كانت الساعة والدقائق الثلاث والعشرون التي قضيتُها بصحبة الفيلم السعوديّ «سِوار» (2025) من أفضل الدقائق التي قضيتها مع السينما السعوديَّة، تِلك اللحظات التي عكست أُفق سماء بادية نجران وزرقة البنفسج في الغروب، حيث لا يقطع السكونَ سوى نداء الإبل. إنَّه لَعمَلٌ سينمائيٌّ فريدٌ في التصوير أبدعه بلال البدر، وقد نجح في أن يعيدنا لسكينةٍ أضحت اليوم بعيدةً عن معظمنا في بطون المدن.
استُوحيَ الفيلم من قصَّةٍ حقيقيَّة: إذ جرى تبديل صبيَّين حديثيْ الولادة عام 2003 للميلاد، أحدهما تركي الجنسية والآخر سعودي، لكنَّني هنا لا أتحدَّث عن الشخصيات الحقيقيَّة التي تسكن الواقع بأيِّ شكلٍ من الأشكال، بل عن الحبكة الدراميَّة والشخصيَّات الخياليَّة التي استوحاها الكاتب والمخرج أسامة الخريجي، إذ استطاع الإفادة من حادثة تبديل الصبيين كي يقوم بإبدالٍ إبداعي من خلال ثنائيَّة المكان واللغة التي ميَّزت الفيلم، مما مثَّل تحديًّا واجهه طاقم العمل بشجاعةٍ وذكاءٍ دونما تفريطٍ بأيٍّ من العنصرين التركي أو السعودي. وقد تجلَّى ذلك بوضوحٍ في أداءات ممثلات «سوار» وممثليه؛ على الأخص سارة البهكلي في دور نورة "أم علاوي".
للمكان ذاته حكايته في الفيلم، ففي القسم الأول حيث تجري الأحداث في تركيا يتم التركيز على بيئة الداخل، مثل المنزل التركي التقليدي لأسرةٍ من الطبقة المتوسطة: المطبخ والغسالة في البلكونة، غرفة نوم الابن وألعابه المتناثرة التي يجمعها الأب بعناية، وسريرٌ ينام فيه طفلٌ يعانق أمه… عناصر اُلفةٍ محليَّةٍ تُشعرنا بأنَّنا لامسنا تفاصيل الحياة الحميميَّة لأسرة الابن الضائع يعقوب (يوسف ديميروك)، فوجدناه يحتمي في كنفِ حضن أمٍّ لا تسمح لرجلٍ بالوقوف بينها وبين ابنها، ولو كان ذلك الرجل أباه.
يعقوب هو الابن الذي أبعده القدر عن ملاعب ومرابض إبل أسرته تحت سماء نجران حيث يلعب علي (علي آل شكوان) بكلِّ حريَّة، إذ ليس بينه وبين الأفق حجاب، لا ناطحات سحابٍ ولا طوابق المباني السكنيَّة؛ سماءٌ عالية مَهيبة تشبه في علوِّها روابط حبٍّ وودٍ أساسهما المهابة. إن عليًّا هنا ليس طفلاً في الثامنة، بل هو بالأحرى رجلٌ تحت التَّنشئة حاملًا خنجره في كلِّ مكان، "رجَّال وشيخ" كما نقول لصغارنا من الصبيان أحيانًا، وحفيدُ الشيخ الأحبُّ، فهو -أي علي- بوسعه أن يحذِّر بصرامةٍ الرجال البالغين حوله ممَّن خرج عن قواعد جدِّه وفعل ما لم يصح (كتدخين السجائر)، وهو المنتصر لأبيه لو ساوره مجرَّد شكٍّ بأنَّ رجلًا آخر أساء إليه، «قولي يابه يابه» يلحُّ علي مناجيًا أباه حين رأى على وجهه الكدر. وهو أشبه بظلٍّ لعمِّه الملاصق له، عمُّه الذي يعطره بعطره ويلف غترته على رأسه فيتبعه الصبي من مربض الإبل حتى محفل العرس. أمَّا بالنسبة لوالدته، فإن عليًّا يحبها وينفِّذ تعليماتها، ولعلَّه يخافها قليلًا، وتحب نورة ابنها وإن كانت تنهره أحيانًا بقولها: «وجع!»، تحبُّه حدَّ الجنون، فراحت تنثر التراب على رأسها حين خافت أن ينتزعه أحدٌ منها، تحبُّه وتتركه يلعبُ مع الصبيان، يَضرِب ويُضرَب، تحبُّهُ وتتركه في صحبة أبيه وجدِّه وعمِّه آمنةً مطمئنة، تحبُّه ولا تفهم لمَ تفزع نظيرتها التركية فاطمة (توغتشي يولجو) حين يتعارك الأطفال.
لا تعكس هذه الثنائيَّة الثقافيَّة في نظري ثنائيَّةً سعوديَّة-تركيَّة بالضرورة، بل يمكن رؤية ما يشبهها إن قارنَّا بين المدينة والقرية، البادية والحاضرة، الماضي والحاضر، وبين الأجيال السعوديَّة ذاتها، باختلاف الاعتقادات فيما يتعلَّق بالتنشئة والأسرة وأنماط الذكورة والأنوثة وتأثير ذلك على الاقتصاد من حيث عمَلِ الأم خارج البيت من عدمه وغير ذلك، فتوجد فاطمة سعوديةٌ ويوجد ينار سعوديٌّ بلا شك.
بين أمومة تحتضن الصبي وأبوّة تورثه الرجولة أولًا
ينار هو الأب التركي، الشخصيَّة التي أطلقت سلسلة الأحداث المتعاقبة، فهو كرجلٌ لم يستطع التعايُشَ مع الشكِّ من احتماليَّة أن يكون الابن الذي سيورثه اسمه ورجولته ليس من صلبه، وهو ما لم يكن ناتجًا عن غيابٍ لمشاعر الحب الأبوي تجاه ابنه يعقوب، بيد أنَّ إثبات أبوَّته لابنه كان هاجسًا لم يفارقه، فمنذ البداية، وحتى قبل وجود اختبار الحمض النووي، كان ينار يُصارع الشكوك. وعليه، يسافر ينار إلى نجران باحثًا عن ابنه ويلتقي به أخيرًا بعد بحثٍ مضن، فيكتشف أن مغبّةَ المسافة والثقافة تهون بإزاء عواقب أخرى، إذ كان من الصعب أن يُنافس الرجال حول علي على عاطفته كابن والأهم على احترامه له كرجل، بذلك الإعجاب الذي نراه عادةً في عيون الصبية الذين يرون في صورة أبيهم الرجولة الكاملة.
لا تتوقف الثنائيَّات في حدود تبديل الصبيَّين أو ثقافة المكانَين وحسب، بل تغوص إلى نفوس الأهل من الجانبين: ففي حين لا تمانع فاطمة التركيَّة أنَّ عليًّا وجد في نورة السعودية أمًّا أخرى ولا تمانع نورة أن يعقوب وجد أمًّا في فاطمة، في تقابلٍ بين أمومةٍ تحتضن بلا تحفُّظاتٍ وأبوَّةٍ تحاصرها هواجسُ وأسئلة لا تنتهي يعيشها كلٌّ من الأبوين حمد (فهيد الدمناني) وينار (سيكان جينتش). لذلك نلحظ هواجس ينار منعكسةً على محياه، في مشهدٍ من المشاهد، بعد أن عبَّرت زوجته عن راحتها واطمئنانها للوضع الحالي بعد أن التقت عليًّا وعاد معها في زيارةٍ لتركيا: "أصبح كلُّ شيءٍ على مايرام"، تقول له تاركةً إيَّاه وحيدًا دون أن تلحظ وجوم وجهه.
قد يميل المشاهد إلى الأب السعودي حمد كصورةٍ أصيلةٍ بارزة للرجل والرجولة بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى من شهامةٍ وشجاعةٍ ووجاهة؛ وقد تفهَمُ هواجسه بسهولةٍ أكبر من نظيره التركي؛ «ماعرفت أتخلى عن هذا ولا أثبت نسب ذا» كما عبَّر عنها في أحد المشاهد؛ إلَّا أنَّ ينار يعكس أيضًا أنماطًا من الرجولة في مواضع أخرى، فحتى وهو يصارع الشكوك، لم يدع مساوئ الظنِّ تنال من شرف زوجته وشرفه هو بالتالي، وهو وحده المعيل لأسرته التي يحميها من العوز والحاجة في غياب شبكة التكافل الاجتماعي للأسرة الممتدَّة التي تحمي نظيره السعودي، ودون أن تشاركه زوجته العبء، وهو من شجَّع أسرته وتكبَّد تكاليف نقلها إلى نجران في فترة التعرُّف على الأسرة السعوديَّة، وهو الأب الذي ينتصر لابنه يعقوب بشجاعةٍ مواجهًا نفاق الأقرباء، وحتى في مسائل صوريَّة كثيرة نراه باستمرارٍ في موقفِ القائد لأسرته بشكلٍ تقليدي. فمثلاً، هو من يقود السيارة دائماً لا زوجته. الجدير بالذكر أنَّه وفي السياق التركي الثقافي المتنوِّع يُمثل ينار صورةً أقرب للرجل لبيئاتِ بعض مدن الجنوب الشرقي ومنطقة البحر الأسود وأكراد تركيا، والذي يمكن أن نعتبرهم أكثر محافظةً على الأنماط التقليديَّة في الأسرة وأدوار الذكورة والأنوثة؛ وإن كانت مثل هذه الافتراضات مثارًا للجدل بطبيعة الحال.
أخيرًا، هذه ليست تفسيراتٍ للفيلم بل هي تأمُّلاتٌ نجح هذا العمل الرائع في تحفيزها، ابتداءً من ثيمته الأساسيَّة؛ ولنسأل، جدلًا: ماذا لو كان الطفلان طفلتَين مثلًا؟ ما الذي سيطرأ على الفيلم لو كنَّ إناثًا وكيف ستتغيَّر هذه الحكاية؟ إنَّ القصة في نظري ليست قصَّةً عن سؤال الطبيعة أم التنشئة، بل هي قصَّةٌ عن أبوَّة الصبيَّين تحديدًا وعن الرابطة بين الآباء والبنين.
تجسَّدت ذروة الفيلم، إن فهمناه على هذا النحو، في المشهد الذي وصل فيه ينار محمَّلًا بالهدايا للقاء ابنه علي وبينما يرقبه الصبيانُ من على السطح، علَّق أحدهم «شوفو أبو علي التركي جاب له هدايا» حينها انهال علي بضرب ذلك الصبيّ قائلًا: «أنا ماقلت لك!! ابوي حمد وجدي صالح!». إذن، يتمسَّك علي بأبيه وجدِّه ونسبه وهويته حتى النهاية كما حكمت بذلك تنشئته العربيَّة السعوديَّة. هكذا يظل علي ابن حمد حتى النخاع وإن لم توجد رابطة دم، وقد قالت العرب: الابنُ سرُّ أبيه.