عند رغبتك في مشاهدة فيلمٍ للمخرج كريستوفر نولان، تستطيع أن تتوقَّع مستوى معيَّنًا من الإخراج والتصوير، ولديك تصوُّرٌ معيَّنٌ عن اللقطات والموسيقى التصويريَّة، أما الأهمُّ فهو انتظارك لشيءٍ ما مرتبطٌ بعلم الفيزياء، سواء كان ذلك على هامشِ الفيلم أم كان الفيلم برمته مبنيًا على نظريَّات أو فرضيَّات فيزيائيَّة، الفيزياء التي يمكن اعتبارها هاجسًا شخصيًا للمخرج، إذ بُنيت عليها كثير من أفلامه، وعليه كان «مشروع مانهاتن» فرصةً مناسبةً لنولان لتقديم شرحٍ مبسَّطٍ لتحوُّلات الفيزياء بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من خلال شخصية «روبرت أوبنهايمر» لإظهار عبقريته واستثنائيته من جهة، واضطرابه وارتباكه من جهة أخرى، فكان القسم الأول من الفيلم، والذي استغرق قرابة الساعة، فرصة نولان للتعبير عن حبِّه وشغفه بالفيزياء عبر تقديم مدخلٍ سينمائي مميَّز للنظريَّات الفيزيائيَّة الحديثة التي قادت إلى صنع أكبر كارثةٍ عاشتها البشريَّة، فاستعرضت مقدِّمة الفيلم بصورةٍ سريعةٍ الفيزياء النظرية، والنظرية النسبية وفيزياء الكم، كما أشارت تلميحًا إلى نظريَّات الثقوب السوداء والأوتار الفائقة، وكأن نولان اختار موضوع الفيلم ليستعرض الفيزياء بصورةٍ فنيَّةٍ ساحرة، نجح فيها تمامًا فأنتج تحفةً سينمائيَّةً وفيزيائيَّةً لن تُنسى، تضمنت الحديث عن أبرز النظريات الفيزيائية النسبية، والكم أو «الكوانتم»- من خلال علماء الفيزياء الأبرز على الإطلاق ألبرت آينشتاين ونيلز بور.
هنا يمكن تقسيم الفيلم إلى ثلاثة أقسام، المرحلة الأولى التي تتناول الخلفيَّة العلمية الأكاديميَّة لأوبنهايمر ومراحل الدراسة وسماته الشخصيَّة، التي يظهر من خلالها في صورة العبقري المضطرب الذي يعرف أنَّه عبقري، ويعرف كلُ من حوله أنَّه عبقري ومضطربٌ نفسيًّا، ثم القسم الثاني والذي يتناول مشروع مانهاتن وحقبة «لوس ألاموس» وصناعة القنبلة الذريَّة، وهذا الجزء يتحدث عن صراعات العلماء ونقاشاتهم والتداعيات السياسيَّة لصناعة القنبلة، وهو بمثابة جسر المرور للقسم الأخير الذي يتناول الصراعات السياسية حول أوبنهايمر ومشروع مانهاتن ومخرجاته ومستقبله، وهذا القسم يمكن أن يكون من لحظات «الأكشن» التصاعديَّة والحماسية في الفيلم، دون رصاصة أو تفجيرٍ أو سلاح أبيض، وإنما من خلال المكائد والحوارات وجلسات الاستماع في الكونغرس والتحقيقات الفيدراليَّة التي تدور حول أوبنهايمر بعد أن تتصاعد انتقاداته للحكومة الأمريكيَّة ومشروعاتها الذريَّة والمرتبطة بالقنبلة الأعظم من القنبلة التي اخترعها أوبنهايمر (القنبلة الهيدروجينية) التي يُتهم بإعاقة تصنيعها.
يُعتبرُ «أوبنهايمر» (Oppenheimer - 2023) من الأفلام التي أثارت كثير من الضجيج حولها، فتقريبًا وباستثناءات محدودة، تراوحت ردود الفعل بين الاحتفاء والرفض بلا آراء وسطيَّة، وهذه طبيعة الأفلام الجيدة، فهي تثير ردود أفعالٍ متباينةٍ وكثيرًا من الجدل والحوارات، وهذه قيمةٌ من قيم الفن. ومن الملاحظات التي كررها نقاد الفيلم بكثرةٍ أنه لم يشجب ويُظهر فظاعة استخدام القنابل الذرية ضد اليابان، وأن هدف الفيلم تلميع مشروع مانهاتن وتبرئة اسم روبرت أوبنهايمر مدير المشروع من الكوارث التي نتجت عن استخدام القنبلة الذرية، وكأن هؤلاء الكتَّاب والنقاد كانوا يبحثون عن بيان سياسي لا فيلم سينمائي تضمَّن رؤيةً سياسيةً وأحداثًا وحواراتٍ متخيَّلة بقدر تناوله لشخصيةٍ وحدث تاريخي، ولو جاء الفيلم على هيئة بيانٍ سياسي لاعتُبر عملًا مبتذلًا فاقدًا للقيمة الفنية، فالفيلم قدَّم رؤيةً سياسيَّةً من لحظته الأولى حتى لقطاته الأخيرة، تضمنت مكائد دوائر صنع القرار الأمريكية، وحمَّل ذنب استخدام القنبلة الذرية على كاهل الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي وصف أوبنهايمر بـ«الطفل الباكي» بعد أن قال له الأخير: «أشعر بأن يدي ملطَّخةٌ بالدماء»، وهذا تصوُّر له وجاهته، فالعالم يذكر ترومان أكثر من أوبنهايمر.
لم يبرِّئ الفيلم أوبنهايمر ولم يُظهره بصورة البطل فضلًا عن تلميع صورته، بل أظهره بهيئة عالِم الفيزياء العبقري والمرتبك أمام كلِّ ما هو خارج الفيزياء، فهو مضطربٌ اجتماعيًا، متقلِّبٌ فكريًّا وسياسيًّا، لا يعرف ماذا يريد، ضعيفٌ أمام رغباته ومخلصٌ لعمله العلمي بلا بوصلةٍ قيميَّةٍ أو أخلاقيَّة، وبهذا الضمير المتأرجح ما بين الخوف من انتصار النازية في الحرب (وهذه مسألةٌ شخصيَّةٌ لأوبنهايمر نظرًا لأصوله اليهوديَّة) والخوف الذي لا يمكن أن يغادر إنسانًا يسعى لصنعِ قنبلةٍ قد تدمِّر البشرية، نجد أنَّ قائد أخطر مشروعٍ في تاريخ الإنسانيَّة متردِّدٌ ومرتبكٌ ولا يختلف عن أيِّ إنسانٍ مُحتارٍ أمام خياراتٍ متصارعةٍ يستحيل التوفيق بينها في الحياة، لكنَّه يتجاهل كلَّ التحذيرات التي تُوجَّه إليه والتي يعيها تمامًا. ثم يتْبع لحظات التجاهل شعورٌ بالعار والندم ومحاولةٌ للتخلص من الذنب بطريقة تطهُّرية تكاد تكون دينيَّةً بعد استخدام القنبلة الذريَّة وقتل عشرات الآلاف من البشر، وكأنَّه يريد أن يُصلب إعلاميًا لتُغفر ذنوبه - التعليق الذي تذكره زوجته «كيتي» - وتبقى دوافعه مرتبكة حتى النهاية، فالفيلم أظهر أوبنهايمر بصورة الشخص العاجز عن حسم أيِّ شيء في حياته، والشخص الذي يمكن تعداد عيوبه دون أن تكون له فضائل تذكر، باستثناء عبقريَّته العلميَّة.
من الأمور المثيرة للانتباه في سردية الفيلم هو أنَّ الحوارات التي تدور بين أهم عالِمَين فيزيائيين في تلك الحقبة، بل الأهم على الإطلاق (وأعني ألبرت آينشتاين ونيلز بور)، وبين أوبنهايمر هي حوارات سياسية وليست فيزيائية، فالحوارات القصيرة والمحدودة بينهما وبين أوبنهايمر تركِّز على فكرة الدمار الشامل الذي سينتج عن مشروع مانهاتن الذي يقوده، وحتى عندما يتساءل أوبنهايمر عن افتراضيَّةٍ مهمَّةٍ حول الانفجارات اللانهائية التي يمكن أن يُحدثها التفجير النووي للغلاف الجوي، والذي قد ينتهي إلى دمارٍ نهائي للأرض، لا يجيب آينشتاين بعد أن يقرأ المعادلات التي تُبنى عليها هذه الفرضية، فهذا يبقى احتمال، إلا أن دمار الأرض بسبب انتشار القنابل الذريَّة عند قوى سياسيَّة متصارعة يبدو يقينيًا، إضافة إلى معارضة آينشتاين لفرضيات فيزياء الكم التي ترجِّح الاحتمالات على اليقين، الأمر الذي لا يروق لآينشتاين صاحب العبارة الشهيرة: «الرب لا يلعب بالنرد».
تتكرر هذه الحوارات طوال الفيلم، فيسأل نيلز بور عن القنبلة: «هل هي كبيرة بما يكفي؟». يجيب أوبنهايمر: «لتنهي الحرب؟». يرد بور: «لتنهي جميع الحروب»، إلا أن الأمر لا يسير على هذا المنوال. يقول أوبنهايمر في أحد حواراته مع بور: «أنت لا تستطيع أن ترفع الحجر دون أن تستعد للثعابين تحته»، وهنا يأتي تعليق بور الأهم: «يجب أن نجعل السياسيين يعلمون أنَّنا لا نتحدث عن سلاحٍ جديد، بل عن عالمٍ جديد». وهنا نتحدث عن عالم يكون فيه الدمار الشامل للبشرية أمرًا ممكنًا، هذا التهديد الذي يحاول البشر تجاهله منذ 1945م حتى اليوم رغم أنه الشبح الذي يطاردهم ويهدِّد وجودهم مع اندلاع أي صراعٍ سياسيٍّ بين قوى تملك أسلحةً ذريَّة، الخطر الذي كان العلماء العاملين في مشروع مانهاتن وخارجه على درايةٍ به، فعلى سبيل المثال، وفي اللحظة التي يعرض أوبنهايمر فرصة العمل في المشروع على «إيسيدور رابي»، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1944م، تكون إجابته الرفض قائلًا: «تسقط القنبلة على العادلين والظالمين دون تمييز. لا أريد أن تتحول ذروة ثلاثة قرون من الفيزياء لتنتج سلاح دمار شامل». لكن هذا الموقف لا يصمد طويلًا أمام تذكير أوبنهايمر لرابي (ذي الجذور اليهودية) عما يمكن للنازيين فعله لو صنعوا هذا السلاح أولًا، فيلتحق بالبرنامج في نهاية المطاف. هنا يكون الهلع من النازيين دافعًا لصناعة أخطر سلاحٍ في تاريخ البشرية، بل صناعة «عالمٍ جديد» على حدِّ تعبير نيلز بور.
هنا نصل إلى سؤالٍ مركزي وهو: لماذا يستمرُّ أوبنهايمر في مشروع مانهاتن حتى النهاية رغم كلِّ هذه التحذيرات التي تُوجَّه إليه من خطورة ما يقوم به؟ وجواب هذا السؤال يرتبط في تقديري بثلاث نقاط، الأولى قناعة أوبنهايمر أنَّه إذا لم يطوِّر قنبلةً ذريَّةً سيقوم بالمهمة علماء آخرين، ما يعني إمكانية وصول ألمانيا النازية إلى هذا الاكتشاف قبل الأمريكيين والحلفاء، والسبب الثاني يتعلق بهوس العالم بأفكاره، فشخصيَّة أوبنهايمر المضطربة والمهووسة بالفيزياء يهمها معرفة نتائج النظريات التي يطورها، وهنا تأتي مفارقة كبرى في حياة أوبنهايمر، فعالِم الفيزياء النظرية الفاشل في المختبر، ينجح في النهاية بأن يرى تطبيقات أفكاره في مختبرٍ أكبر مسرحُه العالم (هيروشيما وناغازاكي) أما النقطة الثالثة فتتعلق بوعي أوبنهايمر بهويَّته اليهودية والتي تبرز على الأقل في ثلاثة مواضع بالفيلم، الأولى عند لقاءه الأول بـ«اليهودي» لويس ستراوس، عندما يُعلِّق أوبنهايمر بعد تعريفه بنفسه قائلًا: «مهما غيرت في نطق "أوبنهايمر" سيعرف الجميع أنني يهودي»، ثم في نقاشه في القطار مع إيسيدور رابي عندما يلومه رابي على عدم تعلمه اللغة العبرية مع أنه تعلَّم الهولندية في ستة أسابيع، فيدور نقاش عن الهوية اليهودية في عمقه، وأخيرًا في نقاشه مع الفيزيائي الأمريكي «إرنست لويس» عندما يقول أوبنهايمر منفعلًا: «إنهم ليسوا شعبك المحتجزين في مخيمات الاعتقال (النازية)، إنهم شعبي».
كان جزءٌ مهمٌّ من الفيلم ومن حياة أوبنهايمر محاولةَ الحشد السياسي من أجل التوصل إلى تفاهمٍ دوليٍّ بخصوص القنابل الذرية، ففكرة العالم الجديد الذي صنعته القنبلة الذرية، ويقينية الدخول في سباق تسلُّحٍ عالميٍّ ذريٍّ يقود لصناعة المزيد من القنابل وتطويرها وصولًا إلى قنابل أكبر وأخطر مثل القنبلة الهيدروجينية، هذه أخطار تحققت فعلًا في سياقات الحرب الباردة، إلا أن حديث نيلز بور في حواره مع أوبنهايمر عن «إنهاء جميع الحروب» أخطأ وأصاب في الوقت نفسه، فاليوم، وبعد قرابة ثمانية عقود على استخدام السلاح الذري لأول مرة، نستطيع أن نعرف معنى العالم الجديد الذي صنعته القنبلة الذريَّة، فالردع المتبادل بين الأمم حال انتشار القنابل الذرية لا يزال قائمًا، وعلى الرغم من انتشار السلاح الذري بين عدة دول، بعضها «مارق» بالمعايير الأمريكية، فإن حالة الردع العالمي صمدت طوال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فلم يندلع بين الجانبين حرب مباشرة تقليديَّة أو غير تقليدية، فعندما تُبادر دولة باستخدام قنبلةٍ ذريَّةٍ تعلم أن احتماليَّة وقوع ردٍّ ذري مزلزِلٍ يقينية، وهذا ما جعل الطرفين يفتحان «خطًا ساخنًا» بين البيت الأبيض والكرملين إبان أزمة خليج الخنازير عام 1961م لتجنب الدخول في حربٍ نووية سببها سوء الفهم أو ارتباك في التواصل.
لا يزال مفهوم الردع الاستراتيجي قائمًا اليوم، فهذا ما يمكن أن نراه في الصراع الباكستاني–الهندي منذ نهاية حروبهم التقليديَّة الثلاثة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فلم تقم بين الجانبين حرب تقليدية أو غير تقليدية منذ أن دخلت الدولتان نادي الدول النووية، الأمر الذي يمكن أن نراه أيضًا اليوم بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين روسيا والدول الأوروبية النووية (المملكة المتحدة وفرنسا)، لكن هل سيصمد اعتبار السلاح الذري سلاحَ ردعٍ للأبد؟ لنتذكر أن هذا السلاح المدمر اُستخدم من قبل، وتطور أضعافًا مضاعَفة عن نسخته الأولى الساحقة، ويمكن أن يُستخدم في أي لحظة وفي أي مكان بضغطة زر، فالطفل الباكي نجح في نهاية المطاف أن يكون مدمرًا للعوالم بعد أن سرق نار «بروميثيوس» وحوَّلها إلى جحيم أبدي ممكن، على غرار عالم الاحتمالات في فيزياء الكم.