكبتِ الرغبات. إنَّه عملٌ يلامسُ الحقَّ في الموتِ بكرامة، بقدر ما يلامس الحقَّ في الحب والاختيار. وإن لم تكن السينما قادرةً على أن تمنحنا عزاءً في مثل هذه الأوقات، فماذا يتبقَّى لنا؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى