لنفهم واقع الفيلم الوثائقي هذه الأيام نحتاج إلى أن نعود القهقرى لنذكّر بالجدل القديم الذي خاضه رواد الوثائقي بشأن تصورهم لبناء الفيلم الوثائقي وصِلَته بتفاصيل الحياة اليومية وبالرهانات التي كانوا يطرحونها على أنفسهم، فقد أعلن أغلبهم الالتزام بنقلها بدقّة تنشد الحقيقة وتنأى ما أمكن عن «زيف التخييل والإيهام» كما كنّا قد رأينا في ورقتنا السابقة «الفيلم الوثائقي: البدايات والبحث عن جمال الحقيقة العارية». يمكن لفيلم «البريد الليلي» (1936) -الذي يوثّق رحلات قطار البريد الليلي المستغل من قبل سكك حديد لندن عن تصوّر لجون غريرسون وستيوارت ليج أن يكون أنموذجًا لهذا التّصوّر، فكانت الكاميرا توجد في مكتب البريد في الخارج لتنقل لقطات للمتحاورين في الآن نفسه، وكانت تعتمد لقطات متوسطة ذات مقروئية حركية لتعرض تفاني العمّال وهم يقومون بمهامهم اليومية بإتقان وانضباط وتقترب من المحيّا لتصوّر الملامح وتلتقط انطباع الرضا والارتياح، وكانت توظف لقطات الغطس لتعرض صور القطار وعرباته الكثيرة المتلاحقة، ثم تدرج أخرى للمحركات، فتولّد منها مؤثرات درامية تساند فكرة السرعة والحرص على مصالح المتراسلين.
يكشف الإخراج إذن الإعدادَ الجيد لكل تفاصيل الفيلم. ولكنه يكشف أنّ الكاميرا قد فقدت عفويتها وباتت مقيدة بما أراد لها المخرجان من الأدوار، وأنّ الشخصية قد فقدت عفويتها، فتؤدي حركات معدّة مسبقًا وتتقمص دورًا في نهاية المطاف: فـ«البريد الليلي» في نهاية الأمر حكاية تُروى، فلا تستهدف الحقيقة وإنما توجّه رسالة ذات مضمون سياسي. والعودة إلى سياق إنجازه يكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء، فقد حدث ذلك في ظل انخفاض أجور العمّال بعد انهيار قوة النقابات البريدية مّما خلق مزاجًا عامًا يميل إلى الإحباط والتشاؤم، فكان فريق الإنتاج يمتدح، من خلفية ليبرالية، كفاءة النظام البريدي، ويردّ تميّزه إلى موظفيه «الصادقين والمجتهدين»، ويوكل تلك المهمّة إلى عدسة الكاميرا.
لكل هذا الترتيب الذي رافق الأفلام الوثائقية ارتفعت أصوات كثيرة تعلن أنّ ما يعدّ صرامة في نقل الحقيقة يضير بـ«المعالجة الإبداعية للواقع» ويعكّر صفاء الحقيقة نفسها، فالالتزام بالواقع والنأي بالفيلم عن نزعات التخييل يستوجب من وجهة نظرهم رفض استناد الأفلام الوثائقية إلى السيناريو الجاهز والإعداد المسبق لما سيُعرض أو سيُقال في الشهادات، فمثل هذه المعالجات تحوّل الشخصيات التي تعرض شهاداتها أو تعيش واقعها اليومي إلى ممثلين يتقمصون أدوارًا يضبطها المخرج على نحوٍ مّا كما أسلفنا بشأن «البريد الليلي».
من هذا المنطلق يعلن المخرج فرتوف معاداته لأفلام المغامرات الأمريكية لِما يراه فيها من ابتذال وسطحية وحبكات نفسية أو بوليسية، فعنده، لا يوجد فيها شيء من الفن السينمائي. وما مخرجيها غير «قطيع من لمامي الخرق الذين يتاجرون بالثياب البالية». ولكن هل بحق كان هؤلاء المناوئون مخلصين للحقيقة في ادعائهم؟ إنّ من يعود إلى أعمالهم الوثائقية يدرك أنّها لم تخل من ترتيب على نحو ما، وفيلم مثل «الرجل صاحب الكاميرا» يكشف عن خطط فرتوف الماكرة للدفاع عن الإيديولوجيا السوفييتية حينها أو للدفاع عن منزلته هو بين سينمائيي جيله باعتباره «الرجل صاحب الكاميرا» في نهاية المطاف.
بين هذا الجدل وراهن الفيلم الوثائقي اليوم قرن من الزّمان أو نحوه. ولا بدّ لهذه الفترة الطويلة جدًا مقارنةً بعمر السينما عمومًا وبالتحوّلات التكنولوجية والوسائطية المتسارعة التي تتأثر بها بعمق، من وقع على المقاربات النّظرية والإجراء على حد سواء.
تنزع الأفلام الوثائقية اليوم بجلاء إلى التخييل على نحو يكاد يعصف بهويتها. ولنأخذ فيلمًا كان له وقع على مستوى المشاهدات والتداول هو «لصوص البنوك: آخر السرقات الكبرى» (2022) Bank Robbers: The Last Great Heist للمكسيكي ماتياس غايلبورت، فقد اختار المخرج أن يعود بالمتفرّج إلى تفاصيل أكبر سرقات البنوك في الأرجنتين وأكثرها إتقانًا، فعرض مختلف تفاصيلها وجعلنا نعيشها من جديد، مع منفّذيها، بداية من دخول المصرف واحتجاز الرهائن إلى التوتر الشديد الذي يسود المنطقة بعد تدخل الأمن ومحاصرته لمحيط البنك إلى حصيلة عملية السطو المذهلة: نهب اللصوص لمحتوى 143 صندوقًا ودائع تحتوي على مبلغ 95 مليون دولار. ووجه الإدهاش في هذا «القص الوثائقي» أنّ اللصوص تبخروا، فلم يجد لهم الأمن الذي يحاصر البنك من جميع الجهات وينشر القناصة على الأسطح، من أثر. أين ذهبوا؟ كيف استطاعوا أن يغالطوا الشرطة؟ هل ابتلعتهم الأرض أم تحوّلوا إلى أشباح؟ ذلك هو الأسلوب الفنّي المبتكر للسرقة الذي يبحث عنه الرسام اللصّ فرناندو أراخو لتخليد اسمه بين العباقرة العظماء عبر لوحة مبتكرة! وبالفعل فقد استطاع أن ينتزع الإعجاب لتغدق عليه وسائل الإعلام المديح على ما أقدم عليه بدل إدانته، وتعترف بعبقريته، فما خطّط له «عمل مدهش حقًا» أو «أروع عملية سطو في تاريخ الأرجنتين» و«عملية سطو القرن»!
ولكن ماذا يبقى من الفيلم بعد الفرجة؟ وما الرسالة التي عمل على توجيهها؟ نجد أنفسنا أمام فيلم يستهدف التسلية وعرض المغامرات المذهلة لا أكثر، فينخرط في التوجّه الاستهلاكي لسينما التّوثيق الذي فرضته منصّات العرض على الإنترنت تلبيةً لانتظارات جمهور تصوغ فيديوهات التيكتوك والإنستغرام ذائقته وتأخذه بعيدًا عن التقاليد الذائعة في تقبّل الوثائقي.
ندرك جليًا أن الفيلم الوثائقي يختلف حسب الموضوعات والمبدعين. ولكن قلّما ننتبه إلى أنه يتغيّر حسب العصور وما فيها من معطيات موضوعية أيضًا. الوثائقي اليوم يختلف جوهريًا عن التحديدات «المثالية» التي عرضها جون غريرسون منذ قرن تقريبًا، فمادته باتت تجافي ما اصطلح عليه بنقل الحقيقة، وتحاول اختلاق الوضعيات عبر أساليب السرد. ونابت عن فكرة النضال والالتزام توسيع مدارك المعرفة والفهم الإثارةُ، فحبكة الأفلام التي تشاهد على منصات البث في الإنترنت تقول على حبكات تدعم التشويق والمغامرات وفتنة السرد لا البحث عن الحقيقة أو التفكير في وجوهها المختلفة أو اتّخاذ موقف من الواقع. صحيح أنّ الاختلاق في السينما الوثائقية ظهر مع أفلامها الأولى، ولكن شتان بين ما كان يرمي إليه فلاهرتي وما ترمي إليه أفلام اليوم. ولعلّ ذلك أن يفضي بنا إلى انتفاء الشرط الأخير الذي وضعه جون غريرسون ضمن فهمه للأفلام الوثائقية، وهو أن تناضل هذه دفاعًا عن الأفكار بعيدًا عن هواجس الربح المادي فيما تهدف هذه المنصات إلى جمع أكبر قدر من المال. لذلك يرى أورسن أوتشك أن الأفلام الوثائقية الجديدة تمثّل النسخة المعاصرة من رواة القصص والحكايات الذين عرفهم العالم في الماضي، أولئك الذين كانوا يدونون القصص الشفوية التي يسمعونها من رواة مجهولين، فمنذ بداية القرن العشرين أصبح مخرجو الأفلام الوثائقية يستخدمون الأجهزة لكتابة تلك القصص في لغة سمعية بصرية، وكما تضاءلت القصص المنقولة شفويًا في عصرنا، وأصبح تدوين القصص يتم على نحو أكثر تقدمًا واحترافية، تطورت الأفلام أيضًا.